19/07/2019 - 17:32

كيف نوقف ثقافة التدمير الذاتي؟

فهل آن الأوان للتنادي واللقاء لبحث هذا الخيار وإنقاذ الحركة الوطنية، كما فعلنا بعد كارثة اتفاق أوسلو، ولكن هذه المرة بدون كنيست الأبرتهايد؟

كيف نوقف ثقافة التدمير الذاتي؟

لقد بات محسوسًا ومدركًا على نطاقٍ واسع ومعترفًا به، أن ما يمثله التجمع، من فكر وتوجه، وليس أشخاصه، كما تجري عملية التسويق، هو المستهدف الأساس. لا شك أن الإطارَ السياسي محمولٌ من أشخاص، ويعود إليهم النجاح أو الفشل في قيادة الإطار وتحويل فكرته إلى مقولة تحملها الناس، أو شرائح واسعة منهم، لذلك هم أول من يجري استهدافهم.

والتجمع تمكّن، بعد انطلاقه بفترة قصيرة من التحول إلى قوة سياسية جماهيرية واسعة ومؤثرة، متميزًا بالحيوية في الفكر والميدان، ومفاجئًا من كانوا قد جَمَدُوا، لفترة طويلة، في أزمة سياسية ووطنية، فاستفزهم هذا التحدي. ومع الوقت، سلّمت تلك القوى القديمة به، على مضض، بعد أن اتسعت دائرة الانشداد، على مستوى النخب، وعلى مستوى الشعب، إلى فكره المتجدد، وإلى حضوره الميداني، في المعارك الشعبية، في الشارع والجامعات.

وفي غضون سنوات قليلة، حقّق التجمّع هيمنة عامة في خطابه، وجدت تعبيرها الواضح والصريح في وثائق "التصور المستقبلي" و"وثيقة حيفا"، و"دستور عدالة"، التي صدرت تباعا عام 2005. كان ممثل جهاز الأمن العام (الشاباك)، قد ادعى، أمام المحكمة، في معرض تبريره لمنع حزب التجمع ود. عزمي بشارة من خوض الانتخابات، أن خطورة الحزب تكمن في كونه نقل هذه الأفكار، من هامش المجتمع العربي إلى مركزه، مسببا بزيادة التطرف، على حد قوله.

وقبل ذلك، ومنذ الأيام الأولى لهبة أكتوبر، أو هبة القدس والأقصى، عام 2000، أصدرت المخابرات الإسرائيلية بيانًا للإعلام محملة فيه التجمع الوطني الديمقراطي بالمسؤولية عن امتداد أو انتقال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي انطلقت من القدس، ومن ساحة الأقصى، إلى المدن والقرى الفلسطينية في الجليل والمثلث والنقب.

سجلنا يومها انتقادنا لقوى سياسية مركزية، أصابها الهلع، من هذه الحملات الإسرائيلية التحريضية، فاختارت العمل على إظهار نفسها بأنها مختلفة وقوّة معتدلة وليست متطرفة كالأحزاب العربية الأخرى، تحديدًا التجمع والحركة الإسلامية الشمالية. ورد التجمع، قادةً وأصحابَ أقلام، بأن الهجوم عليه من خلال التحريض والمحاولات المتكررة لشطبه هو، في الحقيقة، حملة على المواطنين العرب، إذ أن سياسات نهب الأرض والتهويد وقتل المتظاهرين العرب، كلها سياسات قائمة قبل التجمع، وأنّ كل ما أوجده التجمع هو رؤية جديدة للدفاع عن حقوقنا وإعادة تنظيم وجودنا الاجتماعي والقومي على أسس جديدة، عصرية وحديثة. من خلال هذه الردود، كنّا نهدف إلى إحباط المحاولات الإسرائيلية لتعميق الانقسام والتفرقة من خلال تصنيف القوى السياسة بين متطرف ومعتدل. ونجح التجمع في نشر ثقافة سياسية وتنشئة قطاع واسع من الأجيال الجديدة على هذه الثقافة، لا تزال آثارها لا تتفاعل بين هذه الأجيال.

 

ولكن مع مرور الوقت، ومع ازدياد حملات التحريض والتخويف والملاحقة ضد التجمع، ومع تصاعد قوة اليمين المتطرف الذي لم يعد يفرق بين حزب "معتدل" و حزب " متطرف"، بدأ يظهر التجمع كعبء على القوى السياسية الأخرى، التي تختلف برؤيتها وبنهجها وتميل إلى الأسلوب الناعم، وتتفادى تحدي الجوهر الصهيوني العنصري للدولة والتقرب من يسار المركز الصهيوني. وهذه القوى هي، أيضًا، ضد تنظيم المجتمع الفلسطيني قوميًا.

نعترف بأنّ حملات الملاحقة والتخويف، التي أظهرت التجمع كالحزب (البرلماني) الأكثر تطرفا، ساهمت في انحسار الحزب جماهيريا. لا شك أن أخطاءنا وقصوراتنا، ساهمت، أيضًا، في ذلك. لكن نواة التجمع، من الأجيال الشابة، المثقفة، والناشطة، لا تزال تشكّل نواة صلبة، مصممة، وواثقة، وعيونها تتطلع إلى المستقبل، وقاعدته الاجتماعية لا تزال تختزن الطاقة على النهوض.

ومن الواضح أن الخصومات القديمة ضد التجمع، والوهم الذي وقع فيه الخصوم مؤدّاه أنّ التجمع بات ضعيفًا للغاية، وأنها الفرصة المواتية لإضعافه وتهميشه، والاستحواذ على الغنيمة (الكراسي) بهدف التخلص من مشاكسته وترويضه بالكامل، كل ذلك مهّد، بل قاد إلى الحالة الكارثية العامة الراهنة داخل الخط الأخضر، أي إلى عملية تخريب ما تبقى من قيم سياسية سليمة، بل تخريب وطني آخذ بالاتساع. وبنى هؤلاء الخصوم رهانهم على ضعف أو حسن نية القيادة الحالية، أو تحديدًا الوفد المفاوض، فأمعنوا في غيهم وغطرستهم.

ليس الخطر الحقيقي في الكرسي، إذ صحيح أن هناك جشعًا بدائيًا عند الخصوم، لما تمثله الكرسي من هيمنةٍ ومردودٍ مالي وتهتّكٍ أخلاقي، وانعكس ذلك عندما استولى شريكان في القائمة المشتركة على كرسي لشريك لهم، إنما في الرغبة الدفينة القديمة التي عبّرت عنها حملات الخصوم المبكرة وقبل اندلاع الثورات العربية، أي التخلص من موقف التجمع السياسي والوطني الصلب المتحدي بصورة منهجية للأسس الأيدلوجية التي تقوم عليها إسرائيل. ويُشتق من هذا الموقف، الطرح الداعي إلى تطوير الكينونة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، بمؤسساتها وهيئاتها التمثيلية، بالتوازي مع العمل البرلماني، أو بديل له. وهذا الطرح هو شرط عملي وإستراتيجي لتمكين شعبنا وتقويته في مواجهة المؤسسة الصهيونية الرسمية، أو في التعامل مع فكرة التعاون مع القوى اليهودية المناهضة للاحتلال والعنصرية.

منذ عام 2013، بدأت تشتد قناعاتي بضرورة التفكير جديا بمقاطعة الانتخابات، لسببين: الأول التضييق الكامل على عمل أعضاء الكنيست العرب وإغلاق هامش العمل الضيّق أساسًا، فبات وجودنا يظهر، أكثر من أي وقت مضى، كغطاء لنظام عنصري وكولونيالي آخذ في التغول؛ أمّا السبب الثاني فهو اشتداد التعلق بالكنيست، وتحويلها إلى ساحة العمل المركزية، وإلى ساحة تنافس شرس بين الأحزاب العربية على حساب العمل الشعبي، وحلول النزعة الذاتية النرجسية محل الأخلاق السياسية التي تُؤثِر المصلحة الجماعية على المصلحة الخاصة.

وفي حينه، بدا لي ولكثيرين غيري، أن الثقافة السياسية العامة تتجه نحو الخراب. وجاء قرار رفع نسبة الحسم فرصة للتجمع لممارسة جزء من تصوراته الوحدوية، وفرصة تجبر الرافضين، أيديولوجيًا لهذه التصورات، وخوض الانتخابات بصورة مشتركة، وربما فرصة لوقف الاقتتال وفرملة التدهور في الثقافة السياسية، وفتح أفق جديد للعمل والتعاون، والبناء الداخلي.

ولكن سرعان ما تبين سوء تقديرنا لأخلاقيات الشركاء، فعادت حليمة إلى عادتها القديمة، وتم وأد، وبنيّةٍ مسبقةٍ، ما ظهر للناس وكأنه فتحة أملٍ نحو مسار جديد في العمل السياسي القائم على الشراكة الحقيقية. وفي هذا الفراغ الخطير، الفراغ السياسي والقيمي، بدأت الساحة تعج بالمبادرات غير السياسية التي، بتقديري وتقدير الكثيرين، ستجعل الكارثة السياسية مكتملة.

اخترت منذ عامين ونصف العام إعفاء نفسي من أي منصب رسمي في حزبنا، أولًا كممارسة نقدية ذاتية، وثانيا، لأنني اعتقدت أن الحزب غير جاهز، ذاتيا وموضوعيا، للانتقال إلى مرحلة مشار إليها ضمنًا في برنامجه، ألا وهي مقاطعة الانتخابات للكنيست والشروع في حملة شعبية ميدانية مع شركاء لانتخاب لجنة المتابعة العليا، لفتح المجال لإشراك الناس في السياسة، وتقرير مصيرهم، من خلال انتخاب ممثليهم في مرجعية وطنية عليا (تبلورت هذه القناعة بعد أن يئسنا من التغيير من داخل هيئة لجنة المتابعة)، وهذه الانتخابات المباشرة، هي ما يحول أقليّة قومية أصلانية محاصرة ومستهدفة في أرضها وهويتها وتطورها، من الهامش إلى المركز، أي ما يمنحها الثقة والشعور بالقوة، والإمساك بمصيرها. والجانب الآخر من المرحلة المطلوب الانتقال إليها، هو تطوير البرنامج السياسي نحو الارتباط العملي بالمشروع الوطني الفلسطيني التحرري، من خلال الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية، ونقل مطلب المواطنة المتساوية إلى عموم الوطن، من خلال النضال لإسقاط الصهيونية وتفكيك نظامها الاستعماري العنصري.

 هذه القضايا الإستراتيجية الكبرى غائبة تماما عن النقاش الجاري، أو بالأحرى الفوضى العارمة. ويحل محلَّها غياب السياسة وغياب الفكر والتفكير والرؤية المستقبلية، وسيادة الخواء القيمي. إنّه التخريب المنهجي، بوعي أو بغير وعي، للثقافة السياسية السليمة، إنّه تخريب لعقول وأخلاق أجيال كاملة وتحطيم لآملها وتدمير أدوات التأثير. كل ذلك ينذر بانتشار الانتهازية والأسرلة بصورة غير مسبوقة وعودة الأحزاب الصهيونية وأعوانها لتنشر المزيد من الضياع بين أبناء شعبنا.

في مواجهة هذه الحالة، بدأ يتكون شعور متزايد بالحاجة لديّ ولدى آخرين كثر بضرورة الانتقال من الموقف النظري لمقاطعة الكنيست الفردية إلى تنظيم هذه المقاطعة، على نطاق واسع، باعتباره الخيار الوحيد المتبقي لإنقاذ العمل الوطني، وحماية مجتمعنا من المخاطر الداخلية والخارجية، لقد بات تيار المقاطعة هو التيار الأكبر، بل تيار الغالبية، لأسباب احتجاجية وأيديولوجيّة وتكتيكية، ولكنه غير منظم.

فهل آن الأوان للتنادي واللقاء لبحث هذا الخيار وإنقاذ الحركة الوطنية، كما فعلنا بعد كارثة اتفاق أوسلو، ولكن هذه المرة بدون كنيست الأبرتهايد؟

التعليقات