25/10/2020 - 15:51

لماذا خيّب الجيل الجديد الآمال؟

أن ينشأ التغيير من داخل الأحزاب إذ أن غالبية الشباب الناقد إما تركت أحزابها أو جمّدت نشاطها. وهؤلاء الشبّان يلتقون، موضوعيا، مع طلائع الأجيال الشابة التي نمت وتطورت خارج الأحزاب، أي بجهدها الذاتي. وعلى هذه الطلائع يمكن المراهنة ولكن هذا مشروط باستعداد هذه الطلائع للمبادرة

لماذا خيّب الجيل الجديد الآمال؟

من يوم الأرض الخالد

في السنوات الأخيرة، ومع اشتداد أزمة العمل السياسي داخل الخطّ الأخضر، برز السؤال الاستنكاري الآتي: كيف أن جيلًا جديدًا من القيادات وصل إلى قيادة أحزابه قاد سياسة محافظة وردَّةً وطنية، وهو الجيل الذي من المفروض أن يكون رائد التجديد والثورة؟

في الفترة الأولى من صعود بعض هؤلاء الشباب وتألقهم، سواءً في أحزابهم أو القائمة المشتركة، كان من الصعب أن يستمع إليك البعض، حين حذّرنا، منذ البداية، من أن المسار الذي اعتمدوه هو مسار ارتدادي وشعبوي، خالٍ من البعد العقائدي، غير واقعي، وينسف الإرث النضالي السابق، ويمثل انقلابًا على قيمه ومثله. هناك من جادل أن من حق هذا الجيل أن يتمرد على نهج المؤسّسين وأن يُجدّد الطريق بادّعاء أن نهجهم المتّسم بالتحدي، وأطروحاتهم الحديثة استفزّت نظام الأبرتهايد، وجعلته أكثر عدوانية ضد فلسطينيي الـ48. ما معناه أن بوصلة ومرجعية هذه القيادة الشابة "الجديدة" كانت تتغذى من مدى قبول أو رفض هذا النظام المعادي للسياسة التي نراها مناسبة. وأنا أقول ليس فقط من حق هذا الجيل أن يجدّد، بل من واجبه أن يفعل ذلك، وأن ينتقد أخطاءنا ويتعلم منها، وإلا لما كان هناك مبرر لتجديد القيادة. لكنّ هل الأمر سار على هذا النحو!

ندرك تمامًا معالم السياق العالمي والعربي والمحلي الذي نتحرك فيه والتحولات الاجتماعية والثقافية العميقة التي نشأت، وكذلك التبدلات في القيم والمفاهيم المرافقة، وما وفّره ذلك كله من مناخ جديد، فتح مسارين متناقضين، أحدهما حمل بذور التخريب والتشوه، والآخر وفّر فرصًا للمراجعة والنقد والتجديد وإعادة الاعتبار لقيم وتراث تحرّري - سياسي وطبقي - طمسته موجة العولمة الرأسمالية العاتية، التي أنتجت الشعبوية الرخيصة، وما صاحبها من تضليل وتشويه. وتعود بداية تجلي هذه التحولات العاصفة إلى أوائل التسعينيّات، أي قبل ثلاثين عاما، مع أن إرهاصاتها تشكّلت قبل ذلك. وفي الوقت ذاته شكّلت بداية الحقبة التي انبلج فيها حراك فكري - سياسي، قاده فلسطينيون شباب من داخل الخط الأخضر، تمرّسوا في العمل الحزبي والحركي والوطني، كان لديهم الاستعداد لمراجعة تجربتهم وطريقة تفكيرهم.

واتّسمت جرأة هذا الحراك في ثلاثة مسائل أساسية: الأولى رفض اتفاق أوسلو، ونقده بصورة جذرية وصارمة رغم أنّه موقّعٌ من منظمة التحرير الفلسطينية؛ الثانية بلورة وتبني خطاب ثقافي سياسي يتحدى يهودية دولة الاستعمار بطرح خطاب المواطنة الكاملة والهوية القومية، بديلا لخطاب المساواة التقليدي الذي ساد لعقود وبات مستهلكًا وعقيما؛ والثالثة ترجمة ذلك في مشروع ثقافي سياسي، قاده حزب تشكّل بعد أكثر من عامين من اللقاءات المكثفة والنقاش والبحث، هو حزب "التجمع الوطني الديمقراطي". بادرت إلى هذا المشروع مجموعة من الحركات والأشخاص الذين ارتبطوا تاريخيا بالمشروع الوطني الفلسطيني، وأهمّها حركة "أبناء البلد"، التي يعود انطلاقها إلى عام 1972، وحركة "ميثاق المساواة" بقيادة عزمي بشارة الذي ترك الحزب الشيوعي مع عدد من رفاقه الشباب في الثمانينيّات، ومجموعة من "الحركة التقدميّة"، التي تأسست أوائل الثمانينيّات، بقيادة محمد ميعاري، الذي كان أكبرنا سنًا. ومع نجاح هذا الحزب في الانطلاق والتوسّع بسرعة فاجأت الكثيرين والنجاح في تعميم خطابه القومي الديمقراطي، انطلق تنافسٌ شديد مع الأحزاب والحركات الأخرى كـ"الجبهة" و"الحركة الإسلامية"، ما ساهم في إعادة العافية لها وتطوير العمل الجماعي والشعبي في إطار لجنة المتابعة العليا. وكل ذلك كان في خدمة شعبنا ومصلحته الوطنية.

هذا التطور، أو المناخ الوطني الجديد الناشئ، كان الخلفية التنظيمية والشعبية التي انطلقت منها هبّة القدس والأقصى داخل الخط الأخضر، تلاحمًا مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وكما هو معروف كان الرد الصهيوني قاسيا وبدأ بقتل المتظاهرين ثم توالى بالتحريض وتحميل المسؤوليّة لقيادات الأحزاب والحركات، وتحديدًا "التجمع الوطني الديمقراطي" و"الحركة الإسلامية" التي أطلقت حملة للدفاع عن المسجد الأقصى وأهل القدس. ورسميا، حمّلت "لجنة أور" - التي وُكّلت بالتحقيق بشأن الهبة الشعبية - عزمي بشارة والشيخ رائد صلاح وعبد المالك دهامشة المسؤولية عن التحريض على الهبة. أمّا أنا فقد أُخضعت للتحقيق لمدة ثلاثة أيام عن مسؤوليّتي، وكذلك استدعيت للظهور أمام قضاة "لجنة أور"، حيث أجبت عن الأسئلة.

توالت الحملة والسياسات الصهيونية المنهجية ضد الفلسطينيين، بهدف تقويض معاني الهبة والحيلولة دون البناء عليها لبناء القدرة الذاتية لمليون ونصف فلسطيني، يحملون مواطنة الدولة الكولونيالية. أرادت المؤسسة الصهيونية إعادتنا إلى سنين خلت عندما كان الخوف من الحكم العسكري سائدًا، وحين كانت العلاقة معنا تجري عبر المخاتير، أي علاقة تبعية وذوبان على حساب الهوية والانتماء والحقوق الجماعية. نعم، ولّدت هذه الحملات بعض الخوف عند بعض القيادات، الذي بدأ يدعو للحذر غير أنّ من يراجع أدبيات حزب "التجمّع" - وإلى حد كبير أدبيّات "الحركة الإسلامية الشمالية" - مباشرةً بعد الهبة، سيجد عشرات المقالات والبيانات التي تحذّر من مغبة الخضوع للخوف من هذه الحملات الترهيبية، لأنّ هدفها تكريس موقعنا الدوني والظلم الواقع علينا جماعةً قوميةً وشعبًا. لقد ساهمت مواقف وقوة "التجمع" و"الحركة الإسلامية الشمالية" وأوساط محدودة متقدمة في "الجبهة"، في الحفاظ على قدر كبير من التماسك في الموقف الوطني لسنوات طويلة من العمل والتعاون المشترك، وكان لصوت حركة "أبناء البلد"، أيضًا، داخل لجنة المتابعة، دور في مساندة هذا الموقف الوطني. غير أن سنوات من التصعيد والسياسات القمعية ضد "التجمع" و"الحركة الإسلامية"، وتمرير عشرات القوانين العنصرية، بدأت تؤتي ثمارها السيّئة. فقد بدأ يتولّد تفكير "براغماتي" مبتذل عند جيل جديد من القيادات في الأحزاب، يتّجه نحو التمحور في الخدمات، ما لبث أن تحوّل إلى نهج جارف يجري التنظير له بصورة منهجية.

هكذا استعجلت قيادات الأحزاب الشابة الحالية، إلى درجة التهور واللامسؤولية (نحو التراجع والهروب إلى الخلف)، في استخلاص الدروس من التجربة الكفاحية السابقة، التي لم تنطلق وتتبلور إلّا بعد دراسة ومراجعة ذاتية حقيقية، جرى خلالها عصرُ التجربة وإخراجُ زبدتها، وأقصد تحديدًا الفترة التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو.

تتميّز القيادة الحالية بقدرتها على الحديث والفهلوية وبيع الأوهام وعلى تمرير أفكار سطحية وتحليلات خاطئة، لاقت قبولًا عند قطاعات واسعة من شعبنا الذي يعيش ضائقة سياسية واقتصادية، هذا أولًا. ثانيًا، تتميز بافتقادها لفكرٍ سياسيٍ جذريٍ ومعرفةٍ بإدارة الصراع مع نظام هو بنيويًا عنصريّ ومغلق وعصيٌّ على التغيير من الداخل. وأيضًا تفتقر لاطّلاعٍ كافٍ ولفهم عميق لتجربة فلسطينيي الداخل، وأعتقد لمجمل التجربة الوطنية الفلسطينية التحررية. ومثال واحد فقط أن البعض لا يعرف الفرق بين خلفية تجربة السود في الولايات المتحدة الأميركيّة وتجربتنا نحن الفلسطينيين هنا. كما أنّ وضع القضية الوطنية على الرف وتحويلها إلى أداة للتغطية أو إلى مجرّد ضريبة كلامية في سبيل الحصول على خدمات، ونسج مراهنات على اليمين الصهيوني، مرة مع هذا الجناح ومرة أخرى مع ذلك الجناح مثالٌ آخر على التهتك والخواء.

لقد ظهر هذا السلوك كارتماء رخيص في دائرة فارغة أراد المستعمر، عبر هجوم مركّز مترافقًا مع رمي الفتات أن يوصلنا إليها ونستقر فيها، مجرّدين من أدواتنا النضالية، وأحلامنا وطموحاتنا الإنسانية الحقيقية. من الصعب العثور في القيادات الحزبية الشابّة الحالية على أي أثر من التجربة السياسية الوطنيّة، المتحديّة، بعنفوانها ومقولاتها وترابطها المنطقي. والغريب أنه في غضون فترة قصيرة تبلور خطاب هجين سائد داخل القائمة المشتركة دون اعتراض حقيقي من أي من مركباتها، إذ باتت المشتركة وعاءً لهدم ما تحقّق من وعي وطني ناهض، ومقاوم... مقاوم ليهودية الكيان، ومقاوم لهدم البيوت والاقتلاع، ومُفرّطٌ بفكرة بناء وتنظيم القدرة الذاتية، التي لا يمكن أن تتم إلا من خلال إعادة تنظيم لجنة المتابعة العليا كمؤسسة تمثيلية حقيقية وكمرجعية وطنية جامعة.

منذ السبعينيّات شهدنا تطورين وطنيين كبيرين في مجال ظهور قيادة شابة تميّزت بالعنفوان والتحدي. الأول كان عشية يوم الأرض حين فرضت القيادة الجديدة قرار الإضراب التاريخي دون أن تأبه بتهديدات وضغوط المؤسسة الصهيونية، وكان من أبرز تلك القيادات المرحوم توفيق زياد، القيادي في "الجبهة"، ومحمد ميعاري القيادي في "حركة الأرض" المحظورة. طبعًا، كان ذلك التطور حصيلة تحوّلات عربية وفلسطينيّة، بدأت قبل ذلك بكثير وتسارعت مع بداية السبعينيّات، التي ظهرت فيها حركة وطنية فلسطينية تجاهر في كونها جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية، وأنّ منظمة التحرير الفلسطينية تمثل أيضًا فلسطينيي الـ48، هي حركة "أبناء البلد". هذه المرحلة التي امتدت إلى الثمانينيّات، أيضا ولّدت حركات سياسية أخرى مثل "الحركة الإسلامية"، و"الحركة التقدميّة"، فصبغت المشهد السياسي بالتعددية والتنافس والتثاقف بعد أن كان حكرًا على حزب واحد، هو الحزب الشيوعي. وكان أجمل تجلٍ لهذه التعددية الوطنية هو تبلور أطر طلابية وطنية كامتداد لغالبية هذه الحركات والأحزاب التي خاضت نقاشات سياسية حادة حول الاختلافات الفكرية، كما خاضت تنافسًا ديمقراطيًا حقيقيًا على لجنة الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيلية. ووُصِفَت تلك الانتخابات بأنّها الانتخابات الوطنية والديمقراطية الوحيدة التي يخوضها الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، حيث لا تجري حسب قانون إسرائيلي ولا تدخّل للعائلة أو للطائفة فيها. وتمحورت الحملات الانتخابية حول برامج سياسية في صلبها النظرة لقضية فلسطين وكيفيّة حلّها وعلاقة فلسطينيي الـ48 بهذه القضية.

في التسعينيّات، كما أسلفنا، ظهرت قيادات شابّة جديدة. كانت أزمة العمل السياسي قد وصلت إلى مدى غير معقول، وجاء اتفاق أوسلو، امتدادًا لهزيمة كبرى وانهيارات عالمية وعربية مروعة، ليضعنا أمام تحدٍّ هائل، بفصله فلسطينيي الـ48 عن القضية الفلسطينية.

كان السؤال أمامنا نحن الشباب في الحركات والدوائر الوطنية، الذين يعتبرون منظمة التحرير الفلسطينية التي وقعت على هذا الاتفاق الكارثي أنّها تمثلنا وطنيا؛ كيف نتصرف إزاء هذا الحدث الصادم، الذي أخرجنا من الصراع ومن الحل الذي كرّسنا قضية إسرائيلية داخلية. فكان الرد في إعادة بناء الحركة الوطنيّة وتأسيس حزب وطني جديد، هو "التجمع الوطني الديمقراطي".

في الوقت ذاته، كانت تفاعلات تجري داخل الأحزاب والحركات الأخرى، كالحركة الإسلامية والحزب الشيوعي و"الجبهة" للخروج من أزمتها. وبالفعل، في غضون ثلاثة أو أربعة أعوام أصبحنا أمام حالة سياسية تعددية جديدة وحيويّة، فكريًّا وميدانيًّا، تقودها قيادات شابة جديدة تتميز بالعنفوان وبقدرات ثقافية وفكرية عصرية متميزة. وفي خلال هذه الفترة سجل المراقبون قدرة حزب "التجمّع" على تغيير الخطاب السياسي السائد، إلى خطاب يتحدى جوهر البنية العنصرية والكولونيالية لدولة إسرائيل، وجعله سائدًا في الساحة السياسية العربية، ما قاد المؤسسة الصهيونية إلى جعل الحزب وقائده آنذاك، عزمي بشارة، هدفًا مباشرًا للتحريض والمحاكمات ومحاولات الشطب. رغم كل هذا التحريض، تمكّن هذا الحزب في العشرة أعوام الأولى من التحول إلى قوّة جماهيرية تنتشر فروعه في عشرات البلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وبنى حركة طلابية (جامعيّة) وشبابية كبيرة شاركت في كافة المعارك الشعبية. أجاد الحزب في الجمع بين العمل البرلماني والعمل الشعبي، وتميّز عزمي بشارة، أوّل ممثل عن الحزب في الكنيست، في أدائه البرلماني وفي الترويج للخطاب القومي الديمقراطي، فانتشر صداه إلى الخارج والعالم العربي خاصةً. كما كان دائمًا مع رفاقه في قيادة الحزب في كل الميادين وهكذا تبلورت قيادة حزبية، وطنية، واسعة، من المؤسسين والجيل الجديد، تمضي في دورها وتنجح في زيادة قوة "التجمع"، حتى بعد فبركة ملف أمني ضدّه وانتهاءً بالمنفى.

في السنوات الأخيرة، ومع اشتداد الحملة الإسرائيلية ضد فلسطينيي الـ48 وأحزابهم وحركاتهم، وحظر "الحركة الإسلامية الشمالية"، بدأت تنمو توجهات من داخل أحزاب وحركات سياسية تقول بوهم "التأثير من الداخل"، تتوّج في التوصية على مجرم الحرب بيني غانتس، وغيرها من الممارسات الهجينة.

ولكن، مؤخرًا، بدأت أوهام هذا النهج تتساقط ويشتعل النقاش مجددا حول هذا المسار المنحرف، ويحتاج الأمر لانتفاضة سياسية حقيقية تعيد الاعتبار للسياسة وللفكرة الوطنية الأصيلة لإصلاح الخراب الناجم عن هذا الانحراف.

المفارقة الكبرى والأمر المحزن أن من لعب دورًا رئيسيًا في نشر هذا الوهم هم قيادات شبابية حزبية. وقد حان الوقت للتغيير، تغيير النهج والمفاهيم، والكثير من القيادات. مع كل ذلك سنحتاج وقتًا كثيرًا لفتح كوّة في الجدار والمضيّ في طريق مختلف.

لن ينشأ التغيير من داخل الأحزاب إذ أن غالبية الشباب الناقد إما تركت أحزابها أو جمّدت نشاطها. وهؤلاء الشبّان يلتقون، موضوعيا، مع طلائع الأجيال الشابة التي نمت وتطورت خارج الأحزاب، أي بجهدها الذاتي. وعلى هذه الطلائع يمكن المراهنة، ولكن هذا مشروط باستعداد هذه الطلائع للمبادرة والانخراط في مبادرات سياسية كبيرة وعدم الاكتفاء بالنشاط الفردي، أو من داخل روابط ثقافية أو أدبية أو شبابية، على أهميتها.

التعليقات