15/04/2020 - 10:06

الكاتب في مجتمعه.. بين الاحتجاج والمقاومة

وهي راجعة إلى تهرّبه من تشخيص الفارق المبدئي بين الاحتجاج والمقاومة، فالاحتجاج ردة فعل، حتى وإنْ كانت حادّة على فظائع جرت أمام ناظري الشاهد، لكن المطلوب أبعد من ذلك، وهو المقاومة التي تُعدّ أخلاقية أكثر، وتشمل الاستعداد لدفع الثمن

الكاتب في مجتمعه.. بين الاحتجاج والمقاومة

على هامش أزمة فيروس كورونا في إسرائيل، تسنّت لي متابعة واقعتين تسلّطان أضواء جديدة على دور الكاتب في مجتمعه ما بين الحاضر والماضي، وتحديدًا من زاوية رؤية هذا الدور وفقًا لمقاربة أندريه مالرو التي اعتبرت الأدب والثقافة عمومًا بمثابة الجواب الذي يقدّمه الإنسان لدى سؤال نفسه عمَّا يفعله على هذه الأرض.

الأولى، تأييد الكاتب ديفيد غروسمان انضمام رئيس حزب أزرق أبيض، بيني غانتس، إلى "حكومة وحدة وطنية" برئاسة بنيامين نتنياهو، بمسوّغ أن هذه هي إرادة الشعب التي عبّر عنها في ثلاث جولات انتخاب خلال أقل من عام، وأن أزمة كورونا ستؤول، عاجلًا أو آجلًا، إلى تجميل النفس البشرية، بما في ذلك النفس المتطبعة بالتطرّف القومي. وتباينت ردات الفعل على هذا التأييد الصادر عن "الكاهن الأكبر لليسار الإسرائيلي"، كما يوصف غروسمان منذ وفاة كاتب إسرائيلي آخر حاز هذا الوصف، عاموس عوز، بين مناصرين ومعارضين، وداخل الأخيرين ثمّة من اعتبر ذلك بمنزلة خيانة كبرى، وثمّة من استفظع خيبة الأمل حيال فعلة هذا الكاتب، مشيرًا إلى أنه إذا كانت خطوة غروسمان هذه أقرب إلى الإثم، فإنها لا تضبّب إثمًا قد يكون أكبر هو الاستمرار في رؤية الكتّاب، بوصفهم أناسًا يُحسنون خلق عوالم خيالية أو أنبياء سياسيين. وهي رؤيةٌ لا تنفكّ تؤجّج الاعتقاد الشائع أن الكاتب ينطوي على قوى متبصّرة أبعد مدى من جموع الشعب. والقرن العشرون الفائت كان حافلًا ببراهين على خلل هذه الرؤية، وجميعها أتى من كُتّاب ينتمون إلى معسكر اليسار، لعلّ أبرزهم الذين أيّدوا نظام ستالين الاستبدادي، مع أنهم لم يكونوا عرضة للنفي، أو لأن يعلقوا على أعواد المشنقة، بخلاف الشاعرة آنا أخماتوفا التي طردها ستالين من روسيا، ولكنها اضطرت إلى مدحه، من أجل كسب عطفه لإطلاق سراح ابنها الوحيد الذي اعتقل وزُجّ في "الغولاغ".

الواقعة الثانية استعادة أستاذ الأدب حنان حيفر النقد الحادّ الذي وجهه الناقد شلومو تسيمح (1886- 1974) إلى الدور الذي اضطلع به الكاتب الإسرائيلي في مجتمعه في الماضي، عبر التطرّق إلى رواية س. يزهار "خربة خزعة" التي تحكي قصة طرد سكان قرية باسم خربة خزعة، وهو اسم لقرية خيالية تمثل القرى الفلسطينية التي هُجرّت في أثناء نكبة 1948، وتجسّد لا أخلاقية جنود الجيش الإسرائيلي إبّان عمليات الطرد. ونشرت الرواية عام 1949 وكانت أول نصّ أدبيّ إسرائيلي يتناول هذا الموضوع (ترجمها إلى العربية توفيق فياض، وصدرت عن دار الكلمة في بيروت عام 1988).

يرى تسيمح أن يزهار كان في ذلك الوقت ضابط الثقافة، ولا شك في أنه كان مسلحًّا بمسدس، وهو يحكي (في الرواية) عن حادثةٍ كان شاهدًا عليها، كيف يقتلون نساء وأطفالًا. ولو استلّ بطل القصة آنذاك مسدسه، وأطلق النار على الضابط الذي قتل النساء والأطفال العرب، وحوكم لاحقًا على ذلك، لانطوت القصة على دلالة أخلاقية جديرة. لكن ما الذي فعله الكاتب؟ لم يحرّك ساكنًا، وتصرّف خلافًا لواجبه الإنساني، وتظاهر بأنه جاء ليدافع عن العائلات العربية، باعتباره حامي حمى الأخلاق. وهذا لا يمكن قبوله.

ويستنتج حيفر أنه حتى لو كان ما قاله تسيمح ليس دقيقًا فيما يتعلق بمسألة التماهي بين الكاتب وبطل روايته، وبعمليات قتل النساء والأطفال، فهو أشار إلى معضلةٍ مبدئيةٍ بشأن طريقة عرض المسائل الأخلاقية في كتابات يزهار وغيره من الأدباء الإسرائيليين منذ النكبة. وهي راجعة إلى تهرّبه من تشخيص الفارق المبدئي بين الاحتجاج والمقاومة، فالاحتجاج ردة فعل، حتى وإنْ كانت حادّة على فظائع جرت أمام ناظري الشاهد، لكن المطلوب أبعد من ذلك، وهو المقاومة التي تُعدّ أخلاقية أكثر، وتشمل الاستعداد لدفع الثمن مقابلها.

التعليقات