02/04/2021 - 19:42

الحركة الوطنية أمام تحدٍ لا مفر من مواجهته

ليست أزمة التجمع الوحيدة تراجعه التنظيمي، إذ أنّ هذا الأمر يصيب الأحزاب جميعها في فترات معيّنة، بل أنّها تكمن في التخلي عن خطابه الذي هو أحد أهمّ مصادر قوته ومصداقيته. فقد بات، لهذا السبب، محلّ مديح من الخصوم والأعداء.

الحركة الوطنية أمام تحدٍ لا مفر من مواجهته

(أ ف ب - أرشيفية للتوضيح)

هل يمكن إعادة بناء التيار الوطني الديمقراطي وإعادة تشكيل خطاب وطني ديمقراطي، في ظروف التحلل السياسي والاجتماعي، وتفشّي مظاهر النزوع نحو اللاسياسة داخل الخط الأخضر؟

لا أطرح هذا السؤال للتداول النظري، بل للقول إنّ الشروع في هذه المهمة بات لا يحتمل التأجيل، ومهما بلغت الصعوبات والتحديات، وهي ليست مهمة مجموعة حزبية بعينها، بل مهمة الحركة الوطنية في الداخل. آن أوان المراجعة والعمل.

إنّ مخلّفات انتخابات الكنيست الأخيرة في جسم الوجود الفلسطيني داخل الخط الأخضر مدمّرة، وتفاعلاتها لن تكون عابرة بل بعيدة المدى، إلّا إذا تبلورت مبادرات حقيقية، أصيلة، وفرضت نفسها على المشهد السياسي، والشعبي. ومن هنا نبدأ.

ومن أجل تفادي الوقوع في التسرّع والتبسيط، يجب أن ندرك حجم الأخطار المحيطة بنا، أي إدراك مجمل العوامل الخارجية المعيقة: الإسرائيلية، والإقليمية، العربية وغير العربية، والعالمية، في تبلور الحالة الراهنة للمجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر. وليس السلوك السياسي للقيادات السياسية ومظاهر التفسخ الاجتماعي معزولة عن الواقع الاجتماعي - الاقتصادي الذي نعيشه، والذي تجري تغذيته باستمرار ورفده بالأوهام والوعود المضلّلة. كما ليس كل ذلك وليد اللحظة.

ليست أزمة العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر إلا جزءًا وامتدادا لأزمة الحركة الوطنية الفلسطينية عموما والفشل المتراكم ومن ثم الانقسام ـ الكارثة المستمرة. الأسرلة التي تقودها قيادات القائمة المشتركة والتي أخذتها الحركة الإسلامية الجنوبية إلى مزيد من الانحدار، هي انقلاب على الخطّ الوطني المتجدّد، الذي بدأ يتشكّل منذ النصف الثاني من التسعينيّات ويتصاعد بعد هبة القدس والأقصى، عبر نقل التناقض المسكوت عنه بين دولة اليهود والديمقراطية من الدوائر الأكاديمية إلى الدوائر السياسية.

لقد جاء ذلك الخطاب الجديد الصاعد، آنذاك، في تناقض واضح مع الخطاب الأوسلوي الهابط. كان سيرًا ضد التيار بكل ما تعنيه الكلمة. في التوازي، كانت الحركة الإسلامية الشمالية تكثّف حضورها في الأقصى ومدينة القدس، وفي شدّ الانتباه إلى ما يجري هناك من مخطّطات تهويديّة صهيونيّة لتعزيز السيطرة علـي المقدّسات الدينية، وهذا الدور هو شكل من أشكال التواصل مع القضية الفلسطينية.

وفي الأيام الأولى لهبة القدس والأقصى العارمة، اتّهمت المخابرات الإسرائيلية في بيان رسمي التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الإسلامية الشمالية بالوقوف وراء هذه الهبة الوطنية غير المسبوقة في حدّتها، وشموليتها.

كان التيار الوطني، بشقّيه القومي والإسلامي، وبطبيعة الحال جماهير القوى والحركات السياسية الأخرى، قويًا ومندفعًا، رغم أنّ القيادة المتنفّذة للحركة الوطنية الفلسطينية وقّعت صكّ استسلام للحركة الصهيونية (اتفاق أوسلو) والذي شبّهه المفكر الفلسطيني، إدوارد سعيد، باتفاق فرساي، أي اتفاقية استسلام ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918.

لم تكن المهمة سهلة في ظروف التسعينيّات، خاصّة أن التيار الوطني الذي ارتبط بمنظمة التحرير الفلسطينية كان مبعثرًا، كانعكاس لانهيار مرجعيّته الوطنية والقومية، على المستوى الفلسطيني والعربي، كما كانت موجات الأسرلة بعد أسلو جارفة. هذا التيار القومي في الداخل لا يملك المساجد ولا نفوذ له في لجان الزكاة أو غير ذلك، سوى رصيده في بعث الهوية الوطنية الفلسطينية وتنشئة قطاع واسع من الأجيال الشابة، وتهيئتها للنضال. ومع ذلك، وبتوفر الإرادة والرؤية الصائبة، على الأقل بالنسبة للظرف التاريخي عينه، أعاد بناء نفسه مجدّدًا وبصورة أقوى مما كان عليه من قبل.

لماذا نستحضر كل ذلك؟

لأنّ ما نمرّ به حاليًا من تفكّك وضياع يشبه من حيث خطورته تلك الحقبة. هناك من يعتقد أنّ المرحلة الحالية هي أسوأ وأكثر خطورة. قد يكون ذلك صحيحًا. ولكن لن نجادل في ذلك الآن، لأنّ الدرس المهم الذي يجب أن نستخلصه هو أهمية الإرادة، في مواجهة تشاؤم العقل، وأنّه يمكن النهوض، أو على الأقل الصمود، في وجه المخطّط الصهيوني حتى في ظل انحلال الحالة الفلسطينية العامة وتحول الأسرلة إلى جزء بنيوي للسلطة الفلسطينية، ومؤسساتها السياسية والأمنية والخارجية. والصمود يعني أولًا الحفاظ على الخطاب الوطني والهوية الثقافية والسياسية الجامعة لمجتمعنا، وإعادة بناء المؤسسات التمثيليّة والثقافيّة والاقتصادية التي توطّد الخطاب وتحصّن الناس والنخب من الضياع السياسي.

عمليّة النهوض والتغيير في واقع بات أكثر تعقيدًا وتركيبًا يقتضي تفكيرًا جديدًا وقوى جديدة، مؤهلة وقادرة.

من أين نبدأ؟

الحديث العام عن الوحدة والعودة إلى التنسيق بين مركبات المشتركة، ليس برنامج عمل، ولا المصل المضاد لأزماتنا المتوالدة.

ولستُ متأكّدًا ما إذا كانت القيادات الحالية للأحزاب والحركات قادرة على تهدئة الأمور، علـى الأقل. بعد كل ما حصل، تحتاج جميع الأحزاب والحركات بدون استثناء إلى مراجعة داخلية وإلى إجراء حوار داخلي حقيقي، وهذا لن ينجح بدون تفعيل العقول الأكاديميّة والشابة في هذه الأحزاب، والأهم تلك العقول التي هجرت أحزابها وكذلك إعفاء القيادات أو الكثير منها من مهامها. وإذا كنت لا أملك الحق في التدخل في شؤون الأحزاب الأخرى، فإنني أسمح لنفسي لتناول بعض الاقتراحات بخصوص الحزب الذي كنت من مؤسسيه، وقياداته حتى أربع سنوات خلت.

يعيش حزب التجمع في حالة انحسار كبيرة، على المستويين التنظيمي والشعبي وعلى صعيد البرنامج. وهو الحزب الذي شكّل تأسيسه ونشاطه وإنتاجه الفكري والثقافي في مناخ هزائمي، عملًا ثوريًا. خاض الحزب، على مدار مسيرته، معارك أيديولوجية هامّة كثيرة ضد الفكرة الصهيونية وتجلّياتها القانونية والميدانية ومع الخصوم. كما خاض معارك شعبية كثيرة، وآخرها مشاركته المركزية في معركة برافر. وكانت هذه المشاركة الكفاحية بفضل بناء المؤسسات والفروع والمنظّمات الطلابية والشبابية والنسائيّة، في معظم بلدات المثلث والنقب والجليل، وترجمة لعملية التوعية والتهيئة التي قامت بها مؤسسات الحزب المركزية، بخصوص خطورة المخطط، وبأهميّة المواجهة الميدانية. شارك جميع كوادر التجمع الشبابية والطلابية الجامعية والقيادات المركزية في المواجهات ضد برافر من عام 2011، إلى عام 2013، حين تم إسقاط القانون الاستعماري الظالم.

ليست أزمة التجمع الوحيدة تراجعه التنظيمي، إذ أنّ هذا الأمر يصيب الأحزاب جميعها في فترات معيّنة، بل أنّها تكمن في التخلي عن خطابه الذي هو أحد أهمّ مصادر قوته ومصداقيته. فقد بات، لهذا السبب، محلّ مديح من الخصوم والأعداء. إنّ من ظن أن التخلي عن الخطاب يوسّع قاعدة الحزب ارتكب خطأ فادحًا. فلا كسب جمهورًا جديدًا، ولا هو حافظ على قاعدته. أي أنّنا خسرنا العالمين.

ليس خطاب التجمع خطابًا متطرفًا، بل خطاب مواجهة، ولكنّه حديث وعقلاني، وكانت تمّت ملاءمته للمرحلة التي انطلق منها مع وعي مسبق بضرورة تطويره مع تقدم الصراع. وبدل أن نطوّره ونرتقي به كخطابٍ تحرّريٍ شامل، في ظلّ التحولات في المشروع الصهيوني، المتمثّل في جعل كل فلسطين وحدة جغرافية واحدة تتبع وتخضع له عمليا وقانونيًا، تحت نظام فصل عنصري وكولونيالي، أو على الأقلّ الحفاظ عليه، تنازلنا عنه لدرجة أنّ الجمهور ما عاد يميزه عن غيره.

وللموضوعيّة، تعرّض التجمع لما لم يتعرض له أي حزب عربي آخر (أحزاب الكنيست)، من ملاحقات سياسية وقانونية، ومحاولات شطب متكررة، وحملات تحريض دموية لممثليه في الكنيست، ومقاطعة شبه كاملة من المؤسسات الرسمية، لنشر الخوف والترهيب بين جمهوره، وإبعاده عن الحزب، ما دفع العديد من قادة الأحزاب الأخرى للتأكيد أمام الإعلام الإسرائيلي، أو من وراء الكواليس، أنّهم ليسوا "متطرفين كالتجمع". وكان هذا نوعًا من التخلّي عن الدفاع عن التجمع في مواجهة الحملات الشرسة ضدّه، ونوعًا من الابتزاز الممارس على قيادته داخل القائمة المشتركة للتكيّف مع توجهها المتأسرل، والذي تتوّج بالتوصية على مجرم الحرب بيني غانتس. لقد نجحت حملات التحريض المتواصلة والمنهجية في خلق صورة متطرفة عن التجمع لدى أوساط شعبية ليست قليلة. وجاء نهج منصور عباس، الجديد - القديم، ليعزّز هذه الصورة ويعمّم الأوهام عند بسطاء الناس، ويشوّه الثقافة السياسية. وبتنا نحن العرب في الداخل، وفق هذه السياسة، تيارا يهوديًا حريديًا، دينه المقايضة، وليس الكرامة الوطنية وباعتبارنا جزء من شعب يخضع لنظام أبرتهايد غير إنساني.

لكن كل ذلك ليس مبررا للتخلي عن هويته. فالحزب لم يتنازل ولم ينحن، منذ انطلاقه حتى تشكيل المشتركة، رغم أن حملات التحريض والملاحقة كانت أكثر شراسة وعدوانية.

هل يستطيع التجمع إعادة بناء ذاته؟

أنا أعتقد، جازمًا، أنّه ممكن، إذا توفّرت الإرادة. والمصلحة في ذلك ليست حزبية، بل مصلحة وطنية تهم كل الوطنيين وكل شعبنا.

لدى التجمّع طاقة بشرية واسعة ولكنّها معطلّة في غالبيتها الساحقة، وموزّعة في كل مكان. أينما تذهب تجد كوادر: عمالًا، معلّمين، محامين، أطباء، محاضرين، باحثين، رجالا ونساء، لا يزالون مرتبطين بتجربة التجمع، الفكرية والثقافية، وبذاكرة الاعتقال والمواجهات، وبالمخيمات الصيفية، الشبابية والطلابية، وأيام التثقيف والتعلم عن الوطن والحركة الوطنية، عن القومية، عن الديمقراطية، ومفهوم التحرر والحرية. إنّهم بالمئات، بعضهم خفّف نشاطه بسبب ظروف الدراسة والحياة، وبعضهم غاضب عليّ وعلينا كقيادات سابقة وحالية، لما آل إليه الوضع. ولكنّهم يعتبرون أنفسهم قوّة كامنة وجاهزة للعطاء والمساهمة في إعادة ترميم التجربة، إذ تستفزّهم الانهيارات السياسيّة والخراب الوطني والاجتماعي المتسارع، والمخاطر الجسيمة التي تواجه المجتمع. والمهم أنهم ينظرون إلى المهمة برؤية تتجاوز البوتقة الحزبية إلى الحركة الوطنية الأوسع والمجتمع ككل، وبنضوجٍ أكبر.

لكن كيف يتحقق لم شمل الحركة الوطنية؟

الخطوة الأولى: إعادة بلورة خطاب التجمع، ليس بصيغته الأولى التي كانت ذات قوة وتأثيرين كبيرين في زمن مضى بل عبر تطويره كخطاب حركة تحرر وطني وديمقراطي، مرتبط عضويًا مع خطاب الحركة الوطنية الفلسطينية الذي تجري إعادة بنائه من تحت، في جميع أماكن وجود الشعب الفلسطيني. هذا ليس قفزا عن خصوصية واقع عرب ٤٨، بل أن تكون هذه الخصوصية في خدمة هذا الجزء من شعبنا، والقضية الفلسطينية ككل، باعتبارها قضية تحرر واحدة، توحّد الكل الفلسطيني. والتجمّع ليس مشروعا حزبيا بل مشروعا وطنيًا عاما، يقوم على تنظيم فلسطينيي الـ٤٨ على أساس قومي، من خلال انتخاب مرجعيتهم الوطنية انتخابا مباشرًا، وبناء وتوطيد مؤسساتهم المهنية والنقابية والتعليمية والثقافية والمالية.

الخطوة الثانية: إستراتيجية عمل شعبي متطوّرة، تأخذ في الاعتبار التطورات الاجتماعية الحاصلة وأولويّات الناس المتغيّرة، وخاصّة أولويات الجيل الشاب وهمومه الحياتية الحارقة، أي التحول إلى قوة مجتمعية فاعلة، كما كان التجمع أيام ازدهاره للمساهمة الحقيقية في حماية هذا المجتمع من تبعات السياسات الاستعمارية، كالفقر، والعنف، وتخلف التعليم، والحصار الاستيطاني للبلدات العربية.

الخطوة الثالثة: استنهاض مجتمع التجمع، ابتداءً من الكوادر الغاضبة أو المستنكفة أو المتقاعسة إلى الشرائح الشعبية الأوسع إلى الأكاديميّين والمثقفين، أعضاء وأصدقاء، والذين واصلوا تطوير الفكر السياسي، كأداة تحليل لواقعنا المتغير، وللمشروع الصهيوني المندفع في توسعه، التهويدي والكولونيالي.

يبقى السؤال الأهم؛ من يستطيع ومن هو المؤهل لإحداث هذا التغيير؟

هناك قدرات كبيرة وكثيرة، داخل مجتمع التجمع، لم تجرّب حظها أو لم يُتَح لها المجال، للمساهمة في عملية نهوض. وأعتقد أن أفضل ما يقوم به مؤسسو الحزب، وربما آخرون، مثلي وغيري، هو أن يكونوا داعمين ومشجعين لتلك الكوادر الأكثر وعيا وتجربة والأقوى إرادة وجدية، للاضطلاع بهذه المهمة، ولتكن هي الوجه الجديد لقيادات الحركة الوطنية.

يستطيع مجتمع التجمع، إذا نهض، أن يقدم مساهمة نوعية في عملية استرداد الخطاب الوطني، وإعادة الناس إلى السياسة، أي تنظيم أنفسهم في الميدان.

التعليقات