24/12/2019 - 20:49

العشيرة بدل الهوية الوطنية المواطنة

كانت  العلاقة بين العشيرة والأسرة في المجتمع الفلسطيني والعربي، مركبة  في مستويين  متناقضين، بين الطائفة والعائلة والعشيرة،  فالطائفة تكون أكثر ميلاً  لتفتيت علاقة الحسب والنسب لإحلال صلة الرحم والدين، فيما تقوم العائلة بشكلها الموسع على علاقة النسب

العشيرة بدل الهوية الوطنية المواطنة

كانت  العلاقة بين العشيرة والأسرة في المجتمع الفلسطيني والعربي، مركبة  في مستويين  متناقضين، بين الطائفة والعائلة والعشيرة،  فالطائفة تكون أكثر ميلاً  لتفتيت علاقة الحسب والنسب لإحلال صلة الرحم والدين، فيما تقوم العائلة بشكلها الموسع على علاقة النسب. في المجتمع الفلسطيني  ما تزال النزعة العشائرية  لها غلبة محددة  في بعض المناطق والأقضية  تقود المزاج الشعبي على حساب المواطنة والعدالة والحريات. نشأ عن هذه النزعة صراع  ما زال مستمرا حتى اليوم، ويأخذ أشكالا متفاوتة حسب مراحل تطور المجتمع، لذلك  لم يستطع هذا التناقض في الحالة الفلسطينية الرازحة  تحت الاحتلال، أن يلعب دور الكابح لمثل هذه النزعات، لأسباب موضوعية  متصلة باستغلال الاحتلال سابقًا اللعب على هذا الوتر بالفرز العشائري والقبلي والطائفي، وذاتية مرتبطة  بحالة التقصير والإفساد  التي يلعب عليها  الواقع السياسي الفلسطيني.

فليس معقولا بعد أكثر من ربع قرن على تولي السلطة الفلسطينية لزمام إدارة مجتمع فلسطيني كان قبل ولوجها إليه متطورًا جدًا في مجال تنظيم نفسه والتعبير عن هويته، متجليا في ذلك بتقديم صورة المرأة والشباب الفلسطيني، في أروع صورها في التعليم والصحة والتنمية بشهادة منظمات دولية ومحلية أثارت فزع المحتل منه، واستطاع تطوير تنميته وأساليبه لمواجهة إذابة الهوية  الفلسطينية وتنميطها ضمن نطاق السيطرة والتخلف، وأن تحدث عملية انحدار كبرى في مجال حقوق الإنسان والحريات وتقييد عمل النقابات ومطاردة الناشطين، إلى أخذ زمام المبادرة من تجمع عشائري ليكمل مهمة  تقديم صورة مشوهة عن واقع التعاطي مع قضايا مهمة، وأن يوجه الإنذار للقضاة والاستخفاف بالقانون الذي تتفاخر السلطة أنه منجز وطني.

قبل أيام أصدرت عشائر الخليل بيانها المرتبط  باتفاقية " سيدوا"  التي وقعت عليها السلطة الفلسطينية، والقاضية بمكافحة كافة أشكال التمييز ضد المرأة. العشائر تتبرأ من الاتفاقية وتطالب السلطة الانسحاب منها، وتطالبها بعدم تقييد سن الزواج وإغلاق جميع المؤسسات النسوية، ومنع  المندوبين عنها من الدخول للمدارس، وتحذر القضاة من تحديد سن الزواج، وتحذر أيضًا وسائل الإعلام من تغطية أي نشاط  للمؤسسات المرأة، والدعوة لمسيرة بالخليل ضد "سيداو".

العشائرية تحل هنا محل القانون، وتضع المنطق جانبًا بما يخص تحديد سن الزواج للفتاة، ولا يعقل أيضًا والحالة هذه أن تكون "سيداو" أو غيرها هي التي تملي بديهيات يفترض أن المجتمع تجاوزها بحكم  التطور الطبيعي للمجتمع  الفلسطيني، لا العودة لصياغة علاقاته وفق المنطق العشائري والقبلي والجهوي أو غيره، ولا يعقل أيضًا أن يكون التمثيل السياسي  للمجتمع الفلسطيني لاعبًا في حجب القانون وإحلال المفاهيم العشائرية كبدائل تنظم علاقة المواطن بمجتمعه، كون التمثيل السياسي لا يستطيع في "ظروف خاصة جدًا" لعب دور مؤثر في هذا المجال، ولأن المؤسسات النسوية أو منظمات المجتمع المدني تقود إلى حد ما تحركات من شأنها تخفيف القيود ومكافحة التمييز، فتكون المطالبة  بتهميشها واستبعادها.

هذه حلقة صراعية في المجتمع الفلسطيني، تعيد إنتاج قنوات يتسلل منها المحتل مجددًا. مئات ربما بل آلاف المشكلات التي تغرق فيها مجتمعاتنا من الاحتلال والفقر والتنمية، إلى مشاكل الشباب والمرأة والمخدرات والجريمة. العشائرية لم تكن يومًا بديلا لحل أية مشكلات من هذه وتلك، فالصراع المنفجر مع الاحتلال منذ سبعة عقود، لا ينبغي له فرض تراجعات وانحدارات تعمل على تدمير الذات لا حمايتها وصونها بمواطنة وكرامة. وصفة التحذيرات والتهديدات لها مسلك ووجهة مفترض أن تكون المحتل وإرثه، وعلى العشيرة والعائلة أن تضبط سلوكها وفق قانون المواطنة والكرامة، لا أن تلعب الدور الهامشي المحصور في تشجيع زواج القاصرات أو في قضايا شبيهة.

الطبطبة والتستر خلف العشيرة، هو إخفاء للهوية ومحوها، وضرب للعقد الاجتماعي المستند لقانون يكفل للإنسان حريته ومواطنته، وتحرر العشيرة من دورها التقليدي نحو مقارعة  المحتل تفشل كل المحاولات التي راهن عليها عدو العشيرة والعائلة والوطن المشترك، فلا المؤسسة النسوية ولا الإعلام والقضاء كانوا أعداء لهم، بل من بين ضلوعهم تناسل من ينتمي لهذه المؤسسات في إطار المواطنة والوطنية  لصد انفراط  التوازن الذي يهم المحتل. وبغير الهوية الوطنية لا يمكن الحفاظ على مكتسبات يتفاخر بها الفلسطينيون، أما وقد غدت عباءة العشيرة مرعبة فهذا كارثي في مجتمع  يسعى للتحرر من المحتل، بينما هو ما زال يجلد باسم العشيرة  ومحاصر الجو والبحر والبر.

التعليقات