الطرد أم الأبرتهايد؟ العوامل الدافعة والعوامل الكابحة

وقت ليس فيه أية قوى يهودية جدية داخل إسرائيل تقف ضد ما يجري في ضوء استفادة الصهاينة في إسرائيل على المشروع الصهيوني وإن بدرجات متفاوتة. يجعل كل ذلك الفلسطينيين عرضة للمواقف الثلاث المتراوحة بين الاستيطان الاستعماري البحت، أو الانتقال منه

الطرد أم الأبرتهايد؟ العوامل الدافعة والعوامل الكابحة

منذ نشوء القضية الفلسطينية في القرن التاسع عشر وحتى اليوم، تمثلت تلك القضية بأن منشأها لا يعود إلى شعبها فقط، بل هي قضية ابتدعت لهذا الشعب من خارجه، لذا لا يوجد شيء اسمه المشكلة الفلسطينية، وإنما هنالك مشكلة الاستيطان الاستعماري الذي فُرِض على فلسطين من خارجها، بدءًا بالمستوطنات الاستعمارية التي أقامها كل من الأنجليكانيين الألمان والأميركان في فلسطين، منذ بداية القرن التاسع عشر، للتمهيد للاستيطان الصهيوني اللاحق فيها. وقد خلق هذا الاستيطان الاستعماري منذ البداية ما أُطلق عليه اسم "المشكلة العربية" التي تحول دون توسّعه، ومنذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم عالج هذه المشكلة بأساليب الاستئصال والترحيل الداخلي والخارجي، بما في ذلك عمليتي الترحيل الكبيرتين في عامي 1948 و1967ولا تزال عمليات الترحيل هذه مستمرة حتى اليوم، ولكن الشعب الأصلي لم ينهزم رغم كل ما تم تنفيذه من أعمال اقتلاع ومجازر وتطهير عرقيّ وتطهير مكانيّ.

وفي المشهد الإسرائيلي لما يسمى بأحزاب اليمين اليوم، هنالك ثلاثة توجهات بشأن مصير الشعب الفلسطيني، اثنان لا يزالان يمثّلان الأقلية ضمن معسكر "اليمين" المذكور، والثالث هو المهيمن . الأول هو الموقف الداعي للقيام بعملية طرد جديدة للفلسطينيين من بلادهم والذي تدعو له أوساط من المستوطنين وأحزابهم كحزب "تكوما" العضو في كتلة "يمينا" والذي يرأسه بتسلئيل سموتريتش، وأوساط من حزب "البيت اليهودي" العضو أيضا في كتلة "يمينا" والذي يقوده رافي بيريتس ، وحزب "عوتسما يهوديت" المنبثق عن حركة "كاخ" ويقوده إيتمار بن غفير، وحزب "يسرائيل بيتينو" بقيادة أفيغدور ليبرمان الذي يدعو لطرد فلسطينيي المثلث عبر تبادل للأراضي. هذا الموقف الداعي للاستحواذ المنفرد على فلسطين سنسميه هنا باسم الموقف الاستيطاني الاستعماري البحت.

يدعو الموقف الثاني إلى فرض الجنسية الإسرائيلية على فلسطينيي الضفة كليا أو على المنطقة ج بالحد الأدنى، مع ترك غزة جانبا، وهو ما سنسميه بالموقف الداعي للانتقال من الاستيطان الاستعماري إلى الأبرتهايد نظرا لأن الجنسية التي يدعو لفرضها لن تترتب عنها حقوق مواطنة متساوية مع اليهود في دولة إسرائيل، ويدعو لهذا الموقف الثاني أوساط أصبحت هامشية من الليكود، والتي يمثلها رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، والوزيرة تسيبي حوتوفيلي وآخرين، إضافة إلى أوساط من حزب "يمينا" ولا سيما نفتالي بينيت وآييلت شاكيد، بالإضافة إلى الصحافية في صحيفة "الجروساليم بوست"، كارولين غليك التي ألّفت كتابًا عنونته باسم "الحل الإسرائيلي: دولة واحدة للسلام في الشرق الأوسط"، الداعي لضمّ كل الضفة وتجنيس كل فلسطينييها بالجنسية الإسرائيلية، كما يدعو لنفس الطرح يوعاز هندل من حزب "ديريخ آرتس" المنشق عن حزب "تيليم" الذي يرأسه موشيه يعلون، وكذلك الحاخام، حاييم دروكمان.

الموقف الثالث وهو الموقف المهيمن، يمثله الليكود وقيادته الرسمية التي يقودها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، كما يدعو له حزب "تيليم" برئاسة موشيه يعلون وأوساط من حزب "ديريخ آرتس" يقودها تسفي هاوزر، جنبا إلى جنب مع الأحزاب الدينية. ويدعو هذا الموقف إلى استمرار الاستحواذ على الأرض ولكن بدون منح حقوق المواطنة والجنسية لفلسطينيي الضفة، كما أنه يرفض منحهم حتى حقوق الإقامة الدائمة التي فرضت على فلسطينيي القدس الشرقية بعد حرب حزيران من عام 1967. وسنُسمّي هذا الموقف بالموقف الاستيطاني الاستعماري الممزوج بممارسات الأبرتهايد التي تشمل الاستثناء السياسي، والتهميش الاجتماعي والتمييز القانوني.

الموقفان الأول والثاني واضحان، ويكشفان عن أجندتهما بسفور، أما الموقف الثالث المهيمن فهو يراوغ ويبقي وضع الفلسطينيين معلقا بدون حقوق وفي إطار "المسكوت عنه" إلى حين ظهور ظروف ناضجة لمعالجته.

الموقفان الأول والثاني، لا يلتفتان للمواقف الإقليمية والدولية، أو على الأقل يتعاملان معها على أنها غير قادرة أو غير مستعدة لتحدي ما تفعله إسرائيل لتغيير مساره. كما أنهما لا يعيران اهتماما للديمغرافيا الفلسطينية، فالأول يريد حل هذه المشكلة من خلال مزيج من أساليب الطرد الصامت، والطرد الذي يأتي تحت الضغط ولكنه يظهر على أنه هجرة اختيارية، أو الطرد من خلال الإبعاد الفردي والجماعي في فترة حرب أو حتى بدونها. أما الثاني فقد طور خطابا ديمغرافيا جديدا يحاجج فيه بأن نسبة الزيادة السكانية في إسرائيل بسبب الولادات الكثيفة في صفوف الحريديين باتت أكبر من نسبة الزيادة السكانية للفلسطينيين، وهو ما سيؤدي بالتالي إلى تكوُّن أغلبية سكانية يهودية واضحة في العقدين القادمين وذلك رغم منح الجنسية الإسرائيلية لكل الفلسطينيين.

الموقف الثالث، لا يعير اهتماما كبيرا للمواقف الدولية، ولكنه مع ذلك يريد تنسيق خطواته قدر الإمكان مع الدولة الأم للدولة الاستيطانية الاستعمارية الإسرائيلية، وهي الولايات المتحدة الأميركية. والهدف هنا هو أن لا يقف وحيدا بدون سند يقيه من القضاء الأممي.

وعارض هذا الموقف الثالث بعض مواقف الولايات المتحدة في عهود رؤساء أميركيين سابقين كباراك أوباما، ولكن حتى في عهد أوباما تمكن هذا الموقف الثالث من الحفاظ على موقف أميركي داعم يمنع تقديم إسرائيل والإسرائيليين للمحاكم الدولية. ويريد هذا الموقف الحفاظ على هذا الدعم الأميركي لمنع نزع الشرعية عن إسرائيل كما حصل مع النظام العنصري السابق في جنوب أفريقيا.

من المثير ملاحظة كيفية تفاعل هذه المواقف الثلاث مع فكرة ضمّ 30% من الأراضي الفلسطينية، ضما رسميا إلى إسرائيل حسب القانون الإسرائيلي. الموقف الداعي للطرد الداخلي والخارجي ومنع إقامة دولة فلسطينية خاضعة للسيادة الإسرائيلية دعى لرفض صفقة القرن لأنه يريد أكثر منها وهو ضم كل الضفة رسميا بعد أن تم ضم أجزاء كبيرة منها فعليا وهذا ما ظهر في تحركات الغالبية من مجالس المستوطنات ضد صفقة القرن والذي يرى الضمّ الفعلي الذي تم منذ زمن، ويطرح ترسيم الضم في الضفة ومنع إقرار إنشاء دولة فلسطينية الآن، والضغط لصفقة أفضل مع أميركا تتيح ذلك. أما الموقف الثاني فهو يدعو أيضا لضم كل الضفة ولكنه لا يشهر رفضه لصفقة القرن. وأخيرا إن الموقف الثالث، يوافق على ضم ما تتيح له الإدارة الأميركية من أراض، مع السعي من خلال اللجنة الأميركية الإسرائيلية المشتركة حول هذا الموضوع لزيادة نسبة الأراضي التي يتم ضمها إلى ما بتجاوز الـ30%، وبعد ذلك يريد هذا الموقف إقناع الولايات المتحدة بمرحلة ضم أخرى ثانية، ربما تتلوها ثالثة وهكذا. هذا كله مع ترك وضع "السكان الفلسطينيين" معلقا إلى حين.

معنى ما تقدم أن الموقف الثالث يريد تحقيق ما يريده الموقف الأول بتدرج، ولكنه في ذات الوقت يرفض الموقف الثاني بمنح الجنسية الإسرائيلية للفلسطينيين، ما يقود إلى الاستنتاج أنه أقرب للموقف الأول بشأنهم أي طردهم من بلادهم حين تنضج ظروف مناسبة لذلك بالتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية.

الاستثناء الظاهر من هذا النقاش بين المواقف الثلاث المذكورة هو غزة، ولكنه استثناء شكلي عندما يُنظر للأمور بعمق، إذ يرفض الموقف الثاني منح الجنسية الإسرائيلية لفلسطينيي غزة، أما الموقف الأول فيرى بعضه ضرورة طردهم خلال أقرب فرصة حرب على غزة، كما أن الموقف الثالث يطرح التخلص التدريجي منهم عبر ما سماه نتنياهو بالتهجير الطوعي لهم، ودعوته خلال زيارة لأوكرانيا في آب 2019، إلى السعي لتوفير دولة أو دول تقبل رحيل فلسطينيي غزة إليها. في إطار هذا الجدل تطرح أحيانا فكرة إنشاء كيان فلسطيني في غزة، ولكن طرحها ليس إلا تكتيكا سياسيا إسرائيليا يهدف لإبقاء الانقسام الفلسطيني الداخلي قائما عبر زرع أوهام لدى قيادة حماس في غزة تجعلها غير متحمسة لمعالجة هذا الانقسام.

هذه المواقف الثلاث تحظى بدعم ما لا يقل عن 64 عضوًا في الكنيست. ولا يعني ذلك أن من هم خارج هذه الكتلة يوافقون على حق تقرير المصير والدولة الفلسطينية المستقلة، فحزبا "كاحول لافان" و"يش عتيد" يطرحان ضمّ ما يسمونه بالقدس الكبرى والكتل الاستيطانية وغور الأردن إلى إسرائيل، على أن يقابل ذلك الانفصال عن الكتل السكانية الفلسطينية في ظل غياب إمكانية تحقيق حل سياسي وشيك حسب ادعائهم، ويتفق معهم في ذلك حزب العمل "بنسخته" الحالية. يعني ذلك وجود 102 عضو كنيست يؤيدون ضم أجزاء متفاوتة من الضفة إلى إسرائيل وهو ما يجعل أي تسوية سياسية مع الجانب الفلسطيني مستحيلة حتى لو دعت بعض هذه الأطراف لاستمرار التفاوض مع الجانب الفلسطيني وهو التفاوض الذي تمت تجربته مرات ومرات في الماضي وفشل في كل مرة. ويمثل هؤلاء قوام أعضاء الأحزاب المذكورة أعلاه، والمشمولة في الكنيست الإسرائيلي. ويبقى "الألطف" بعد ذلك في إطار الحركات الصهيونية حركة "ميرتس" بأعضائها الثلاثة في الكنيست والتي ترى أن الفرصة متاحة دائما لإجراء مفاوضات على أساس حل للدولتين يستند إلى صيغ لتقاسم القدس الشرقية وتعديل الحدود بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، مع رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل. مواقف ميرتس هذه من قضايا القدس واللاجئين قد لا تؤدي إلى اتفاق مع الجانب الفلسطيني فيما لو قادت ميرتس المفاوضات من الجانب الإسرائيلي، وهو ما لا يبدو ممكنا في ظل التآكل المطّرد في قوتها داخل إسرائيل. وتبقى بعد ذلك القائمة المشتركة بأعضائها الـ15هي الوحيدة خارج هذا الإجماع الصهيوني وتقف في مواجهته.

لعلّ المشترك بين هذه المواقف الإسرائيلية التي يمثلها 102 عضو كنيست على الأقل هو طرحها الحالي لما تسميه بمشروع "الانتصار التام على الفلسطينيين" الذي تطرحه أوساط ما يسمى باليمين الإسرائيلي منذ بداية العقد الثاني من القرن الحالي، وسعيها للاستحواذ على مزيد من الأراضي الفلسطينية في ظل القناعة بأن مقاومة الفلسطينيين لم تعد فعالة بما يشكل عثرة أمام ذلك، وأن العالم العربي لن يتجاوز مواقف التنديد إلى الفعل، وأن العالم الأميركي والأوروبي المسؤول عن قيام إسرائيل، سيختار إما التنديد لفظيا أو الصمت، أو أنه سيدعم خطوات إسرائيل، هذا في وقت ليس فيه أية قوى يهودية جدية داخل إسرائيل تقف ضد ما يجري في ضوء استفادة الصهاينة في إسرائيل على المشروع الصهيوني وإن بدرجات متفاوتة. يجعل كل ذلك الفلسطينيين عرضة للمواقف الثلاث المتراوحة بين الاستيطان الاستعماري البحت، أو الانتقال منه إلى الأبرتهايد، أو المزيج بين الاستيطان الاستعماري والأبرتهايد.

ما العمل تجاه هذه الصورة، ومن أجل بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه وتحقيق تحرره؟ كما ورد في مقالة سابقة هنا: يبقى الكفاح الفلسطيني من خارج المشروع الصهيوني هو الأداة الرئيسة للنضال الفلسطيني، أما السعي لتغيير النظام الصهيوني من داخله فلن ينتج كما أفادت التجربة منذ عام 1948 وحتى اليوم حقوقا سياسية جماعية، وإنما سيترتب عليه تحقيق إنجازات في قضايا يومية، أو ضغط لمفاوضات بين أطراف غير متماثلة كتجربة دعم حكومة إسحاق رابين في التسعينيات لتمرير اتفاق أوسلو الذي أدى تطبيقه إلى نتائج كارثية.


* د. وليد سالم، كاتب وباحث من القدس.

التعليقات