14/07/2019 - 14:07

مأزق المشتركة وآفاق الحركة الوطنية

هذه ليست شعارات كما قد يزايد البعض، وإنما رؤية إستراتيجية حان الوقت لكي تتحول إلى برنامج عمل، وعندها يصبح موضوع الانتخابات الإسرائيلية أحد المواضيع التي ننشغل بها من خلال أحزابنا، وليس العنوان شبه الوحيد لحراكنا وحتى لوجودنا (بمعنى التمويل)

مأزق المشتركة وآفاق الحركة الوطنية

أخطر ما يجري في الأسابيع الأخيرة في موضوع تشكيل أو عدم تشكيل القائمة المشتركة، ليس التراجع في شعبية القائمة والأحزاب، وإمكانية أن تهبط نسبة التصويت والتمثيل العربي في الكنيست، وذلك بسبب المزاج الشعبي الذي تعكر بسبب تعثر المفاوضات، وإنما تركيز كل الرأي العام العربي، بما فيه من إعلام رسمي وشعبي وشبكات التواصل، على موضوع الكنيست وترويض الوعي العام أو كَيّهِ بأن المجتمع الفلسطيني في الداخل لا يملك، في مواجهة ممارسات وسياسات التمييز والفصل العنصري، سوى ساحة العمل البرلماني، وأن وجودنا وتأثيرنا، كأحزاب وكمجتمع، رهن في اللعبة السياسية الإسرائيلية، وأن هذه هي اللعبة الوحيدة في المنطقة.

إن اختزال الموضوع، حتى عند عدد كبير من المثقفين والأكاديميين، إلى موضوع ترتيب المواقع، وكأن كل شيء مرتبط بالمقعد الثاني عشر أو ترتيب المواقع الأربعة الأولى، أو إشكالية تفويض الأحزاب لجنة خارجية/ الوفاق، يسهم، أيضًا، في عملية حصر الحراك السياسي الفلسطيني في الداخل في خانة الكنيست، ووضع كل "بيضنا" في سلة "النضال" البرلماني، الذي أصبح بالنسبة للناس، نتيجة سلوك كل الأحزاب وإعطاء دور مقرر للجنة الوفاق، هو موضوع كراسي وامتيازات، وكذلك يسهم في إعادة إنتاج خطاب الحقوق المدنية والخدمات، كأننا نعيش في دولة ديموقراطية فعلا، ولسنا أصحاب الوطن الأصليين، وضحايا مشروع استعماري احتلالي مستمر.

هذا تحصيل حاصل، لفشلنا التاريخي في مأسسة مجتمعنا وتنظيمه جماعيا، وهذا يتحمل مسؤوليته جميع الأحزاب، وأولهم التجمع، الذي جعل هذا الموضوع حصرا ركيزة أساسية في مشروعه السياسي. ويمعن الكلّ، الآن، في خلق مرحلة جديدة تتسم بتذويت لدرجة الإعجاب بقوانين اللعبة السياسية الداخلية الإسرائيلية، وحتى العودة إلى مفاهيم مرحلة أوسلو التي حسبنا أننا وأدناها؛ مفاهيم مثل أن العرب في معسكر ما سمي زورا وبهتانا "السلام"، وأحيانا يسمى اليسار ومؤخرا المعسكر الديموقراطي.

ولا أستغرب أن ينتشر سياسيا قريبًا مصطلح "نزاهة الحكم والقضاء"؛ فهذه هي أسرلة مقنعة ومبطنة، والأخطر بكثير، هو أن تتسلل إلى مفردات وتعابير حتى في الخطاب السياسي الوطني، من خلال رفع شعارات مثل إسقاط نتنياهو وإسقاط صفقة القرن، بنوع من الديماغوجيا أو الهروب إلى الأمام، وكأن منافس نتنياهو، الجنرال بيني غانتس حمامة سلام ويداه غير ملطخة بدماء شعبنا في غزة.

إن سلوك الأفراد وكذلك الجماعات ضحايا الاستعمار وسلب الأرض والوطن، والسطو العنيف والقهري على المكان والحيز العام، وعلى كل ما يشكل الذاكرة والوعي الجمعي الفلسطيني، بات معرضًا لأن يصبح سلوكا مشوها يتمثل بقبول واقع مواطنة إسرائيلية متجزأة في حالتنا، وهوية عربية مشوهة.

يخلق المستعمر عادة ميزان قوة يميل بشكل هائل لصالحه، حتى يرتبط به ضحاياه في كل النواحي ولا يعودون يرون أنفسهم كأفراد وكجماعات، إلا من خلال مرآة الآخر واعترافه بهم. مؤخرًا، تزداد الأمثلة على هذه السلوكيات، خصوصًا في مجال الإنجازات الفردية على المستوى الرياضي أو العلمي/ المهني. الأهم هو غياب أي نقد أو توعية بديلة مرتكزة على أسس ووعي ورواية الشعب الأصلاني المتجذر في أرضه ووطنه، ولا يستجدي حقوقه أو مكانته، والذي يعتبر أن مواطنته في الدولة العبرية قد فرضت عليه وهي ليست منة من أحد، وأنه يأخذها بجدية كوسيلة لاستعادة، ولو جزئية، للوطن عبر تحقيق المساواة التامة في دولة لكل المواطنين، وأنه لن يقبل أي مساومة على ذلك.

في كلمتي في المهرجان الوداعي قبل دخول السجن قبل عامين في ١/٧/٢٠١٧ وبحضور القيادات السياسية كافة قلت:

 

لقد كبرنا يا إخوتي وأصبحنا شعبا قويا يعيش في وطنه، وحان الوقت لكي يكون لدينا مشروع وطني واضح ومتكامل الملامح، مشروع بنيوي لبناء الذات ولتحقيق أهداف وطنية جامعة.  لا يعقل أن نكون، بعد أكثر من السبعين عاما، مجتمعا بلا مؤسسات وطنية منتخبة، ذات موارد وقادرة على قيادة وتنظيم الشعب والمجتمع. لا يعقل أن نكون حتى الآن بلا مؤسسات تمثيلية منتخبة تستمد شرعيتها من ثقة الناس. لا يعقل أنه حتى الآن، لا يوجد لدينا صندوق قومي، ولا يوجد لدينا جامعات ومعاهد أكاديمية ومؤسسات اقتصادية وتنموية جماعية وجامعة.

إن بناء هذه المؤسسات وتنظيم المجتمع لا يعتبر انعزاليا أو انسلاخا عن المواطنة، وإنما بالعكس تماما، فمن شأنه أن يعزز قدراتنا على تحصيل حقوقنا المدنية وعلى تحصيل المساواة في كافة ميادين الحياة، ومن شأنه، أيضًا، أن يقوينا ويشحذ هممنا في مواجهة اليمين الفاشي الحاكم. وأكاد أقول جازما، إننا لو كنّا فعلا كذلك لما تجرأت هذه الحكومة على إخراج الحركة الإسلامية خارج القانون.

قبل أن نبحث عن حلفاء في المجتمع الإسرائيلي الموغل في التدهور نحو اليمين الاستيطاني والديني، بحجة تغيير حكومة اليمين، لنبنِ أولا مشروعنا الوطني ولنحصن مجتمعنا ونقيم مؤسساته على أسس عصرية ومهنية. فقط على هذا علينا أن نعول على أنفسنا، على شعبنا المقدام، ولنضع نصب أعيننا هذه الأهداف الكبرى وليس البحث على إنجازات صغيرة هنا وهناك. لنرفع شعار استعادة الوطن والمساواة التامة في دولة لكل المواطنين... لنعمل ميدانيا على إعادة مهجرينا إلى قراهم كمشروع نضالي وليس كإحياء ذكرى، لنعمل على استعادة أوقافنا وخاصة الوقف الإسلامي كمشروع نضالي وليس كمطلب رمزي أكل الدهر عليه وشرب، لنعمل على استعادة أراضينا المصادرة وعلى حقنا في الأرض والمسكن. هذا ما يليق بنا كشعب وهذا ما يتوجب علينا صنعه اليوم قبل الغد، ولا أرى، حقيقةً، عائقًا أمام بدء هذه المسيرة التاريخية التي ستنطلق عاجلا أم آجلا، ولن يقف في وجهها شيء.

هذه ليست شعارات كما قد يزايد البعض، وإنما رؤية إستراتيجية حان الوقت لكي تتحول إلى برنامج عمل، وعندها يصبح موضوع الانتخابات الإسرائيلية أحد المواضيع التي ننشغل بها من خلال أحزابنا، وليس العنوان شبه الوحيد لحراكنا وحتى لوجودنا (بمعنى التمويل)، كما يعتقد ويتصرف البعض.

قد يكون مأزق تشكيل المشتركة الحالي فرصة تاريخية أمام الحركة الوطنية لترك ساحة الانتخابات الإسرائيلية، وأخذ "إجازة" منها للالتفات إلى مهامها الأخرى في البناء والتنظيم الذاتي.

التعليقات