09/06/2019 - 13:48

عبد الباسط الساروت... الوطني النبيل

في هذه الأجواء نشأ جيل الساروت، في ظل نظام ألغى السياسة وأنشأ المساجد والمدارس للسلفيين في أحزمة الفقر والأطراف كبديل للأحزاب، وأراد لهذه السلفية أن تكون ورقة مقايضة في مفاوضاته مع الأميركان بعد احتلال العراق.

عبد الباسط الساروت... الوطني النبيل

الساروت (بالأصفر) قبل الثورة

أراد النظام السوري أن يكون أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني عَلَمَي ثورة الشعب، حتى يتمكّن من سحقها وتحويلها إلى محرقة يومية. وبهذا المعنى، فإن المناضل الوطني السوري، عبد الباسط الساروت، حقق انتصاره على النظام بموته، ليس على جبهات القتال، بل لأنّ موته استعاد أيقونات الثورة الحقيقية، التي غابت عن الإعلام في السنوات الماضية، فيما كانت تخوض حربا ضد النظام وضد خاطفي الثورة من التنظيمات الجهادية.

لم يعرف معظم الناس من هو الشاب عبد الباسط الساروت إلا بعد انتشار خبر وفاته متأثرا بإصابته في مواجهة مع النظام شمالي سورية. فأمثال الساروت من شباب الثورة الحقيقيين لم يجيدوا فنون الظهور الإعلامي ولا العلاقات العامة، فهم كانوا منشغلين ميدانيا بالدّفاع عن أهالي بلداتهم وقراهم، ولم يحظوا بدعم أية دولة أو طرف خارجي، بل يشدد الساروت في أكثر من مقابلة على أن بندقيته وطنية وليست للإيجار.

وفقط من لا ينتمي لهذه المنطقة بحق وإن عاش فيها، وغير مطلع على تفاصيل الصراع في سورية، يمكنه أن يربط الساروت بالتنظيمات الجهادية المتطرفة، وفي ذلك جهل كبير وتجنٍ أكبر، لأن الساروت وأبناء جيله من الثوار الحقيقيين ينتمون إلى مرحلة ما قبل التنظيمات السلفية الجهادية، وما قبل القومية واليسارية، وكأنهم يعيشون زمنا آخر، هو زمن ما قبل استقلال الأوطان العربية.

الساروت حارسا للمرمى

فهذا الشاب، الذي توفي في سن 27 عامًا، كان بمقدوره أن يصبح نجمًا كرويًا بعد أن وصلت به موهبته الكروية إلى أن يصبح حارس مرمى منتخب سورية للشباب. وكان بمقدوره أن يصبح فنانا منشدا مستقرا في إحدى العواصم الأوروبية أو العربية، لكنه آثر البقاء في وطنه والقتال حتى آخر قطرة دم دفاعا عن المدنيين من قصف النظام وروسيا.

والساروت، الذي تنقّل بين ميادين الثوار في حمص ومحيطها منشدا للحرية والعدالة ورافعا همم المدنيين المحاصرين، دفع ثمنًا باهظا بمقتل أخوته كلهم وعددٍ من أخواله، لدرجة أن النظام أعلن جائزة بقيمة 35 ألف دولار لمن يسلم معلومات عنه بهدف اغتياله. وقد حاول النظام بالفعل تصفيته دون جدوى.

والساروت وأبناء جيله من الثوار، ممن تكوّن وعيهم في العقد الأول من الألفية الحالية تحت حكم بشار الأسد، يشبه خطابهم خطاب المجاهدين والمناضلين العرب من أجل الاستقلال في النصف الأول من القرن الماضي. وقاموس الساروت كأنه مؤخوذ من فيلم سيرة المناضل الليبي عمر المختار؛ وطنيته فطرية مخلصة والجهاد عنده هو قتال المستعمر والمحتل، وهو ما دفعه لتشكيل كتيبة مسلحة من رفاقه في الميادين، واعتمد "الاكتفاء الذاتي" كما قال في تمويل وتموين كتيبته، وأسلحته كانت "غنائم" كما قال من معاركه مع قوات النظام والميلشيات الإيرانية، إذ رفض أي تمويل خارجي أو الانضواء تحت لواء أيٍّ من التنظيمات الجهادية، التي قاتلته وحاصرته في ريف حمص، ولفقت له تهمة مبايعة "داعش" بهدف مصادرة سلاحه. لكنه، وبحسب شهادته المصورة، رفض مقاتلة أيٍ من التنظيمات حتى "داعش" إلا دفاعا عن النفس، إذ قال في شهادته المصورة للمناضل الحمصي خالد أبو صلاح في العام 2016، إنه امتنع عن قتل 150 عنصرا من التنظيمات التي حاصرته في ريف حمص، لأن معركته أساسًا ضد النظام، وإن أولئك العناصر أو المجاهدين، بلغته، مغرر بهم.

أما تدينه، فهو أبعد ما يكون عن السلفية الجهادية المؤدلجة التي حاولوا دمغه بها، فهو تدين شعبي بسيط، ازداد إيمانه كلما اشتد الحصار والظلم اللذان عايشهما، وهو تدين غير طائفي بالأساس، وهو إيمان شخص شردت عائلته وقتل كافة أخوته لكنه نشد لوحدة كل الحمصيين والسوريين بكل انتماءاتهم. فهو لم يملك ترف اليأس والإحباط أو التشكيك بوجود الله، على الرغم من المأساة التي عاشها في حصار حمص الطويل.

تفتح وعي الساروت وأبناء جيله في ظل حكم بشار الأسد على دولة بلا أحزاب سياسية، وعلى حكم ربط بين الوطن الموحد وشخص الحاكم، بأنه هو الضامن لوحدة "الدولة". وفيما قمع النظام الأحزاب والحراكات المدنية، فتح الأطراف أمام السلفيين ومساجدهم علها تكون مكانا لتفريغ الإحباط من سياسة النظام وسوء الظروف المعيشية، بدلا من الأحزاب والتنظيمات السياسية.

في هذه الأجواء نشأ جيل الساروت، في ظل نظام ألغى السياسة وأنشأ المساجد والمدارس للسلفيين في أحزمة الفقر والأطراف كبديل للأحزاب، وأراد لهذه السلفية أن تكون ورقة مقايضة في مفاوضاته مع الأميركان بعد احتلال العراق.

لكن رغم ذلك، فاجأ أمثال الساروت الكل بوعيهم الوطني الصلب، وتشديدهم على أن بندقيتهم وطنية موجهة ضد النظام الذي استباح دماء المدنيين، وأن وطنيتهم تفصل بين الدولة والوطن، وهي وطنية بلا عقيدة أو أيديولوجية، وطنية أصيلة منعت من الساروت الانخراط بأي تنظيم سلفي جهادي، لأنه سرعان ما تبين له بذكائه وحدسه أن أجندتها ليست تحررية وطنية. وهذا ما يفسر انخراطه مؤخرا بـ"جيش العزة" في شمالي سورية، بعدما تبيّن له أنه تنظيم مستقل غير عقائدي هدفه محاربة النظام، بحسب شهادات أصدقاء الساروت.

ومن الملفت في أحاديث الساروت، أنه يشدد على استخدام مصطلح "المجاهدين" في وصف الثوار ومقاتلي النظام، متجنبا استخدام مصطلح "جهاديين"، وفي ذلك ربما تأكيد على أنه ينتمي، فعلًا، إلى جيل المجاهدين العرب الذين ناضلوا ضد الاستعمار ومن أجل الاستقلال، وكأن أكثر من سبعين عامًا من استقلال سورية من الاستعمار الفرنسي لم تكن كافية لإعلان الاستقلال الحقيقي، لأن الاستعمار الفرنسي تبدل باستعمار داخلي لا يقل شناعة عن الخارجي، بل وأخطر، إذ ألغى الحياة السياسية، وهي كانت متقدمة في سورية إبان الاستقلال، ومزق الهوية الوطنية وحولها إلى ولاءات محلية وعشائرية وطائفية، وأطلق، لاحقًا، سراح مئات أو آلاف السلفيين الجهاديين من سجن صيدنايا لتخريب الثورة المدنية السلمية.

رغم كل ذلك، تمسّك الساروت بوطنيته ووطنية بندقيته، وهو حارس المرمى الذي لم يعش حياة حزبية أو حركية أو عقائدية، وظل ينشد لوطنه وأهله حتى آخر نفس. فقبل أيام من وفاته، أطلق أغنية جديدة عبّرت عن شجون السوري البسيط، وفرحته برمضان ومن بعده العيد رغم الموت والتشريد، كما جاء في أغنيته.

انتصر الوطني النبيل عبد الباسط على النظام بأن استرد الثورة ورموزها وأعادها إلى أهلها، ثورة وطنية شريفة، خذلها العالم وأسلمها النظام بتشريع أبواب سجونه لفرار المجرمين. لذا يستحق عبد الباسط وصف الوطني السوري الاستقلالي الأخير.

وأخيرًا، "سلامات عبد الباسط سلامات"، هكذا هتف له المعتصمون في ميادين حمص وهم يحملونه على الأكتاف بعد تعرضه للإصابات بقصف النظام.

"سلامات عبد الباسط سلامات".

 

التعليقات