27/11/2020 - 18:43

إعادة الحاجة لمرجعية وطنية إلى المركز

وبناءً على ذلك، بات من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، إصلاح هذا العطب من الداخل. ما معناه، فقط أفراد وحراكات، وطلائع مثقفة وملتزمة من الجيل الجديد، الذين لم يتورطوا في المسؤولية عن هذا الخراب، يمكن أن يكونوا مؤهلين لإطلاق المبادرة

إعادة الحاجة لمرجعية وطنية إلى المركز

في معمعان السجال الساخن حول انحدار نهج ممثلي القائمة المشتركة الذين اختزلوا قيادات فلسطينيي الداخل في ذواتهم وأنفسهم، دون وجه حق ودون أهلية، يغيب الحديث عن المشروع ويختفي الحديث عن المرجعية الوطنية الجامعة.

ويطمس السجال والتراشق الأصوات الناقدة التي تمتلك ملامح مشروع وتعبّر عن الحاجة لتجسيد التطور الموضوعي والمبهر لجماعة من الشعب الفلسطيني، وجدت نفسها قبل أكثر من سبعة عقود، بين ليلة وضحاها، أقلية صغيرة بلا نخبها ومدينتها وقياداتها، تحت حكم دولة استعمارية عرقية وعنصرية، فنجحت بالنهوض والثبات في الوطن، لتصبح "أقليّة قوميّة" كبيرة وحيوية.

رغم النقد الواسع والغضب الشعبي المتنامي، يمضي ممثلو القائمة المشتركة، بوعي وبغير وعي، في تقويض المسار الوطني الطويل الذي اتخذ زخمًا أكبر ومضمونًا أعمق بعد هبّة القدس والأقصى عام 2000، وفي حرفه عن تطوره الطبيعي، التنظيمي والثقافي والسياسي والفكري، الذي كان حدّد مناهضة صهيونية ويهودية الدولة، والانتظام القومي، والارتباط مع قضية شعبنا الوطنية، كمركبات لمشروع وطني جامع يُحصّن الناس من الأسرلة والانحلال.

ولجنة المتابعة العليا، التي من المفترض أن تكون عنوان هذا المشروع، والتي أثرى النقاشُ الدائرُ منذ أكثر من عقدين بخصوص إعادة بنائها المعرفةَ السياسيّةَ بالحقوق الجماعية لدى كوادر الأحزاب والنخب الصاعدة، لكنها لم تعد تحتل أي حيّز في السجال والتراشق ولا حتى في النقاش الرصين إلا نادرًا. وهذا أكثر ما يدعو إلى القلق الشديد لأنّ غياب أو تآكل الهيئة الوطنية الجامعة التي من المفترض أن تكون حاضرة وفاعلة في حياة أيّ شعب يتعرض لنظام قهر استعماري، يضع هذا الشعب في خطر التفكك والانحلال. وهذا ما نشهد مقدّماته الخطيرة والمرعبة في العنف المستشري، وفي الاستعداد للتحالف مرّةً مع يمين الوسط الصهيوني ومرّة مع اليمين الصهيوني ومرّة مع ما يسمى معسكر "اليسار الصهيوني". كل ذلك من شأنه تذرير مجتمعنا وتقويض ما تبقى من بقايا حركة وطنية، وفتح الباب على مصراعيه للانتهازية، والتحلل من الانتماء وكل معاني التضامن والتماسك كجماعة قومية، ما يزيل كل العوائق أمام اندفاع مخطط الاستعمار الداخلي الذي نتعرض له؛ هذا الاستعمار الذي يشمل استعمار الأرض وتهويد المكان والحيز العام وهدم البيوت والقرى، واستعمار العقل وترويضه.

تكمن خطورة القائمة المشتركة بممثليها الحاليين، وخصوصًا من يقف على رأس كتلها في الكنيست، في إدانتهم لنهج القيادات الوطنية السابقة وتذويتهم لمقولة التطرف التي تنسبها المؤسسة الصهيونية ووسائل إعلامها إلى هذه القيادات، خاصة من القيادات السابقة للتجمع الوطني الديمقراطي والحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليًا. هم يعتقدون أن "تطرّف" تلك القيادات هي السبب في عدم تحصيل حقوقنا، والتي تُختزل في الخدمات. ويشعر هؤلاء أنه بغياب أو تغييب قيادات (في السجن أو المنفى) أو بانسحاب قيادات أخرى من النشاط الحزبي أو الحركي، بات بالإمكان التحلل من الضوابط الوطنية والأخلاقية التي سادت في السابق، واختلاق نهج هجين - قديم، ولكنه مغلّف بفهلوية وتحايل وكثير من الادعاء والنرجسية.

لا شك في أنّ التحولات الاجتماعية العميقة الجارية في المجتمع وتغير أولويات الناس، وهي تحولات نابعة من سياسات الاستعمار وتغيرات عالمية جارفة، تشكّل أرضيّة خصبة لاستثمار القيادات الشعبوية الفاقدة لعمود فقري عقائدي سياسي. وكل مُطّلع على تجارب الشعوب والجماعات القومية الأخرى، وخصوصًا ما كتبه مفكرون ثوريون، سيجد أنها اكتوت بهذه النماذج وأنماط هذا السلوك التهافتي، الذي يتخلى عن البعد التاريخي فعليًا ويتمسك به لفظيًا. وكانت تتعرض هذه النماذج لنقد لاذع ومقاومة شديدة من جانب الحركة الوطنية ومثقفيها.

إن جماعة قومية واقعة تحت نظام كولونيالي وفصل عنصري، مثل حالنا، لا يمكن أن تنجح في الحصول على الحدّ الأدنى من حقوقها في ظل قيادة من هذا الصنف، أو في ظل نهج مفرغ من تصور ومخيال سياسي يؤطر نصالنا باعتباره نضالًا وطنيًا وليس خدميًا. فقط عبر وعي حقيقي بطبيعة الصراع ومن خلال معرفة تاريخية عميقة بتجارب الصراع الاستعماري، وآليات تنظيم هذا الصراع أو الكفاح، ومن خلال دراسة حالتنا الخاصة تحت النظام الصهيوني، يمكن تصحيح المسار واشتقاق نهجٍ آخر، تحرري، وانتزاع الحقوق المدنية والجماعية.

ولكن يبقى السؤال الكبير، المتكرر: من المؤهل بالقيام بهذه المهمة؟

إن شعبنا زاخرٌ بالطاقات البشرية، التي هي نتاج الإنجازات المبهرة في كافة المجالات التي حققها هذا الجزء من شعبنا الذي نجا من الطرد والتشريد. وبقاء وتطور هذا الجزء من شعبنا، داخل الأرض المحتلة عام 1948، ليس إنجازًا وذخرًا إستراتيجيًا لهذا الجزء فقط، بل لعموم الشعب الفلسطيني في كل مكان. وفي ظل ما تتعرض له قضية فلسطين من مخططات تصفوية فائقة الخطر، يصبح دور هذا الجزء من شعبنا في الحفاظ على تماسكه بالغ الأهمية وأهم من أيّ وقت مضى. وبسبب تداخل مسارات التخريب الوطني المنسّقة، بين نهج السلطة الفلسطينية ونهج القائمة المشتركة، والذي له آثار وخيمة بعيدة المدى، ستحتاج عملية الإصلاح والتصويب إلى وقت طويل. ليست المسألة محصورة في قيادة ارتكبت أخطاءً أو أقدمت على خطوات تكتيكية مدروسة مرتبطة برؤية تحررية إستراتيجية، إنما متمثلة في عطب بنيوي، وعطب مدمر في نمط التفكير.

وبناءً على ذلك، بات من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، إصلاح هذا العطب من الداخل. ما معناه، فقط أفراد وحراكات، وطلائع مثقفة وملتزمة من الجيل الجديد، الذين لم يتورطوا في المسؤولية عن هذا الخراب، يمكن أن يكونوا مؤهلين لإطلاق المبادرة للإصلاح والبناء عبر مسار تراكمي. وفي مقدمة هذه المهمات؛ بناء أو إعادة بناء المرجعية الوطنية العليا. فهل هؤلاء مستعدون لهذه المهمة التاريخية؟!

التعليقات