06/10/2020 - 18:18

على الديمقراطيين أن يحاربوا النار بالماء

من خلال اتباع نهج راديكالي تدريجي، يصبح من الممكن تنفيذ إصلاحات بعيدة المدى - بما في ذلك إجراء تغييرات دستورية - بتأنٍّ مع مرور الوقت بدعم من تحالف أكبر نسبيا، وفي إطار النظام المؤسسي القائم.

على الديمقراطيين أن يحاربوا النار بالماء

عندما تحدث الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عما سماه "المذبحة الأميركية" خلال خطاب تنصيبه في كانون الثاني/ يناير 2017، لم يدرك سوى قِلة من المراقبين أنه كان يقدم معاينة لما سيحدث خلال السنوات الأربع التالية. الآن، ونحن على أعتاب الانتخابات الأميركية، تجوب الميليشيات اليمينية والجماعات الفاشية الجديدة مثل "براود بويز" الشوارع، و"تراقب" مراكز الاقتراع نيابة عن ترامب.

وسط كل ما يحدث، يُـعَـد شعور الديمقراطيين والمستقلين بالفزع والغضب مبررًا، ليس فقط الفزع والغضب من ترامب، بل من الحزب الجمهوري بأكمله. فبعد أن تشبع بأجندة ترامب، أصبح الحزب الجمهوري الآن متواطئًا بالكامل في حرب الرئيس الأميركي على المؤسسات الديمقراطية والعملية الانتخابية الأميركية.

بعد رفضه حتى النظر في مرشح المحكمة العليا الذي قدمه الرئيس السابق باراك أوباما، ميريك جارلاند، في آذار/ مارس 2016، يدفع حاليًا زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، بمرشح ترامب لكي يشغل المقعد الذي أخلته روث بادر جينسبيرج، قبل شهر واحد فقط من انعقاد الانتخابات. وأقنعت هذه المفارقة بعض المراقبين من اليسار أن الوقت قد حان لكي يحارب الديمقراطيون النار بالنار، بما في ذلك عن طريق زيادة عدد قضاة المحكمة العليا إذا استعادوا مجلس الشيوخ والبيت الأبيض.

صحيح أن الحزب الجمهوري لم يتورع عن استخدام أي وسيلة متاحة لكي يُشكل أغلبية محافظة قيادية في المحكمة، وأثبت أنه لن يتصرف بحسن نية. ومن الواضح أن البلاد بحاجة إلى إجراء إصلاحات مؤسسية وسياسية كبرى. لكن زيادة إضعاف المؤسسات لن تخدم الأهداف الديمقراطية في الأمد البعيد. لذلك، فالوضع يستدعي اتباع نهج راديكالي تدريجي حتى لا تُدمر المؤسسات أثناء عملية إنقاذها.

كانت آخر مرة هدد فيها رئيس أميركي "بتوسيع المحكمة العليا" عام 1937، في عهد فرانكلين روزفلت. فمع استمرار رفض مبادراته في إطار "الصفقة الجديدة" من قبل الأغلبية المحافظة في المحكمة العليا، سعى روزفلت إلى سن تشريع يسمح له بتعيين المزيد من القضاة. لكن خطة روزفلت قوبلت بمعارضة شديدة، ليس فقط من جانب الجمهوريين وجماعات المجتمع المدني، ولكن أيضًا من جانب حزبه. وعندما عارضته اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ التي يسيطر عليها الديمقراطيون، اضطر إلى التخلي عن محاولاته.

لكن المحكمة العليا فهمت الرسالة، إذ بدأت في ذلك العام في استيعاب تشريعات الصفقة الجديدة، وبعد فوزه بولاية ثالثة غير مسبوقة في عام 1940، تمكن روزفلت من دفع المحكمة تجاه اليسار من خلال استبدال القضاة المنتهية ولايتهم باتباع العملية المعتادة. وفي نهاية المطاف، أصبحت المحكمة أقوى من الناحية المؤسسية.

حدث شيء مماثل في الأرجنتين، لكن بنتيجة مختلفة جدًا. في عام 1946، استجاب الرئيس خوان بيرون لمعارضة المحكمة العليا له بالتحرك لعزل القضاة الأربعة الأكثر عداء لأجندته. وعلى عكس روزفلت، لم يواجه بيرون سوى مقاومة ضعيفة، ما مهد الطريق لمزيد من عمليات تفكيك مؤسسات الأرجنتين. وأصبح من المقبول أن يعين الرؤساء أعوانهم وأن يتجاوزوا المراجعة القضائية وقتما شاءوا.

قد يحتج المرء بأن هذا التشبيه في غير محله، لأن بيرون كان حاكمًا سلطويًا ولم يحترم قَـط المؤسسات الديمقراطية في المقام الأول. لكن يمكن أن ينطبق القول نفسه على ترامب والقيادة الجمهورية الحالية. فمن خلال ممارسة الضغط من أجل إحداث تغييرات جوهرية في النظام، بات بإمكان الديمقراطيين الأميركيين أن يزعموا بشكل مبرر أنهم يقاومون معارضي الديمقراطية.

علاوة على ذلك، فإن المطالبة بإجراء إصلاح جذري أمر واضح، إذ إن المؤسسات الاقتصادية الأميركية بحاجة إلى عملية إصلاح شاملة ليجري تقاسم مكاسب النمو على نطاق أوسع. وهذا يستدعي فرض المزيد من الضرائب التصاعدية وإحداث تغييرات في قانون الضرائب تعيد توازن العبء بين رأس المال والعمالة. وعلى القدر ذاته من الأهمية، تحتاج الولايات المتحدة إلى الحد من قوة الشركات (خاصة شركات التكنولوجيا الكبرى)؛ وتوسيع نطاق الحماية للعمال (بدءًا برفع الحد الأدنى الفيدرالي للأجور)؛ وسن سياسات لإعادة توجيه التحول التكنولوجي بعيدًا عن الأتمتة التي تحل محل العمالة، ونحو الابتكار الذي يعزز إنتاجية العمال. وإذا كان هذا العام قد أثبت أي شيء، فهو أن الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى تنفيذ تدابير للتخفيف من حدة آثار تغير المناخ وتحسين نظام الرعاية الصحية.

لكن هذه الأجندة لن تخدمها المناورات السياسية التي تضعف الضوابط المؤسسية وتزيد من تآكل الثقة في العملية. وبدلا من ممارسة لعبة الجمهوريين الخبيثة، ينبغي للديمقراطيين أن يستخدموا رأس مالهم السياسي في متابعة الإصلاح السياسي الشامل من خلال القنوات الحالية.

يجب أن يأتي الإصلاح السياسي في المقام الأول، لأنه يؤثر بشكل مباشر على مشاكل أميركا الاقتصادية من ناحيتين على الأقل. تتمثل المشكلة الأولى في القوة المتزايدة لتأثير المال في السياسة - ليس فقط من خلال المساهمات المقدمة في الحملات من قبل مانحين أثرياء، ولكن أيضًا من خلال عمليات الضغط الرسمية وغير الرسمية التي تمارسها شركات قوية. ولن يسمح الحزب الجمهوري، ولا سيما ماكونيل، بتمرير أي إصلاحات تهدف إلى الحد من هذه الأشكال من النفوذ غير المبرر. لكن بمقدور الديمقراطيين أن يعتمدوا على حقيقة أن الغالبية العظمى من المواطنين الأميركيين يدعمون مثل هذه السياسات.

تنطوي المشكلة السياسية الرئيسية الثانية على ذات القدر من الأهمية، ولكنها أكثر إثارة للجدال: سوء التوزيع السياسي. بمرور الزمن، أصبح توزيع سكان الولايات المتحدة منفصلا بصورة متزايدة عن توزيع التمثيل السياسي. وفي الواقع، أدرك علماء السياسة منذ فترة طويلة أن الأنظمة ذات المعدلات المرتفعة من سوء التوزيع - والتي نجدها في كثير من دول أفريقيا وأميركا اللاتينية - أكثر عرضة للتأثر بالأزمات وأوجه القصور.

في الولايات المتحدة، أحد الحزبين الرئيسيين الآن موجود فقط من أجل تلبية المصالح الاقتصادية والاجتماعية لأقلية متقلصة، وهذا هو الحزب الذي جرى تمكينه من خلال تشوهات داخل النظام. إذ يمثل المجمع الانتخابي ومجلس الشيوخ على نحو متزايد المناطق الريفية أكثر من اللازم، بسبب التحول التدريجي لسكان الولايات المتحدة نحو المدن (وايومينج، التي يبلغ عدد سكانها نحو 600 ألف نسمة، تشغل ذات عدد المقاعد الذي تشغله كاليفورنيا، التي يبلغ عدد سكانها 40 مليون نسمة).

الحق أن استسلام الحزب الجمهوري لأجندة ترامب القومية لم يأتِ من فراغ؛ فهو نتيجة سوء التوزيع السياسي. ومن الممكن معالجة هذه المشكلة من خلال إجراء إصلاح دستوري، أو من خلال منح كل من واشنطن العاصمة وبورتوريكو صفة الولاية.

من ناحية أخرى، يُـعَـد توسيع نطاق المحكمة العليا نهجًا خاطئًا، لأنه لن يؤدي سوى إلى الإضرار بالقاعدة المؤسسية التي يجب أن تُـبنى عليها أجندة الإصلاح السياسي والاقتصادي الأوسع نطاقًا.

من خلال اتباع نهج راديكالي تدريجي، يصبح من الممكن تنفيذ إصلاحات بعيدة المدى - بما في ذلك إجراء تغييرات دستورية - بتأنٍّ مع مرور الوقت بدعم من تحالف أكبر نسبيًا، وفي إطار النظام المؤسسي القائم. لا شك أن هذا النهج أكثر صعوبة من الراديكالية التقديرية التي فضلها بيرون، لكنه أكثر استدامة. فليس من الممكن إعادة السياسة والاقتصاد الأميركيين إلى المسار الصحيح إلا من خلال استعادة الثقة في المؤسسات.


دارون عاصم أوغلو، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو مؤلف مشارك (مع جيمس روبنسون) لكتاب "الممر الضيق: الدول، والمجتمعات، ومصير الحرية". يُنشر هذا المقال بالتعاون مع موقع "بروجيكت سيندكت".

ترجمة: معاذ حجاج

التعليقات