08/11/2019 - 15:45

في رثاء زوجته.. شهيدة الزراعة

في فلسطين، وفي الوطن العربي عمومًا، وفي مختلف بقاع العالم، ورغم التطور المذهل في وسائل الإنتاج، وفي تطور العقل البشري، في كافة الميادين، لا يزال الشقاء نصيب غالبية الناس. والنصيب الأكبر من هذا الشقاء هو للنساء.

في رثاء زوجته.. شهيدة الزراعة

أن تقرأ رثاءً من رجلٍ، فلاح، لزوجته المتوفاة، ينشره على الملأ ليس أمرًا مألوفًا في مجتمع تقليدي، خصوصًا أننا نعيش في زمنٍ تُقتل فيه المرأة، ألأم والأخت والبنت، ويكاد يجف فيه الحب والصدق والإخلاص. زمنٌ تحوّل فيه الكبار والصغار إلى أطفالٍ يولعون بالاستهلاك، يريدون كل شيء، إلا المودة والتقرب من الآخرين.

فجّر مشاعري وأذهلني، وأثار حزني، وما أكثر الأحداث التي تُفجرنا من الداخل هذه الأيام، ما كتبه المواطن، الفلاح والكادح، ابن عرابة البطوف، علي العنتر، من رثاء طويل ومؤثر لزوجته، بسمة (أُم عروة)، التي لاقت حتفها أثناء تأديتها رحلة الكفاح اليومية من أجل لقمة العيش. رحلة عمرها حوالي أربعة عقود ربما لم تعرف لحظة راحة فيها. وحادثة الموت الصادم، نتجت عن انقلاب التراكتور الذي كانت تقوده، كما اعتادت، وهي في طريقها إلى الحقل.

المرحومة بسمة العنتر

في كلمته المنشورة على صفحات "فيسبوك"، المكتظة بعبارات مشحونة بالحزن ولوعة الفراق، رسم لوحة حياتها وشقائها وتضحياتها، وجولاتها شبه اليومية في طول الوطن وعرضه، كما تستحضر علاقتهما الوثيقة، منذ ارتبطا برابطة الزوجية.  كما يصف الجهد الذي بذلته، والأدوار المتعددة التي أدتها على مدار اللحظة، دون أن تهمل تنشئة أبنائهما، الخمسة، والتحاق بعضهم بالدراسة الجامعية. تفهم مما كتبه أنهما تشاركا يوميًا في رحلة الشقاء والإنتاج والعطاء، رحلة الارتباط بالأرض وما تدره عليهما من مقومات الحياة.

كنت أحب أن أرى والدي يكتب عن والدتي، وأحب جميع الرجال من جيله، أن يكتبوا بهذه الروح، أو أن لا يتحرجوا في الإفصاح عن مشاعرهم تجاه زوجاتهم، تجاه أمهاتنا، اللواتي غادرن الحياة بعد شقاء لا يوصف، ودون أن يسمعن، ربما، كلمة تقدير وحب منهم. إذ إن غالب الرجال يتعاملون مع شقاء المرأة وكأنه أمرٌ طبيعي ومفروغ منه. يخجل العرب من مديح زوجاتهم، ونحن، بصورة عامة، ورثنا ذلك عنهم، إذ يرتدع أو يخجل بَعضُنا من التعبير العلني عن مشاعره الصادقة تجاه زوجاتهم، بل حتى يبخل بَعضنا بكلمات الثناء والود والتقدير لهن، حتى أثناء الخلوة. بطبيعة الحال، ليس تقدير واحترام المرأة محددين في الكتابة عنها، سواءً إبان حياتها أو بعد رحيلها، إنما أساسًا في ممارسة هذا الاحترام والتقدير في الحياة اليومية، ممارسة المساواة الكاملة.

 نقول ذلك لأننا عدنا لنعيش زمنًا عصريًا، تحققت فيه خطوات واسعة ونوعية في التعليم والعلم، ولكنه "منهوشًا" بالتشوه الأخلاقي والاجتماعي. فالوجه الآخر لهذا الزمن، هو ما نشهده هذه الأيام، حيث العنف، المعنوي والجسدي، بات معلمًا من معالم مجتمعنا الراهن.

لا يدرك غالبية الرجال الأثر التربوي للسلوك الرصين، ولأهمية إظهار التقدير والمحبة للزوجة، على تنشئة وتربية الأبناء. عندما يستخف الرجل بزوجته أمام الأبناء، خاصة الذكور، حتى دون أن يمارس العنف الجسدي او اللفظي المباشر ضدها، هو يحدد معالم الشخصية التي ينقلها لابنه، بحيث يصبح هو أيضًا، مستخفًا بوالدته، وقد يصبح كذلك تجاه زوجته في المستقبل، أو تجاه المرأة بشكل عام. وربما ظاهرة الفتيات المتعلمات، اللواتي لا يستعجلن الزواج هذه الأيام، هي رد فعل على هذا الواقع، والرغبة في تحقيق ذاتهن، وممارسة الحرية والتحرر، المحكوم بالعقل والرصانة، وممارسة الاستقلالية الفكرية لأطول فترة ممكنة من دون "قيد الزوجية"، وهذا حقّهن الكامل، وليس لأحد سلطة عليهن.  

ليس هذا الأمر مطلقًا، وليس الحياة الزوجية قفصًا بالضرورة، كما يصور البعض، إذ هناك آلاف النساء اللواتي حققن ويحققن كامل طموحاتهن الشخصية في ظل الحياة الزوجية، إذ فرضن حضورهن واحترامهن في الأسرة أو في المجتمع، أو في كليهما، بفضل اكتسابهن صفات كالإرادة والشجاعة، والاجتهاد، والعصامية، والحكمة والعقلانية.

ولكن في عصر التعليم والوظيفة، وفي عصر التطور في مكانة المرأة، تتوارى نماذج المرأة العاملة، في المصنع أو في الحقل، حيث تقضي الساعات الطويلة، في عمل جسدي مضنٍ. مثلًا لولا الطريقة التراجيدية لوفاة بسمة العنتر، ولولا جرأة زوجها وصدقه وإخلاصه لها، لما تذكّرنا الأعداد الكبيرة من النساء اللواتي يعشن ظروفًا مشابهة في الشقاء، والعذاب، والقلق وانعدام الشعور بالأمان.

في فلسطين، وفي الوطن العربي عمومًا، وفي مختلف بقاع العالم، ورغم التطور المذهل في وسائل الإنتاج، وفي تطور العقل البشري، في كافة الميادين، لا يزال الشقاء نصيب غالبية الناس. والنصيب الأكبر من هذا الشقاء هو للنساء.

وطالما أن تغيير هذا العالم، الذي تحكمه اليوم طبقة رأسمالية مافيوية عديمة الأخلاق والإحساس، وحيث لا تزال الأبوية الاستبدادية تتحكم بمجتمعاتنا العربية، وفي منظومة الحكم الفاشية، فإن تغييره إلى عالمٍ أكثر عدلًا وأقل ظلمًا، هي مسألة كفاح مستمر ومتواصل، تتصدى له قوى منظمة وأخرى تحاول أن تنتظم؛ فإننا أيضًا على المستوى الفردي يمكننا فعل الكثير للتخفيف من وقع هذا الشقاء، على الأقل في الدائرة القريبة منا. 

التعليقات