09/08/2020 - 18:32

حين يسكن الصمت في الإرادة: قراءةٌ في فعلٍ سياسيّ

أيضًا، فإن على من "جرفه التيار" أن يراجع نفسه، واختياراته الأخيرة والمقبلة، عبر مصارحة الناس وقواعده الشعبية، دون مكابرة وإعادة إنتاج للذات بمعزل عن الواقع، بما يملك، وبواقعهم السياسي الذي فرضته تطورات سياسية واجتماعية سريعة الوتيرة، لم يقدر على مواكبتها

حين يسكن الصمت في الإرادة: قراءةٌ في فعلٍ سياسيّ

من مظاهرة "قانون القومية" في تل أبيب (أ ب)

مدخل

ثمّة حالة من الأفول والصعود، أفول مرحلة وولادة أخرى. سقوط وبروز لخطابات. شيء يشبه "مرحلة انتقالية ما"، لم نعتد عليه، ويصعب علينا تحديده من داخله؛ في هذا، نشهد مَن جَرَفَهُ التيّار إثر ضياع الأهداف بعد مغادرة المنطلقات، ونلمس ولادة جديدة لتطلعات جيل كامل. وإن مسؤوليتنا، العامة والخاصة، تجاه هذه المرحلة تفرض ضرورة تناول أزمة الخطاب السياسي في الداخل الفلسطيني* من أجل بناء وعيٍ سياسيّ يمهّد لبدايةِ مرحلةٍ قوامُها تناول القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرّر وطني؛ ويكون الوطني فيها – أي المرحلة - واسعًا، لكي يتضمن عدالة اجتماعية حقيقية تشمل من يعاني اليوم من منظومة قمع مجتمعية يباح فيها القتل على طبائعه، واقتصادية باتت تنهش في مجتمعنا، من فقر وجريمة منظمة. وبتعبير آخر، فإن مسؤوليتنا تكمن في إعادة إنتاج المشروع الوطني ضمن عملية ولادة هذا الوعي وتلك التطلعات؛ وعي لا يفهم أي خلاف مع إسرائيل كتعبير عن فرق قيميّ وأخلاقي معها، ولا يرى صراعه مع المنظومة الصهيونية في ثنائيات خطابية مثل "قضايا يومية" و"قضايا وطنية"، بل يستوعب معاناة الناس اليومية كجزء عضوي من ممارسات النظام الصهيوني.

أزمة السياسية المحافظة

في هذه المقالة لن أتحدث عن حلم "شرائح" داخل التنظيمات والحركات الفلسطينية بالامتيازات التي يوفرها برلمان إسرائيل، بل سأتناول إعجاب التنظيمات ذاتها بدور التمثيل البرلماني للفلسطينيين في إسرائيل، أو للدقة، بوظيفتهم كمستعمَرين في هذه البلاد. فقد بات على التنظيمات السياسية أن تلعب دور المستعمَر كما تخرجه إسرائيل، في تعبيرٍ عن تكييفها مع واقع تتحكم إسرائيل بحقائقه. لم تعد العلاقة محكومةً بطبيعةِ وجودِ الأخيرة جسدًا استعماريًا في المنطقة، وبطبيعة القضية الفلسطينية كقضية تحرر، بل بدولة تعطي خدمات لأقلية تعيش فيها؛ وعلى هذه الأقلية أن تطالب بالمزيد من جهة، وأن تشعر بكثير من السعادة، مقابل هامش "السلطة" الممنوحة من الدولة من جهة أخرى.

هذه السياسة المطلبيّة تجري بموازاة الحديث عن تمسّكٍ بالهوية الوطنية كهويةٍ لا تتعامل مع تاريخها في هذه البلاد خارج سياق الفلكلور، بحيث تصبح الهوية متصالحة مع الاندماج في مؤسسات الدولة اليهودية "رغم العنصرية"، وبرفضٍ شعاراتيّ لطبيعة هذه المؤسسات، يضمن نقاوة هذه الهوية من "تطرف السياسة". هنا لا تعبر المساواة المنشودة عن نقض طابع وجوهر يهودية الدولة، بل عن إرادة في مواطنة إسرائيلية متساوية، يحق للفلسطيني عبرها أن يرقص بحرية في ساحة تُرسم حدودها إسرائيل.

خذ على سبيل المثال لا الحصر، التعامل مع سياسات الاحتواء الاقتصادي، التي تكثّفت في "سلطة التطوير الاقتصادي للوسط العربي - الدرزي- الشركسي" وخطة 922 الاقتصادية، التي رُهن تنفيذها بدخول أجهزة الدولة، وتحديدًا الشرطة أي الأمن، إلى قرانا ومدننا، ودرّ مئات الملايين في أي حقل يتحرّك خارج السياسة، كـ"إنجازات لمجتمعنا العربي"، وهي ما يمكن عبرها فهم التوجه الاستعماري في السنوات المقبلة. بعد هذه السياسات ارتفع معدّل التعليم، و"تحسّنت" حياة الناس - خاصة بعد مقارنتها بحياة من رُبط معهم فعلنا السياسي في الانتفاضة الثانية - الأمر الذي من المفترض أن يؤدي إلى انخفاض في الجريمة والعنف لو حصل في "مجتمعات طبيعية"، إلا أن هذا لم يحصل في المجتمع الفلسطيني، بل على عكسه، ارتفعت وتيرة العنف والجريمة. هنا يُسأل السؤال البسيط: لماذا؟ والجواب هو: لأنها سياسات دولة، بحكم تعريفها، قائمة على تفكيك مجتمعنا. أو خذ مثلا رئاسة لجان في الكنسيت كبديل عن بناء المؤسسات الوطنية والديموقراطية، والأمثلة كثيرة.

هذا الحيّز الذي تلعب فيه الأحزاب الفلسطينية في الداخل يؤدي إلى اختزال فعل الناس السياسي في التصويت للقائمة المشتركة، ويخلق صمتا في شوارع فرضت في الماضي القريب على إسرائيل التراجع عن مخططات لمصادرة الأراضي، ليقنعهم أن إرادتهم دون هذا الفعل الصامت (التصويت)، الذي يمر عبر السلطة، هي لا شيء، بالإضافة لهذا، فإنه يخلق فجوة كبيرة بين ما يفرضه سقف العمل البرلماني في إسرائيل، وبين أوهام تصدّرها القائمة المشتركة للفلسطينيين في حملاتها الانتخابية، ما يؤدي إلى اهتزاز ثقة الناس بالسياسة والعمل الوطني ككل.

القائمة المشتركة كتنظيم لشأن إسرائيلي داخلي

تكمن شرعية القائمة المشتركة، بشكلها الحالي، كأداة يتخيل عبرها فلسطينيو الداخل مصيرهم كمصير مرتبط بدولة إسرائيل. فقد جرى في السنوات الأخيرة تحطيم الكيانية السياسية لفلسطينيي الداخل، ليُضاف هذا "لإرث" استعماري تاريخي قائم على تفكيك المدينة الفلسطينية عبر ترييفها وإلحاق تطورها بتطور المدينة الإسرائيلية. بالتالي، أحكمت الدولة قبضتها على المجتمع الفلسطيني، كدولة طبيعية ناظمة له، وأصبح المواطن الفلسطيني لا يتخيل نفسه في علاقة مع شيء خارجها، أيًا كان هذا "الشيء". في المقابل، توجد هوية تشكّل عامود ثقافتها "هموم الناس اليومية". بهذا المعنى، تُسهّل هذه الهوية استهلاك دعايات الإعلام الإسرائيلي القائمة على تطبيع إسرائيل في وعينا، وتقصي كون هذه "الهموم" مشتقة من بنية الدولة العبرية. هذا الإقصاء يكرّس دور الضحية، الذي لعبته القيادات الفلسطينية في الداخل بدقّة خلال العقد الأخير (يُرى هذا الدور عبر الإمعان في ردٍّ شعاراتيٍّ مهزوم، قدّمته هذه القيادات احتجاجا على (وليس رفضا لـ) "قانون القومية"، أو "صفقة القرن"، أو أي مشروع آخر يهدد حياة الإنسان الفلسطيني).

في ظل هذه الشرعية، التي تتعامل مع الفقر والبطالة وأزمة السكن والقتل على أنها مجرّد "هموم مشتركة"، يمكن تخفيفها عند "أخذ الدولة مسؤوليتها تجاه المواطنين العرب"، يُسأل السؤال: ما هو دور القائمة المشتركة؟ والجواب هو: الاستثمار في هذه الشرعية، دون تصحيح أو معالجة.

هكذا أصبحت التنظيمات الفلسطينية في الداخل بمثابة وسيط جهوي بطريركي بين إسرائيل والشعب الفلسطيني في الداخل. وللتدقيق في هذا الوسيط، يمكننا أن نعاين "المفاخرة" التي نراها عند هذه التنظيمات، بعد تحصيل "إنجازات" لا تمنحها إسرائيل إلا بعد تقديم تنازل سياسي، أي بعد مقايضة حقوق الإنسان بواجباته كمواطن تجاه الدولة، وهذا أيضا افتراض آخر لعلاقة طبيعية بين الطرفين؛ وصلت هذه المقايضة أعلى مراحلها في توصية القائمة المشتركة - بمركباتها الأربعة - على بيني غانتس لتشكيل الحكومة، مقابل إلغاء أو تعديل قانون كمينتس أو تعديل "قانون القومية" أو "إسقاط يمينها المفترض". بينما كانت البطرياركية في تعريف القائد كأب "يحمي الناس ولا يحتمي بهم". بهذا المعنى، لا يكون التمثيل في البرلمان سياسيا**.

خاتمة

الآن بعد أن كان رد الأحزاب السياسي على انتهاك إسرائيل مرارا وتكرارا لحقّنا في الحياة، بصمت يصم الآذن، لا يمكن لمن يرفض في مستقبله منع هذا الانتهاك باستجداء شبر من السلطة ليعوم عليه، أن يقف مكتوف الأيدي، بل علينا أن نراكم على منجزاتنا التي باتت تتجسد في مؤسسات وحراكات شبابية تعالج قضايا الناس بشكل عينيّ، دون شعارات مكررة، بل بمحادثة عقولهم والدفاع عنهم في تفاصيل حياتهم، وإنتاج معرفة تنطلق من هذا الواقع لتقنع الفرد والمجتمع الفلسطيني أن حريته مشتقة من صنعه هو لإرادته وخياراته. أيضًا، فإن على من "جرفه التيار" أن يراجع نفسه، واختياراته الأخيرة والمقبلة، عبر مصارحة الناس وقواعده الشعبية، دون مكابرة وإعادة إنتاج للذات بمعزل عن الواقع، بما يملك، وبواقعهم السياسي الذي فرضته تطورات سياسية واجتماعية سريعة الوتيرة، لم يقدر على مواكبتها الفكرية والتنظيمية.


* كما أنها تفرض تناول إعجاب المستعمَر بدوه الأخلاقي كمقاوم للاستعمار، عبر قبوله بديمومة هذا "التفوق الأخلاقي"؛ وبكلمات سلافوي جيجك، عند وقوعنا في حب معاناتنا، من خلال اعتقادنا أنها في جوهرها دليل على أصالتنا، "فالعزوف عن الشهوة يمكن أن يكون بسهولة، بحد ذاته، شهوة العزوف"، وهذا "صنف" آخر من الإعجاب، إن صح التعبير، لن أتطرق له في هذه المقالة.

** هنا يُسأل السؤال: هل يمكن، بعد تطورات بنيوية شهدتها الخارطة السياسية في إسرائيل والمنظومة القانونية، في أيامنا، أن يكون التمثيل سياسيًا؟ والإجابة لا تكون بشكل اعتباطي، بل عبر قراءات واستنتاجات لتاريخ العمل السياسي في الداخل الفلسطيني.

التعليقات