03/04/2020 - 19:47

هل من نافذة أمل للتغيير ما بعد وباء كورونا؟

فرصة لقوى التغيير والثورة، لمراكمة رصيدها وتوسيع قاعدتها الشعبية، وتصعيد نشاطها الدعائي والتوعوي والتثقيفي، في إطار مسيرتها التحررية. هي فرصة جديدة، للقوى والشعوب الطامحة للحياة، لا للموت.

هل من نافذة أمل للتغيير ما بعد وباء كورونا؟

لم ينتظر الحالمون بعالم جديد، ونحن منهم، مآلات جائحة فيروس كورونا، ليرسموا في مخيلتهم نظاما عالميا أكثر رحمة، وأقل وحشية. فقد باشر البعض منهم باستشراف نظام أفضل، وبعضٌ آخر يستشرف وضعًا عالميًا أكثر شؤمًا. فكما في كل الأزمات الكبرى، كالحروب والأمراض الفتاكة، فإن أفكارًا كانت تبدو مستحيلة التحقق، تصبح مقبولة خلال هذه الأزمات، هذا ما لاحظه العديد من المؤرخين والمفكرين من قراءتهم لحركة التاريخ الإنساني، في الماضي القريب وفي العصر الحالي. فقد داهمنا وباء كورونا والنظام العالمي غارق في ذروة سقوط أخلاقي مُريع، ينهب ويقتل، يستغل ويتنصل من مسؤولياته تجاه الإنسانية دون إبداء أي اكتراث بصوت الضمير، وصرخات الاستغاثة الصادرة عن معذبي الأرض والمقهورين، تلك الأصوات التي يتردد صداها منذ عشرات السنين في جميع جنبات الأرض.

وبدا أن الفئة الوحيدة التي لم تواجه سؤال ما العمل، هي الطواقم الطبية والعاملين في الحقل الصحي بشكل عام، التي وقع عليها عبء التصدي للوباء ميدانيًا، وتكون وجهًا لوجه أمام هول الكارثة، وعرضة للخطر المباشر. وتتصدر الدولة، المتهمة بالقصور، المسؤولية عن مهمة تنظيم المواجهة، واتخاذ الإجراءات والتدابير لمنع انتشار الوباء. ومن ناحية ثانية، تزخر المنابر الإعلامية والأكاديمية والثقافية، بمساهمات وجدالات وحوارات وتحليلات، عن العوامل والمقدمات التي أوصلت العالم إلى هذا العجز، وهذا القصور الفاضح في مواجهة الوباء، والاستعداد له مسبقًا، ويتبعها إما اقتراحات لإجراءات عينية، تُختزل في إجراء تعديلات على النظام الرأسمالي النيوليبرالي القائم، وأخرى بمثابة تصورات شاملة تستهدف استبدال هذا النظام بنظام أكثر عدالة، يقوم على التوجه الاشتراكي، والذي عرف تنوعا واسعًا. ويستند هذا التوجه، إلى حجة قوية ترى بنظام الخصخصة النيوليبرالي مسؤولا عن خصخصة وتسليع صحة الإنسان، لأن دينه وديدنه الربح ومراكمة الأرباح.

ويمكن، بسهولة، ملاحظة عودة الصوت الاشتراكي بمضمون ديمقراطي إنساني إلى الواجهة، في العقدين الأخيرين، خاصة في الغرب وتحديدًا بين الحركات الاجتماعية المناهضة للعولمة، والتي اكتسبت زخماً، في أواخر التسعينات (والتي تراجعت بعد فترة وجيزة)، على خلفية تعاظم الفجوات الاجتماعية، وبعد أن تناثرت أوهام نهاية التاريخ الفوكويامية ومقولة انتصار الرأسمالية النهائي، التي ازدادت انفلاتًا وشراسة وقسوةً، بعد تفرد الرأسمالية الإمبريالية الأميركية في الهيمنة على النظام العالمي، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.

وتمظهر سقوط هذه الأوهام، في فشل هذا النظام في تحقيق ما وعد به من تعميم الديمقراطية والرخاء والسلام، وفي تصاعد الحروب العدوانية الخارجية، وفي تدمير الدول، وفي تجويف مؤسسات الديمقراطية الغربية المؤسساتية (البرلمان والصحافة والقضاء) والشعبية (النقابات العمالية، والتنظيمات المهنية الأخرى) من بُعدها التمثيلي للشعب. وبالتالي، تحولت الشركات الكبرى غير المنتخبة إلى القوة التي تُملي على الناس نمطا حياتيا استهلاكيًا فردانيًا غير عادل وغير إنساني، وتوسع نطاق اللامساواة تجاه غالبية المواطنين، وبات اصطلاح سيطرة 1٪ مقابل 99٪ ، متداولاً في خطاب حركات الاحتجاج العالمية. وقد أعادت ثورات الشعوب العربية، التي كان باعثها ولا يزال، توأم الاستبداد والفقر، الابن الشرعي للنظام الرأسمالي النيوليبرالي، تسليط الأنظار إلى عطب هذا النظام العالمي، من خلال انتقال عدوى هذه الثورات والانتفاضات إلى دول الجنوب الأوروبي، والى داخل أميركا نفسها ( حركة "احتلوا وول ستريت" مثالاً).

عقبات وتحديات

ولكن أحلام الداعين إلى نظام عالمي جديد، تصطدم بمجموعة من العوائق والتحديات الأيديولوجية والفكرية والعملية، منها وأهمها، عدم توافق هؤلاء الداعين إلى العدالة إلى رؤية واضحة، وبرنامج واضح لنوع النظام البديل، وفشل قوى يسارية وصلت إلى الحكم عن طريق صندوق الانتخابات في تقديم بديل حقيقي.

ففي أميركا اللاتينية، واجهت الموجة اليسارية الشعبوية التي اجتاحت معظم دول القارة في العقد الأول من الألفية الثانية، هزيمة نكراء أمام تيارات اليمين القومي الشعبوي، المدعوم أميركيًا، والذي نهض على خلفية تضافر قصورات الثورة من ناحية، والتدخل الأميركي التخريبي من ناحية أخرى. نعم، كانت هناك محاولات تحررية جريئة، تحررية اجتماعية، غير أنها افتقدت إلى المقدرة على الإبداع، وحاليا تواجه أبرزها، أي التجربة التشافيزية، نسبة إلى القائد ألراحل هوغو تشافيز، صراع البقاء، في مواجهة القوى اليمينية الداخلية المسنودة بحصار أميركي.

يضاف إلى ذلك تعثر الثورات العربية، التي كان من شأن انتصارها أن تشكل إنجازًا للشعوب العربية، ولكل الشعوب والقوى التي تكافح ضد الاستبداد، وضد النظام الإمبريالي الرأسمالي المتوحش والاستعمار.

كما أن عدم تمكن اليساري جيرمي كوربن، قائد حزب العمال البريطاني، من الفوز برئاسة الحكومة، وكذلك محاصرة بيرني ساندرز الاشتراكي، وسدّ الطريق أمامه للفوز بالترشح عن الحزب الديمقراطي الأميركي، يزيد من التحديّات، ويُضيف خيبات أمل جديدة من إمكانية زعزعة أركان المؤسسة الحزبية الأميركية، في الأمد المنظور، والمرتبطة في نهاية المطاف بالدولة العميقة ومجمع الشركات الكبرى، في هاتين الدولتين الرأسماليتين الحليفتين، ويؤخّر تحقيق اختراق في أحد جدران النظام النيوليبرالي الظالم.

أما التحدي الكبير الآخر، فهو غياب قطب عالمي يتبنى رؤية أخلاقية لنظام عالمي جديد، إلى جانب حسابات المصالح الاقتصادية والجيوإستراتيجية. فقد سقطت روسيا بعد الفشل المدوي للحزب الشيوعي السوفييتي في تحقيق الاشتراكية والديمقراطية، في خانة نظام رأسمالي سلطوي، لا يأبه بحقوق الإنسان، ولديها علاقات أمنية وثيقة مع نظام الاستعمار الصهيوني، ومعادية للثورات العربية.

أما الصين، التي كانت تتبنى شيوعية خاصة بها، فقد باتت دولة قومية رأسمالية في ظل نظام شمولي سلطوي، يقوده الحزب الشيوعي. صحيح أن ألرأسمالية الصينية التي يتحكم الحزب بأركانها، نهضت وبصورة مدهشة من دون المرور بمسيرة الحروب الكبيرة، الكولونيالية والإمبريالية الإبادية وتدمير البيئة، التي مرت من خلالها الرأسمالية والعولمة الغربية. وصحيح أيضًا، أنها نشلت مئات الملايين من مواطنيها من الفقر المدقع، ولكن معظم التطور مُتركز في الحيز الحضري (المدن الكبرى)، وهناك لا يزال مئات الملايين يعانون الفقر، ناهيك عن ظروف العمل القاسية. ويجدر التنويه أنه في السنوات القليلة الماضية ترتفع أصوات كثيرة من داخل مجلس الشعب الصيني، التي تتهم الحكومة ببيع مصالح الصين إلى قوى السوق، وتدعو إلى إعادة وتقوية دولة الرفاه لمنع تطور مشاعر الحرمان والفقر السائدة بين شرائح واسعة، إلى عدم استقرار اجتماعي واسع. من المؤكد أن تناقضات الرأسمالية الصينية، التي تحمل دينامية التوسع والانفجار ستفرض نفسها على القيادة الصينية، وستضطر إلى العمل على معالجتها عاجلا أم آجلا.

خاتمة

يتوقع كثر من المراقبين والباحثين والمفكرين، أن تجري إعادة نظر في بعض أوجه سلوك النظام العالمي الراهن، ولكن هناك من يتوقع أن يصبح العالم ما بعد كورونا، أكثر قومية وانغلاقًا وأقلّ حريةً وتعاونًا بين الدول. ولكن لا شك أن ازمة مواجهة الوباء، مضافًا إلى كل أزمات نظام العولمة، تفتح فرصًا لأفكار ثورية كبيرة. صحيح أن قوة الدولة يمكن أن تنمو، كون حجم الأزمة يدفع الجميع بالاستعانة بالسلطة/ الدولة، ولكنها أيضًا فرصة لقوى التغيير والثورة، لمراكمة رصيدها وتوسيع قاعدتها الشعبية، وتصعيد نشاطها الدعائي والتوعوي والتثقيفي، في إطار مسيرتها التحررية. هي فرصة جديدة، للقوى والشعوب الطامحة للحياة، لا للموت.

التعليقات