30/08/2020 - 20:34

التطبيع العربي وفك الارتباط الثقافي

أخيرًا، إن كنا نؤمنُ بأن فعلَ المثقف المبدع لا يتأتى ويستمر إلا كنتاج طبيعي لقدرته واقتداره على حمل هموم وقضايا وطنه وشعبه، ومن قبل ومن بعد كافة القضايا الأخلاقية والقيمية الإنسانية بشكل أعم، فلا بدَّ من ترك الجزئيات على أهميتها

التطبيع العربي وفك الارتباط الثقافي

نعرفُ مسبقًا أن الآلهة ستتملصُ آجلًا أم عاجلًا من حملِ الخرافة، وأن الرب سيستنكف عن حشرجةٍ في صوتِ الآدمي وهو يُؤسس لتقديم الوجبة الثقافية على صحن "التسليع"، وهذا ما بات واضحًا في سياق مواجهة الفلسطيني -العربي الأخير على حد وصف واسيني الأعراج - مع آخر استعمار إحلالي عرفته البشرية.

فإن المشهد الواضح اليومَ ينقسمُ إلى فصلينِ بلغةِ المسرح، أما الأول، فرُفع عن أبطالهِ الستار، وهم يمارسون فعلَ الرقصِ على جثثِ الأسود - وأولُ الرقص كما يقال حنجلة - حيث اصطفوا يوقعونَ ما عرف باتفاق " أبراهام" نسبة إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم منهم براء إلى يوم التحرير.

وأما الثاني، المقنعُ بأقنعةِ "مجتمع الفرجة"، على حدِ توصيفِ المفكّرِ الفرنسيّ جي ديبور، فهو يخصُ البعض منا وهو يظهرُ على خشبةِ المسرحِ ليدخلَ في جدالٍ بيزنطي، يناقشُ ما إذا كانت المقاطعةُ الثقافيةُ لأي نظامٍ عربي يُقدمُ على التطبيع، هي سلاحٌ فاعلٌ ومحق أم لا؟ وهو سؤالٌ يبدو في ظاهرهِ، سؤالًا مشروعًا، ولكن باطنه يقولُ إنها محاولاتٌ مستترةٌ تأتي بقصدٍ أو دونَ قصدٍ بهدفِ تمريرِ الأمرِ وكأن شيئًا لم يكن.

بعضُ الأصدقاءِ من المثقفين العرب، اتخذَّ من مدخلِ المعاملةِ بالمثل، سبيلًا لانتقادِ فعلِ المقاطعة، طارحينَ عديد الأسئلة التي ترتبط بالمعاهدات السابقة التي وقعت مع مصر والأردن، وما يجري من علاقات سرية مع آخرين والحديث عن قطر وعُمان، مشيرين إلى أن المطالبةَ بالمقاطعةِ الناتجةِ عن حالةِ "الغضب الفائض" على حدِ تعبيرِ الروائي الكردي هوشنك أوسي، باتت ميدانًا للمضاربةِ والمزايدةِ، وأن ما أسمه بـ "الهوسة" أو "العراضة" السياسيّة – الثقافيّة، شابها التسرّع والانفعال، تحت ضغطِ المزايداتِ الوطنيّة، متسائلًا: إذا أغلقَ المبدع الفلسطيني الباب على نفسه، وأمام إبداعه، فماذا يتبقّى لفلسطين من فلسطين في العالم العربي؟!

كي نجيب على هذا السؤال وغيره، يمكننا أن نعرجَ على ما طرحه إدوارد سعيد حولَ علاقةِ المثقفِ بالسلطة، حيث سنجدهُ ينشدُ "استمساكَ المثقف بقيمٍ عليا، مثلَ قيمِ الحريةِ والعدالة، له ولغيره، وعدم قبولِ الحلولِ الوسط في ما يتعلقُ بهذه القيم"؛ وهي علاقة إشكالية كتب عنها وفيها الكثير، وحتى تتضح الفكرة أكثر بالإمكان أن نمر سريعًا على ما دونه الآخر النقيض بقلم تيودور هرتسل في كتابةِ "الدولة اليهودية"، وهو يقول "إن حملات التحريض ضد اليهود لم توقع إلا بالضعفاءِ منا فحسب، أما الأقوياءُ بيننا فكانوا مخلصين بثباتٍ لجنسهم عندما اندلع الاضطهاد ضدهم"، بهذا المعنى أتريدون المثقف العربي والفلسطيني ضعيفًا أم قويًا؟

طرحُ نموذج سعيد - هرتسل دونَ مقارنة بين من ترك وراءَهُ إرثًا من القيم الأخلاقية والإنسانية للدفاعِ عن وطنهِ، ومن ترك وراءَهُ دليلَ السطوِ على أرضِ الغير، وعملَ كلّ ما بوسعه لترسيخ معاداة اليهود لكلِ ما هو عربي؛ هذا الطرحُ جاءَ لجهةِ التأكيدِ على أن فارقًا بينيًّا ما بين السياسي والمثقف، ببساطةٍ لأننا قد نتفهمُ عملَ السياسي ولو كان مثقفًا ضمن اشتراطات الممكنِ والمتاح من جهة، والمؤدلج المتربح من جهات أخرى، ولكننا لا يُمكنُ أن نفهمَ اجتهاد المثقف الوطني إلا على قاعدةِ تخليقه لممكنه ومتاحه ليحمي حلمه.

إن كان ما سبق يُشيرُ إلى بعضِ الفوارق المهمة، ما بين منظورِ وتوجهاتِ المثقفِ بصرفِ النظرِ عن مواقفِ السياسي، فوجب علينا أيضًا التمييز بين ما وقعتْه كلٌّ من مصر والأردن من معاهدات، وبين ما فعلتُه ويفعلُه البعض من فوقِ الطاولةِ ومن تحتها، فمصر والأردن دخلتا في صراع حدودٍ ومواجهة مع محتلٍ سواء انتهى هذا الصراع بالنصرِ أو الهزيمة، إلا أنهما كانتا في حربٍ مباشرةٍ مع هذا العدو؛ ونهاية كل حرب عملية سلامٍ مفترضة، بعيدًا عن تقييمنا لهذه العملية، إلا أن مشروعيتها – إن توفر لها من المشروعية شيء – فهي تنطلقُ من قرارٍ ظرفي فرض إنهاء حالة الصراعٍ على مساحةٍ جغرافيةٍ بعينها، ولنلحظ أن مصر على سبيلِ المثالِ استكملت تحرير أراضيها عبرَ المحاكم الدولية بعدَ سنواتٍ طويلةٍ من الحربِ والسلام، غير أن الأهمَ في هذا السياق، يتمحورُ في أمر أساسي يظهر جليًا في موقفِ السوادِ الأعظم من مثقفي مصر في حينهِ من هذه المعاهدة إلى حدِ أن عددًا لا بأس به، أُعتقل على خلفيةِ موقفهِ المعلنِ هذا، فبأي آلاء ربكم تريدون منا أن نقاطعَ مثل هذه الشريحة المُعبرة عن ضميرِ الشعبِ المصري؟! غير أن ما اصطلح على تعريفهِ بالسلام بين مصر وإسرائيل وكذا الأردن لم ينل يومًا من الشعبين المصري والأردني، فبقي العدو عدوًا، ولذا لم تخرج قط عملية السلام هذه عن حدودهِا السياسيةِ والأمنية المُحاصرة، على الرغم من مرورِ عشرات السنين على توقيعِ هذه المعاهدات. فأين يَكمنُ وجه الشبهِ بين هذه الحالات، وحالة دولة كما الإمارات لم تدخل يومًا حربًا ضد إسرائيل، ولم تخسر شبرًا من أراضيها مع هذا المحتل الغاصب، وليست مضطرة لإقامةِ سلامٍ في ظلِ عدمِ وجود حربِ من الأساس، وفي ظلِ عدمِ وصول الفلسطينيين إلى الحدِ الأدنى من حقوقهم حتى تحت سقف ما عُرف بالمبادرةِ العربية.

وأما في ما يخصُ المُعلنُ والمستترُ من العلاقاتِ كما الإشارة إلى كلٍ من قطر وعُمان، فلا يظننا أحد من الشرق أو الغرب، أو يتوهم حتى أصحاب المناصب والعروش في هذه الدول أو غيرها، أن المثقفَ الفلسطيني المُشتبك، قد سلم يومًا لاتفاقيات أوسلو على ما فيها من مشروعية ما، لسنا هنا في صدد تفصيلها، كي يُشرع اليوم أو غدًا مثل هكذا علاقات مستترة، ولكن لطالما أنها علاقات أجبن من أن تخرجَ للعلن، فالمثقف لا يُوجدُ لديه ترف الوقت أو فائضه كي يترك مجابهة المتن لصالحِ ملاحقة الهامش، فما دامه هامشًا، لم يأت دوره بعد؛ ولنكن على ثقة أن أولَ من سيقفُ ويرفعُ الصوت عاليًا ومسموعًا هي تلك الفئة العاملة تحت مظلة مشروع تسليع الثقافة التي يمولها "البترودولار" الخليجي، وما موقف الأصدقاء من الجائزةِ العالميةِ للروايةِ العربية إلا دليلٌ يقطعُ مسافة مهمة في هذا الاتجاه.

ترويج ثقافة الاستهلاك

وبمناسبةِ الحديثِ عن ثقافةِ الاستهلاك الممولة خليجيًا، علينا الانتباه جيدًا لماذا يتم العمل منذ سنوات طويلة على اختراق الوعي الجمعي العربي من خلال الهامش الثقافي؟ هذا السؤال حاول عديد المفكرين والكتاب تفكيكه، عبر عديد الإجابات والمقاربات، ولكن الأهم في ما طرح، والذي أعتقد أنه الأساس، هو تهيئة مسرح الشرق الأوسط، كيانات وشعوب، لأمرين أساسيين، أولهما أن النيوليبرالية التي تعملُ جاهدةً على التخلصِ من مفهومِ الدولةِ بشكلها الكلاسيكي المتعارف عليه لصالح مفاهيم اقتصادية استهلاكية على كافةِ الصعد، تستهدفُ تشكيل نظامٍ عالمي جديدٍ يقومُ على التحالفاتِ الثنائيةِ والثلاثيةِ، يُمكننا أن نُسميها تحالفات فدرالية أو كونفدرالية أو أي شيء آخر، وهو ما يفسرُ الصعود السريع لما عُرف بالشعبوية لسدةِ أنظمةِ الحكم في أوروبا وأميركا تحديدًا، هذا التوجه نفسه لربما يلعبُ دورًا أساسيًا في تصفيةِ المشروع الصهيوني العنصري كما طرحه هرتسل، من خلالِ ما يُمكن أن يُعرف بتدافعِ المصالح التي ستفرزها بالضرورة هذه التشكيلات الوليدة، كنتاجٍ طبيعيٍ لصراعِ رأسِ المال، وربما جراءَ تآكلِ مفهومِ القوة العسكرية الصلبة، في مقابلِ تعاظم القوةِ الأخلاقيةِ الناعمة، إن تمكنا من توظيفِ هذا العامل لصالح عدالة قضيتنا، مع انتباهنا الأكيد لحقيقةِ أن هذا التوجه يستهدفُ أيضًا وفي الأساسِ منه تصفية المشروع الوطني الفلسطيني، نحو تهيئةِ البيئةِ المستهدفة، والحديث هنا عن الشرق، وهو ما يؤدي إلى الأمر الثاني، ألا وهو استكمال تنفيذ ما عُرف بمشروعِ الفوضى الخلاقة، تلك التي عملت بالفعل على دفعِ نظمِ وشعوبِ المنطقة إلى تبنى القضايا المحلية على حسابِ القضايا القومية، بل والخلاص من القضايا الكبرى، وأهمُها وأكثرُها ازعاجًا هي القضيةُ الفلسطينية جراءَ ارتباطها بالمفاهيم العقائدية والقومية، وهو ما يُفسرُ استدراج ما عرف اصطلاحًا بـ"الإسلام السياسي" لإحراقِ ورقته، بوصفِها ورقة المعارضة التقليدية في المنطقةِ إلى جانبِ اليسار الاشتراكي الذي ضُربَ حضوره، بعدَ رحيلِ جمال عبد الناصر ومن بعده الناصرية بشكلٍ عام، وكذا يُفسرُ إعادةَ إنتاجِ أو أحياءِ دولة هامشية وصغيرة، بالمعنى الجيوسياسي، وهي الإمارات، لفكرةِ مجمعِ الأديان أو ما اصطلحَ على تعريفهِ بـ"المسار الإبراهيمي"، القائم على مفهومِ "الدبلوماسية الروحية”، كطرحٍ بديلٍ عن نظريةِ صموئيل هنتنغتون حولَ "صدام الحضارات"، ونظريةِ فوكوياما المعروفة باسم "نهاية التاريخ"، الأمر الذي أخفق فيه السادات ربما لأن الوقت لم يسعفه قبل رحيله.

وكي نعي تمامًا كل ما ذكر، علينا أن نتأملَ نتائج ما حدث في المنطقةِ بعدَ ما عُرفَ باسم "الربيع العربي"، وأيضًا ما يحدثُ بتسارعٍ مبالغٍ فيه تحديدًا في أفريقيا، بشأنِ ما يتعلقُ بملفِ "سد النهضة" كنموذجٍ لتسللِ اليدِ الإسرائيلية باتجاهِ التحكمِ في مصيره، وكذا وجودها في العراق ("الملف الكردي")، واليوم في الخليج حيث "الملف النووي الإيراني" الذي تم تصديره للشعوبِ العربيةِ على أنه المعضلة والعدو، والحالُ ينسحبُ على عديدِ دولِ الإقليم، باتجاهِ لجم أو محاصرة المشروع التركي، الذي قد يكون أساس الاستهدافِ الحقيقي غير المعلن.

أخيرًا، إن كنا نؤمنُ بأن فعلَ المثقف المبدع لا يتأتى ويستمر إلا كنتاج طبيعي لقدرته واقتداره على حمل هموم وقضايا وطنه وشعبه، ومن قبل ومن بعد كافة القضايا الأخلاقية والقيمية الإنسانية بشكل أعم، فلا بدَّ من ترك الجزئيات على أهميتها لصالح الكليات على خطورتها، كي نتمكن من مقارعة ما طرح قبل عشرات السنين على هيئة أفكار، باتت اليوم بفعل تواطؤ البعض من أبناء جلدتنا أفعالا ممارسة، كما هي أفكار هرتسل في كتابه المشار إليه وهو يقول "لنفترض على سبيل المثال أننا أرغمنا على تطهير الدولة من الوحوش البرية، لا يجب أن نقوم بالمهمة بأسلوب الأوروبيين في القرن الخامس، لن نحمل حربة ورمحًا ونخرج فرادى لنطارد الدببة؛ بل سنقوم بتنظيم فريق صيد كبير ونشط، ونسوق الحيوانات معًا، ونلقي قنبلة متفجرة بين هذه الحيوانات". إن حاولنا فهم هذا المقطع جيدًا، وتفكيكه باتجاه ما يجري اليوم من أحداث، برأيكم من ستكون هذه "الوحش البرية؟ ومن هم أعضاء فريق الصيد؟ وما هي نوعية القنابل الملقاة؟

عليه وانطلاقًا من مبدأ أنّ المعرفة مفتاح الحقيقة؛ لا بدّ من الاعتراف، أنّنا وفي ظلّ هذا الانفتاح التكنولوجيّ المُفرَغ من أيّ مضامين عليا، حتى اللحظة، حيث حالة التوالد والتناسخ والتناسل آخذة في التنامي، لا نملك إلا العودة إلى ذواتنا، والانتماء إلى هويتنا، حيث الأثر لا يُبنى إلا على أثرٍ، لا يستهلك الوقت في انتظار عبثي لظهور قديس يكسر هيكله، ولا يُشرع حوارًا، لن يفلح في ترويضنا، ولا يجب أن نصدق نتائجه المعلبة، ببساطة لكون إكراهات الواقع في ظل التطبيع العربي، إنما هي ما تفرض علينا، فك الارتباط الثقافي، وهذا أضعف الإيمان.

التعليقات