31/05/2019 - 16:16

ثلاث ملاحظات على الوضع السياسي الراهن

أن تضطرب المنظومة السياسية لنظام يستعمرك وينشغل قباطنته بأزماتهم الداخلية وصراعاتهم الحزبية والشخصية، أمر إيجابي؛ بل إنّ المستعْمَر، كما المستعْمِر، يسعى، ضمن إستراتيجيته في مواجهة الخصم، إلى إحداث شرخ أو شروخ في صفوفه.

ثلاث ملاحظات على الوضع السياسي الراهن

أولًا: الساحة الانتخابية الإسرائيلية

أن تضطرب المنظومة السياسية لنظام يستعمرك وينشغل قباطنته بأزماتهم الداخلية وصراعاتهم الحزبية والشخصية، أمر إيجابي؛ بل إنّ المستعْمَر، كما المستعْمِر، يسعى، ضمن إستراتيجيته في مواجهة الخصم، إلى إحداث شرخ أو شروخ في صفوفه.

إن فشل بنيامين نتنياهورئيس حكومة الأبرتهايد، الذي خرج من الانتخابات قبل شهر ونصف منتشيًا، في تشكيل حكومة، وإجراء انتخابات عامة ثانية خلال أقل من نصف سنة، على خلفية خلاف أو اختلاف، له طابع شخصي أكثر من أي شيء آخر، مع ورئيس حزب "يسرائيل بيتينو"، أفيغدور ليبرمان، يعكس انحطاط السياسة في الكيان الاستعماري. أمّا بخصوص الموقف تجاه الخارج، فتغيب الفوارق بين ما كان يُميّز أطياف المنظومة السياسية الصهيونية عن بعضها، خاصّة في ما يتعلق بشكل حل القضية الفلسطينية.

وقد وسمت الهمجية، بل البهيمية، حملة الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، في النظر والتعامل مع الشعب الفلسطيني، وخاصّة شعبنا المحاصر والمجوّع في قطاع غزة. فليبرمان نفسه، استقال من منصبه وزيرًا للأمن، بعد عام على تسلم منصبه، على خلفية عدم إقرار خطته بتدمير حركة المقاومة وقيادتها وحاضنتها الشعبية، لأنّ خصومه يَرَوْن لذلك تكلفة كبيرة، ويفضلون إستراتيجيات تدميرية أخرى، تعزز الانقسام الفلسطيني. أما رئيس "اليمين الجديد"، نفتالي بينت، الذي أخفق في تجاوز نسبة الحسم، فقد سعى وطالب بتسلم هذه الحقيبة الدموية، وتباهى في استعراض خططه الوحشية. أما ائتلاف الجنرالات، "التنابل" على حد وصف شخصية إسرائيلية معروفة، فقد كانوا استهلوا دعايتهم الانتخابية ضد نتنياهو، بالدخول إلى سوق المزايدات بمقطع فيديو يظهر كيف نفذ رئيس هذا الائتلاف ("كاحول لافان") حربًا تدميرية لأحياء في مدينة غزة، كاشفًا بذلك عن توجهه البهيمي.

وكانت حمأة خصوم نتنياهوتركّزت عليه شخصيًا وعلى فساده، وبعضها على خضوعه للمتدينين، وتحريضه المنهجي ضد المعارضين له. أما تحريضه المحموم والمنهجي ضد الأحزاب العربية وضد المواطنين العرب، فلم يكن ذَا شأن أبدًا بالنسبة لمنافسيه، بل أكثر من ذلك بعضهم، أيضًا، زاود عليه في هذا المضمار. كلهم تحدثوا عن رغبتهم بإسرائيل القوية، اليهودية، الموحدة، في مقابل ما سببه نتنياهومن أذى لصورة إسرائيل ومناعتها الداخلية. كل ما أنجزه نتانياهو، من استقطاب التاجر الأهوج دونالد ترامب، واستقطاب عربان الخليج، وتعزيز علاقاته الاقتصادية والأمنية مع حكام دول كبرى، مثل روسيا والهند وغيرها، لم يردع خصومه عن مواصلة حملتهم ضده شخصيا، وسلوكياته.

لكن رغم كل ذلك، فإن كل هذا "التقاتل" والتشاجر الداخلي، ليس محوره الأيديولوجيا البدائية التي يقوم عليها الكيان، أيّ الصهيونية، وهي دين القبيلة اليهودية المستوطنة والمستعمرة لوطن ليس لها. ولا يشي هذا التشاجر بتحول أو انفراج نحو أصحاب الوطن المسلوب. إنه اختلاف، وليس خلاف، على وجه إسرائيل وصورتها أمام العالم. طرف يريد استعادة الرتوش التي كانت تزين المشروع الاستعماري، بعد أن أزالها الطرف الآخر، بتأثير سكرة القوة وترسخ الرؤية التوراتية لأرض إسرائيل، فلسطين، وطرف آخر يسعى لتحقيق أهدافه الدموية دون أي اعتبار لأي أحد ولأي معيار. والطرف الأول يعتقد أنّ مواصلة هذا النهج يهدد ليس فقط مكانة إسرائيل في العالم، بل وجودها كدولة يهودية. مع ذلك، يتفق الطرفان (أي الكل الإسرائيلي) على أن حملة المقاطعة الفلسطينية، BDS، تشكل مصدر إزعاج حقيقي، حاليًا، وتهديدًا إستراتيجيًا على المستوى البعيد.

وهنا تتجسد أحد وجوه القصور الفلسطيني (الرسمي) الفاجع في التعامل مع الواقع الإسرائيلي وواقع الصراع.

وهذا القصور يتجلّى في مواصلة اعتماد النهج الانتظاري، والرفض اللفظي، وهو الوجه الآخر لنهج المفاوضات العبثية الطويلة التي توقفت منذ سنوات دون استنتاج الخلاصة العملية من كل هذا الفشل الكارثي. أمّا التمترس في رفض إنهاء الانقسام فهو الكارثة بعينها. وهنا يتحدى السؤال الكبير كل نقاد هذه الحالة الفلسطينية، من نخب وحراكات متنوّعة، الساعين للخروج من هذه الحالة، متى وكيف يمكن تجميع كل هذه الحراكات والمبادرات، وإطلاقها مجتمعةً متحديةً، ورائدةً، في وجه المستعمرين والإمبرياليين وعملائهم العرب، الذين نجحوا في خلق وكيل فلسطيني يدير شؤون الاستعمار، وبثمن بخس.

ثانيًا: الانتخابات وفلسطينيّو الداخل

بعد قرار حل الكنيست الأربعاء الماضي سارع قادة أحزاب عربية وأكاديميون عرب إلى الدعوة لإعادة تشكيل قائمة المشتركة. وبدا ذلك هرولةً للتكفير عن خطيئة تفكيكها. مع أن معظم الذين دعوا إلى ذلك لم يكونوا مسؤولين مباشرة عن تفكيكها، ويحملون الكثير من الصدق في ذلك، بغض النظر عن اختلاف الأيديلوجيات والرؤى. طبعا لم نسمع دعوات مشابهة من الذين سعوا بمنهجية، وبشكل صريح، أو الذين تواطأوا مع تفكيكها، في سياق الرهان على الكتلة المانعة، مع قائمة الجنرالات القتلة وأصحاب التاريخ الأكثر دموية.

لكن ذلك يعكس العطب المستمر في التوجه والقصور في التفكير، أولًا لأنّه لم يدعُ أحدٌ إلى مراجعة تجربة القائمة المشتركة وعوامل إخفاقاتها، وتدميرها، ابتداءً من النزاع الشخصي وغياب الإستراتيجيّة، وهبوط الخطاب السياسي، وانتهاءً بمشكلة التناوب المخزية المتمثّلة بالسطو على مقعد التجمع من قبل حزبين آخرين. ولم يَدعُ أحدٌ لمحاسبة المسؤول أو المسؤولين عن تحويل مشروعٍ مَنَحَ أملًا للناس إلى رماد. وبخصوص تقويض النهج الوطني والخطاب السياسي المطلوب، يمكن الاستدلال على استمراريته من خلال قبول أيمن عودة حضور مظاهرة الجنرالات القتلة في تل أبيب، وفي هذا معضلات أخلاقية أخرى سياسية.

 أوّلها؛ أنّ قبول نائب عربي وقيادي حزبي حضورَ مظاهرة والتحدث فيها نظمها جنرالات قتلة تباهوا بإعادة أحياءٍ في غزة إلى العصر الحجري، وأكثر من ذلك، وعدوا بمواصلة ذلك في حالة فوزهم على نتنياهو، يعني أنه، عمليًا، لا يعنيه شأن ما يقوم به هؤلاء تجاه غزة، والأهم بالنسبة له أن أُسمِع صوت فلسطينيي ٤٨ ومظالمهم في مظاهرة صهيونية بامتياز. ويُشتمّ من ذلك، وإن بغير وعي، مقايضة حق وأمن جزءٍ من شعبنا مع حق وأمن جزءٍ آخر لشعبنا. وما هي نتيجة ذلك؟ نتيجتها تكريس الفصل بين الفلسطينيين وتجزئة همومهم في الوعي الشعبي لفلسطينيي الـ٤٨.

ثانيها؛ هو التجاهل التام لخيار المقاطعة. إذ أن ردود الفعل التي وردت، ولا تزال ترد، على لسان ممثلي الأحزاب وأعضاء الكنيست وأكاديميين، تركزت في الحديث عن ضرورة إعادة المشتركة، ورفع نسبة التصويت، وتكرير مقولة "إسقاط اليمين" البائسة. لا يعقل أن يقاطع ويمتنع أكثر من نصف المصوتين العرب، نصف شعبنا، عن التصويت، وكأنه أمر عادي ولا يستحق أي اهتمام، فالمقاطعة لم يكن سببها الوحيد تفكك المشتركة، هناك، أيضًا، أسباب مبدئية، وأخرى تكتيكية. هذا التجاهل، يعبّر عن استخفاف بالرأي العام، ويعكس جمودًا وتكلّسا في التفكير، ويفسر أسباب تعمق أزمتنا السياسية والفكرية والقيادية. من الواجب أن تكلف نفسها هذه القيادات، وتطرح المسألة رسميا، للبحث والتداول بصورة جدية وتناولها من كل الجوانب، والخروج بقرار أو قرارات، إمّا مع أو ضد، وما هي المشاريع البديلة. وبغض النظر عن طبيعة القرار، فإن مجرد خوض هذا النقاش، سيكون له فائدة كبرى، وستتفتّق عنه أفكار جديدة، ناهيك عن إظهار الارتباط الصادق بما يعتمل داخل المجتمع.

ثالثًا: مخطّط "صفقة القرن"

لقد أشبع هذا المخطط، الأميركي-الصهيوني، تحليلا وتشخيصًا، لمكنونانته ومخاطره ولمآلاته المتوقعة على القضية الفلسطينية، وعلى المنطقة برمتها. أما على المستوى العملي، فلم يحظَ بأي خطوة فلسطينية وطنية عملية شعبية كرد فعل على هذا المخطط، سوى مسيرة العودة في غزة، والتي رغم أهميتها وطابعها الخلّاق، فإنها لم تتحول إلى حركة شعبية فلسطينية شاملة في كل فلسطين والشتات.

وإذا لخّصنا هذا المخطط بكلمات قليلة، فهو مخطط استعماري استيطاني يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وحقوقهم السياسية والإنسانية، وإعادة رسم المنطقة العربية وغير العربية، بحيث تتكرس هيمنة إسرائيل، كذراع استعماري ضارب على هذه المنطقة. والأمر الأشدّ خطورة والجديد، هو استعداد وانخراط أنظمة عربية ليست لها حدود مع فلسطين، في عملية بيع فلسطين مقابل حماية عروشها.

لم يكن ليتجرأ أصحاب هذا المخطط التصفوي على إطلاقه، لولا الحالة العربية المترهلة، والحالة الفلسطينية المنقسمة، وسلوك القيادة الفلسطينية البائس وغير المسؤول. رئيس السلطة الفلسطينيّة، محمود عباس، يعلن رفضه القاطع لهذا المشروع ولحضور مؤتمر البحرين، دون القيام بأي خطوة فعلية على الأرض، وأولها إنهاء الانقسام وإطلاق مشروع مقاومة شعبية ضد الوجود الاستعماري في فلسطين. لقد هدم كل مقومات النهوض الفلسطيني؛ همّش منظمة التحرير، وحصر إدارة السلطة في شخصه وواصل تفعيل التنسيق الأمني لقمع المقاومة، وهو مصرّ على رفض إعادة الوحدة الوطنية، لأنّ هذه الوحدة، مجرد الوحدة، تعني بالنسبة له تصعيدًا في مواجهة الإسرائيليين، وهو بطبيعة الحال يرفض مبدئيا أي شكل من أشكال التصعيد سوى بالكلام.

إن الرفض الفلسطيني الشامل لصفقة القرن، الذي يتجلى في كل مكان، هو فرصة أخرى لاستنهاض الشعب الفلسطيني والأحرار العرب وأحرار العالم، لتقويض هذا المخطط وجعله نسيًا منسيًا.

التعليقات