03/08/2020 - 12:30

الثنائيات الفلسطينية والعقلية السجالية

ألا يهيّئ هكذا تكامل تراكما كفاحيا لاستمرار النضال لاحقا من أجل دولة واحدة في كل فلسطين تقوم على أساس إنهاء المشروع الاستيطاني الاستعماري بها؟ ولماذا رفض المرحلية بصورتها المقاومة بهذا الاتجاه؟

الثنائيات الفلسطينية والعقلية السجالية

(أ ب)

تناقش هذه المداخلة مشكلة التفكير الثنائي السائد في السجال الفلسطيني وذلك من خلال ثلاثة أمثلة هي: إما العودة أو تقرير المصير، وإما الدولة الواحدة أو الدولتين، وإما التحرر الوطني أو البناء الوطني. وكأنّه لا يوجد طريق ثالث يمكن أن يشكّل مخرجًا من هذه الثنائيات المتقابلة، وبالتالي مخرجًا من لعنة الإجابة عن سؤال "ما العمل؟" بما هي متمثلة في عدم القدرة على العمل معا وتصريف الخلاف في إطار الوحدة بديلا من العمل المتشرذم المتوازي كما طرحت في مقالة سابقة لـ"عرب ٤٨".

بديلًا عن ثنائية "إما حق العودة وإما حق تقرير المصير"، كان الطريق الفلسطيني الدائم هو جمعهما معا في وحدة لا تنفصم تقول بالعودة وتقرير المصير معا. ولهذا كان أن كتب أحد علماء تاريخ الشرق الاوسط الإسرائيليين، هو أشر سوسر، بأن المشكلة التي منعت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية من الوصول إلى حل تتمثّل في أن نقطة انطلاق إسرائيل في المفاوضات تبدأ من ملف عام 1967، فيما يبدأ الفلسطينيون من ملف عام 1948 أي النكبة وحق العودة (سوسر، 2016). يحمل قول سوسر مغزى مهمًّا فحواه أنه حتى خلال المفاوضات لم يحصر المفاوضون الفلسطينيون طرحهم بدولة في حدود عام 1967، بل طالبوا أيضا بعودة اللاجئين إلى داخل إسرائيل. صحيح أن هذه المطالبة قُزّمت من المفاوض الفلسطيني إلى مجرّد السعي لعودة عدد رمزي من اللاجئين إلى داخل دولة إسرائيل، ما همّش حق العودة مقابل حق تقرير المصير. ولكن ذلك يشير، في الوقت ذاته، إلى أنّ إسرائيل لم تكن مستعدة حتى لقبول عودة عددٍ رمزي من اللاجئين إليها، واستمرت في اتّهام الجانب الفلسطيني بأن أجندته المضمرة تسعى لمعالجة آثار نكبة 1948 وليس فقط نكسة 1967. عدا عن ذلك، رفضت إسرائيل أيضا حق تقرير المصير في دولة مستقلة على حدود عام 1967. معنى ذلك كله أن على الفلسطينيين المثابرة في طرح حق العودة وتقرير المصير كوحدة واحدة بوصفهما يمثلان قاسما مشتركا للشعب الفلسطيني بأسره ويوحدان كفاحه معا على الشاكلة التي سيتم اقتراحها أدناه.

الثنائية الثانية تتعلق بالسجال حول "إما دولة واحدة أو دولتين". ولكن ألا يمكن أن يكون هنالك طريق ثالث بينهما، هو البدء بالدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 بدون تنازل عن حق العودة، وبالتالي جعل الدولة الفلسطينية مدخلا للانتقال إلى حل الدولة الواحدة اللاحق كما تقترح هذه المقالة أيضا أدناه.

وبشأن الثنائية الثالثة، حول العلاقة المتضادة المتصوّرة بين "التحرر الوطني والبناء الوطني"، فإنه بعكس ما يتداول، لم تكن الثورة الفلسطينية حالة مقاومة، ثم انتقلت منها إلى حالة تكنوقراطية لبناء الوطن مع نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1995، بل على العكس من ذلك، كان التكنوقراط عنصرا صميميا في الثورة طيلة تاريخها. وفي إطار ذلك امتزج العمل بتكامل أحيانا وبتناقض أحيانا أخرى بين مهمات التحرر الوطني وبين مهمات البناء الوطني التي تغيرت مضامينها في الأزمان والأماكن المختلفة لفعل الثورة الفلسطينية.

وبدءًا من تجربة الثورة الفلسطينية في لبنان، جمعت تلك التجربة بين الفدائيين المقاومين وبين التكنوقراط، الذين عملوا في مؤسسات منظّمة التحرير الفلسطينيّة المدنية، كـ"الهلال الأحمر" و"مؤسسة صامد" والمدارس التي أنشأتها المنظمة ومركز أبحاث منظمة التحرير إلى آخره. لا يتّسع هذا المجال القصير لتقييم تلك التجربة بسلبياتها وإيجابيّاتها، ولكن الأمر الذي كان واضحا أنها كانت تمزج بين هدف المقاومة والتحرير، وبين هدف البناء الوطني مفهوما في حينه على أنه يعني بناء الإنسان، وبناء أسس الحياة الكريمة اقتصاديا ومعيشيا وتعليميا للاجئين الفلسطينيين من أجل تمكينهم من مواصلة الكفاح الوطني وإبقاء جذوة حق العودة مشتعلة. وفي هذا الإطار، كان سهلا أن يجدَ المرء فدائيا يعمل في الوقت ذاته في "مؤسسة صامد" أو غيرها من المؤسسات المدنية للثورة. أي أن الفدائي والتكنوقراطي لم ينفصلا حتى في شخوص مختلفة في بعض الأحيان، وإن كان هناك أشخاص خصصوا لأعمال تكنوقراطية بحتة أيضًا.

ما عرفته تجربة الثورة الفلسطينية في لبنان عرفه أيضا الداخل الفلسطيني المحتل عام 1967، حيث جرى منذ بداية الاحتلال المزج بين المقاومة وبين العمل النقابي وبناء المنظمات الطلابية والنسوية وغيرها، وإطلاق مشاريع التنمية كمقاومة، وهو ما تعزز خلال الانتفاضة الأولى بشكل خاص، ما شكّل حائلا أمام الفصل الميكانيكي بين المقاومة وبين البناء الوطني معرّفا في حينه كبناء للثقافة والانتماء الوطني والمؤسسات الوطنية وممارسة التنمية والصمود وتثبيت الوجود كمقاومة. وتُوِّجَت هذه التجربة بالانتفاضة الفلسطينية الأولى إذن، التي جعلت فعل البناء الوطني من تنمية وبناء مؤسسات فعلا مقاوما، أيضًا، مرتبطا بمقاطعة منتوجات الاحتلال واستهلاك البدائل الوطنية لها.

ومثّل فلسطينيو الداخل (فلسطين 1948) نموذجا ثالثا للجمع بين مسؤوليات التحرر الوطني من خلال تشكيل لجنة المتابعة لبناء الأطر الكفاحية لتحقيق الحقوق الوطنية، ومسؤوليات البناء الوطني من خلال المؤسسات التي خُلقت لبناء الهوية والثقافة وحفظ التراث، كما تمت عمليات لبناء اقتصاد معتمد على ذاته نسبيا ويزيد بأضعاف عن اقتصاد الضفة وغزة كما تشير الدراسات الاقتصادية المختصة، وبذّ فلسطينيو الداخل الإسرائيليين في مجالات مختلفة كالطب والصيدلة وغيرها وشاركوا أندادًا في الحقل الأكاديمي وهكذا في تجربة انتقد بعض شوائبها أكاديميون عديدون من الداخل، سيّما لجهة مدى نجاعة العمل البرلماني ولكن لها بعض الإنجازات اللافتة التي يمكن للكل الفلسطيني التعلم منها كتجربة القائمة المشتركة المستندة إلى إدارة الخلافات في إطار الوحدة بديلًا للانقسام بسببها.

ورابعًا هنالك تجربة بعض الجاليات الفلسطينية في العالم والتي تمزج بين العمل في حركات التضامن والمقاطعة وسحب الاستثمارات كمقاومة، ولكنها في الوقت ذاته تبني الهوية والثقافة كعمليات بناء وطني دون أن يحول أمام ذلك حصولهم على جنسيات البلدان التي يعيشون فيها.

حصل انشطار بدون شك بين المقاومة وبين العمل التكنوقراطي، وبين التحرر الوطني والبناء الوطني وبين حق العودة وحق تقرير المصير بعد انتقال قيادة الثورة من الخارج إلى الداخل بعد اتفاق أوسلو، إذ تراجع عنصر المقاومة، ومعه تراجع الاهتمام بتوفير الحياة الكريمة للاجئين الفلسطينيين في الخارج، وتمّت تصفية "مؤسسة صامد" التي كانت تعنى بشؤونهم المعيشية، وأصبحوا عرضة للمهانة وانتهاك الحقوق ما جعل قسما منهم يتجه للبحث عن حلول فردية تتمثل بالهجرة وإنهاء حياة اللجوء.

انفجر هذا الانفصام بين مهمتي التحرر الوطني والبناء الوطني خلال انتفاضة النفق عام 1996، حين اشتبكت قوات الأمن الفلسطينية مع القوات الإسرائيلية في صدام دام بعد فتح إسرائيل نفقا تحت المسجد الأقصى. كما انفجر، مرّة أخرى، في الانتفاضة الثانية على مدى خمس سنوات بين عام 2000 إلى 2005. وتلا ذلك مرحلةً ساد فيها التوجه التكنوقراطي على حساب المقاومة، وأطلقت شعارات بناء المؤسسات فقط مع تهميش المقاومة وحصرها في مظاهرات موسمية استعراضية ضمن وهم أن مجرّد بناء المؤسسات سيحفز المجتمع الدولي على منح الشعب الفلسطيني دولة، وفي عام 2011 أصدر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي شهادتي جدارة بأن فلسطين أصبحت جاهزة مؤسساتيا لإقامة الدولة، ويعرف الجميع ماذا حصل بعد ذلك، حيث استمر الإمعان في تعزيز البيروقراطية والاعتماد على الدعم الخارجي والمقاصة من إسرائيل من أجل تمويل استمراريتها مع ما رافق ذلك من نشوء امتيازات وألقاب خلقت مصالح يدافع حاملوها باستماتة للحفاظ عليها. ويعرف الجميع أن المقاومة قُزّمت ضمن هذا الواقع لتصبح مجرد مقاومة تقنية لتحسين طرق إدارة النزاع مع الاحتلال في إطار استمراره.

يقتضي الواقع الحالي - لنقل دولة فلسطين من مستوى الوجود القانوني العالمي ممثلا باعتراف 141 دولة من العالم بها وعضويتها المراقبة في الأمم المتحدة، إلى الوجود الفعلي على الأرض - العودة إلى الصيغة السابقة للمزج بين مهمات التحرر الوطني ومهمات البناء الوطني بحيث يكونان في إطار المقاومة والصراع مع الاحتلال وبناء الدولة كخطوة أولى على طريق تفكيك المشروع الاستيطاني الاستعماري في كل فلسطين. لا أن يصبح البناء الوطني مجرد عمل ضمن المتاح الذي يسمح به الاحتلال.

ما هدفت له هذه المقالة القصيرة أمران: الأول هو الدعوة للخروج من الجدال السجالي بين ثنائيات متصادمة تنتج التشظي والتشرذم واستبدال ذلك بتصريف الخلافات ضمن الوحدة.

وهدفت هذه المداخلة، ثانيا، إلى القول إنّ أجندة العمل للتحرر الوطني والعمل للبناء الوطني معا هما أمران موحدان للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده كما تبين أعلاه، وهما عنصران يكمّل أحدهما الآخر وليسا متضادين ثنائيين، إما هذا أو ذاك. وهذا يتطّلب العمل عليهما معا لا في الضفة والقطاع فقط كما جاء في بيانات الانتفاضة الأولى عام 1987، بل في مخيّمات اللاجئين والجاليات في الخارج، وبين فلسطينيي الداخل ضمن أطر برامج متنوعة، ولكن يجمعها كلها معًا، في ذات الوقت، العمل على أجندة التحرر الوطني، مع أجندة البناء الوطني السياسي والاقتصادي والتنموي والثقافي المرافقة والمساندة للتحرر الوطني وذلك في إطار امتزاج حق العودة مع حق تقرير المصير كبرنامج موحد للشعب الفلسطيني كله، لا حلول الثاني محل الأول أو تقزيمه.

لربما من المناسب الانطلاق من هنا إلى أمرين: الأول هو إجراء تقييم معمّق لتجارب الجمع بين المقاومة وبين البناء الوطني كما جرت حتى الآن في مختلف مواقع تواجد الشعب الفلسطيني. والثاني: هو مناقشة آليات تحقيق برنامج العودة وتقرير المصير. وفي إطار هذا السؤال يمكن أن تناقش مسائل كثيرة منها ما يتعلق بالخصوصيات والتي يمكن أن يترتب عليها أسئلة معقدة على شاكلة:

أولا، في ما يتعلق بفلسطينيي الداخل: هل يعقل أن نطلب منهم التنازل عن الجنسية الإسرائيلية مثلا؟ أم الاحتفاظ بها على العكس كمدخل لاستمرارهم في المقاومة والبناء الوطني؟ ماذا حقّقت تجربة الكفاح الوطني والبناء الوطني وماذا لم تحقق هناك؟ وهل من الملائم، في ضوء تقييم التجربة، أن يطالب بعض فلسطينيي الداخل أشقاءهم في الضفة والقطاع والقدس بالانضمام إليهم، مطالبين إيّاهم، أيضًا، بالحصول على الجنسية الإسرائيلية ثم توحيد النضال معا من أجل دولة واحدة ما بعد أبارتهايديّة فارضين بذلك تجربتهم على أشقائهم بدون تقييم حقيقي مسبق لتلك التجربة ونتائجها؟ وبتنازل مسبق عن تفكيك الاستيطان الاستعماري قبل الانتقال إلى النضال من أجل المساواة في دولة واحدة؟

ثانيا، في ما يتعلق بفلسطينيي الضفة والقطاع والقدس الشرقية: هل يكتفى بالطلب من هؤلاء العودة إلى برنامج المقاومة وحمل عبئه لوحدهم، حيث كانوا حطب الثورة بعد انتقال مركزها إلى أكنافهم منذ ثمانينيات القرن الماضي؟ أم يتم الاعتراف، إلى جانب ذلك، بأن لهم حقوقا معيشية وتنموية وإنسانية كبشر؟ هل يمكن تطوير رؤية وممارسة لإعادة بناء غزة مثلا بعد ما فعلته بها ثلاث حروب تدميرية بين 2008 و2014 لا زالت آثارها قائمة حتى الآن؟ كيف نقيّم تجربة الحكم تحت الاحتلال؟ وما هي دروس هذه التجربة؟ وهل يجب أن ننكر حق هذا التجمع الهام من الشعب الفلسطيني في الكفاح من أجل دولة مستقلة على حدود عام 1967 طالبت بها الانتفاضة الأولى عام 1987، تحت عنوان الحرية والاستقلال، واعترفت بها 141 دولة من العالم ولا تشكّل بديلا لحق العودة بل خطوة باتجاهها يعززها ويراكم لها فلسطينيو الداخل من الآن عبر الكفاح لإعادة أهاليهم اللاجئين في الخارج، وذلك في نوع من تقسيم العمل وتقاسم عبء الكفاح وتحقيق التكامل بحيث يكافح فلسطينيو الضفة والقدس وغزة من أجل حق العودة وتقرير المصير معا كما دأبوا دائما، ويعطي فلسطينيو الداخل الأولوية للكفاح من أجل حق العودة إلى الداخل يشاركهم في ذلك اللاجئون الفلسطينيون والجاليات الفلسطينية في العالم.

ألا يهيّئ هكذا تكامل تراكما كفاحيا لاستمرار النضال لاحقا من أجل دولة واحدة في كل فلسطين تقوم على أساس إنهاء المشروع الاستيطاني الاستعماري بها؟ ولماذا رفض المرحلية بصورتها المقاومة بهذا الاتجاه؟ وغيرها من الأسئلة التي تتطلب نقل النقاش من مستوى الجدل السياسي المجرد فقط ليصبح نقاشا حول تجمعات الشعب الفلسطيني المختلفة وظروف كفاحها، وكيفيّة تطبيقها ضمن خصوصياتها وبشكل متكامل لأهداف العودة وتقرير المصير والمقاومة والبناء الوطني كأهداف مشتركة للكل الفلسطيني.

التعليقات