11/06/2021 - 12:59

عن التحرر المعرفي المنبثق من الانتفاضات الشعبية

يستند هذا النقد إلى التجربة المريرة للنخب العربية القومية التي طردت الاستعمار الأوربي من بلادها، لتبني أنظمة قهر، فاسدة، لا يتبدل زعماؤها الذين يرثون الملك، إلّا بالموت أو القتل أو الثورة. وحالة الوطن العربي وأنظمته الرسمية، هي من نتائج ممارسات

عن التحرر المعرفي المنبثق من الانتفاضات الشعبية

من أم الفحم (أ ب)

في الأيام العادية، وفي ظروف الهدوء، ينحصر استهلاك المعرفة والاشتغال في الإنتاج الفكري في دوائر النخب أو في جزء من النخب. والنخبة ليست طبقة أو فئة اجتماعية متجانسة، ففيها انتماءات فكرية وأيديولوجية وولاءات مختلفة ومتنوعة، يتقارب بعضها في مشاريع مشتركة، ويتنافر بعضها الآخر تنافرًا شديدًا، كالذي نشهده ونكتوي بناره، خاصّة منذ اندلاع الانتفاضات العربية، ضد الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي.

ولكن في ظروف الثورات أو الحراكات الاحتجاجية يتوسّع استهلاك المعرفة التحررية إلى فئات متعلمة وعمالية مثقّفة أوسع، وبين الأجيال الجديدة. كما يعود الذين أصيبوا بالإحباط والكسل في زمن الأزمة والركود والشلل الفكري والاجتماعي، في ظل واقع استعماري خانق، ونظام فلسطيني مستسلم وفاسد، وأنظمة عربية دموية ومتوحشة، إلى القراءة والتنور لامتلاك أدوات المعرفة المطلوبة لفهم مسببات إنتاج هذا الواقع وهذه الأزمة، وفهم التحولات الثورية، التي يأتي توقيت انفجارها مفاجأة، وكيفية التأثير فيها.

ولا تدرك سوى قلة من أصحاب المعرفة والرؤية التحررية أنّ هذه التحولات الثورية ليست مقطوعة الجذور، بل هي تتويج لتراكم معرفي ووعيٍ جديد وحراك ميداني متقطّع، بعضه عفوي وبعضه الآخر منظّم، تنخرط فيه قلة قابضة على الجمر، ثم تتغلغل في عقول الناس.

والثورات العربية، التي قُمعت بالحديد والنار، ولكنّها تعود وتظهر، فجّرت ثورة وعي ومعرفة، وأنتجت جيلًا راح ينهل المزيد من المعرفة، ليتعرف على أسباب إخفاقاته في الموجة الأولى، وفي الثانية، في انتظار نضوج عوامل الموجة القادمة. فتعرّفت طلائع هذا الجيل على اجتهادات جيل النهضة الأول واللاحق، منذ أواخر القرن الثامن عشر، مرورًا بالقرن التاسع عشر، ووصولًا إلى القرن العشرين، وتوقّفت عند إخفاقاته، وأسبابها، سواء تلك التي تنسب إلى التيار الديني، أو الليبرالي، أو القومي، أو اليساري. وتعرّفت على ثنائيات الأصالة والحداثة، والصراع بينهما أو محاولات التوفيق بينهما، وعلى النظريات المختلفة كالماركسية، والليبرالية، واليسارية، والقومية، واكتشف أن جميع هذه التوجهات الفكرية أو أصحابها، والذي وصل بعضهم إلى الحكم في دول عربية مهمة أو القصور في فهمها والعجز عن توطينها في المجتمع العربي، أخفقت في تحقيق النهضة الحضارية، وقوامها التنمية المستقلة، والديمقراطية والحريات الفردية، والعدالة الاجتماعية والاستقلال. وبعد هزيمة عام 1967، تجدّدت محاولات فهم الأسباب الجذرية وراء الهزائم العربية، ولم يعد مقبولًا الادعاء أن الاستعمار والمـؤامرات الخارجية السبب الوحيد لهذه الهزائم. وظهر مثقّفون عرب وفلسطينيون، تناولوا بنية المجتمعات العربية والأنظمة التي تحكمها، بما فيها الأنظمة القومية، بالنقد والتشريح في محاولة لامتلاك المفاتيح العلمية لفهم متطلبات المرحلة التحررية، وإعادة تشكيل المجتمعات العربية، وإخراجها من حالة الفوات الحضاري بتعبير المفكر السوري اليساري، ياسين الحافظ، المتوفى عام 1978 (كتاب الهزيمة والأيدلوجية المهزومة) وهو من المفكرين اليساريين القلائل الذين كانوا سباقين في إدراك الحالة العربية، وقد ساعده في ذلك، مغادرة الستالينية الجامدة.

ومن هـؤلاء المفكرين أيضًا، عبد الله العروي، وصادق جلال العظم، وإلياس مرقص، وهشام شرابي، وإبراهيم أبو لغد، وغيرهم الكثيرون. وفي وقت لاحق ظهرت أعداد كبيرة من العقول العربية لا مجال لحصرها، تبني على إنتاجات السلف وتُصوّب وتُجدّد وتطرح تصوّرات تحررية حديثة. ومع تتالي الإخفاق أمام إسرائيل، ظهرت مبادرات ومشاريع فكرية نقدية متقدمة ضد مجمل بنى النظام العربي، وانتفاضات شعبية، وحركات مقاومة، تتصدى للمستعمر الصهيوني، كما حصل في الانتفاضتين الأولى والثانية في فلسطين، في عامي 1987، وعام 2000 في لبنان. وهذه الانتفاضات، والتي نشهد حاليا الثالثة منها، هي ضد الثلاثي؛ الصهيونية والإمبريالية العالمية، وأنظمة والاستبداد العربية، والنظام الفلسطيني الفاسد. وكذلك كما حصل في لبنان، وتمكنت المقاومة من طرد المستعمر دون قيد أو شرط في أيار/مايو من عام 2000.

ومع انفجار وتصاعد الثورات العربية، انتشرت مفاهيم تقدمية وإنسانية، مثل الحرية والتحرر والدولة المدنية والتنمية المستقلة وإن فات جيل هذه الثورات إدراك أهمية العدالة الاجتماعية المناقضة للنيولبرالية المتوحشة، التي كانت الدافع الآخر، إلى جانب غياب الديمقراطية، لانفجار الغضب الشعبي العارم. ومن المرجح أن يكون هذا الجيل أكثر قوة، وأكثر معرفة، وأكثر نجاحًا في إدارة الموجات الثورية القادمة أو المبادرات الإصلاحية، وفي إعطاء وزن أكبر للعدالة الاجتماعية، بديلا للنيولبرالية المتوحشة.

وقد قامت، بتأثير من هذه الثورات، مبادرات ومؤسسات بحثية جدية، تنشغل في تطوير آليات الانتقال إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية على أنقاض الاستعمارين، الداخلي والخارجي، واتّسعت طبقة المهتمين والمنشغلين في توفير الإنتاج البحثي، لتشمل أعدادًا واسعة من الأكاديميين الشباب، الذين يتوقع أن يكونوا في قيادة النهضة العربية الحقيقية، وفي الجمع بين التحرر الوطني وحرية المواطن - الإنسان.

ويقال إن الهبّات الفلسطينية المحدودة، المتلاحقة، والتي تَتوّجت، مؤخرًا، في مواجهة فلسطينية شاملة، في جميع أرجاء فلسطين، ضد نظام الأبرتهايد الكولونيالي الصهيوني، هي امتداد للربيع العربي. ويرى الكثيرون أنّ الثورات الفلسطينية سبقت الثورات العربية، إذ يستحضرون الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى العارمة عام 1987، بل يستحضرون كل الهبات والانتفاضات على طول التاريخ الفلسطيني.

وكما الثورات العربية، رسّخت المواجهة الفلسطينية الأخيرة، لغةً ومفاهيم وترمنولوجيا، كانت مقتصرة على دوائر محدودة في المجتمع السياسي الفلسطيني. والعلاقة الجدلية بين المعرفة والواقع مسألة معروفة، فبينما تفاجئ الجماهير النخب، في تجرؤها على أنظمة القمع الداخلي، والاستعمار الخارجي، تبادر هذه النخب (وجزء منها ينخرط في الثورات المضادة) إلى العمل على التأطير النظري للهبة الشعبية والمواجهة الميدانية، وصياغة الأهداف المرحلية والإستراتيجية، ولكيفية الانتقال من العفوية إلى التنظيم، كضامن للديمومة والتراكمية. وهذا تحدٍّ كبير يقف دائمًا أمام كل ثورة أو حراك، وهو نفسه يواجه الآن الهبة المقدسية المجيدة، "هبة الأمل والكرامة"، التي تحوّلت إلى هبّة فلسطينية في عموم الوطن، والتي من خلالها بدأت تعيد الارتباط مع الشعوب العربية، وتطلعاتها من أجل الحرية والعدالة.

وما يفتح باب التفاؤل هو تطوّر تفكير الجيل الجديد، وتذويته لقيمة الحرية في مواجهة الاستبداد والفساد والقمع، من أية جهة كانت، سواء من نظام أو من حركة مقاومة أو من حزب يساري ستاليني. ونشهد تجسيدات هذا التطور في الخطاب الدائر بين الشباب على السوشيال ميديا أو في النضالات اليومية.

في هذا السياق التطوري، تنتعش مقولات ومفاهيم تحررية وطنية وانسانية، كانت محبوسة في دراسات وكتابات الباحثين منذ عقدين، دون أن تثير اهتمام الطبقة السياسية الفلسطينية الرسمية، أو اهتمام المثقفين والكتاب والإعلاميين الذي يشكلوا السند النظري لهذه الطبقة.

ومن هذه المفاهيم، مبدأ التحرّر، والحرية، وحقوق الإنسان ومفاهيم مثل الأبرتهايد والاستعمار الاستيطاني، وخطاب الحقوق، وغيره.

ففي العقدين والنصف الماضيين، كانت تجري ثورة معرفية ضد مدرسة أوسلو ومفاهيمها، سياسيا وطبقيًا، قادتها مجموعات من الأكاديميين والمثقفين والناشطين، مستفيدين من تراث الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن عودة الخطاب الكولونيالي إلى دوائر أكاديمية غربية، ناقدة، وذلك بالتوازي مع تطور واقع العلاقة من المستعمر، الذي واصل بدون كلل ترسيخ مشروعه الكولونيالي الإحلالي في فلسطين التاريخية.

وتتلخص هذه المفاهيم، في كونها تعيد تعريف إسرائيل، على أنّها حركة أوروبية استعمارية استيطانية، وأن الصراع في فلسطين هو صراع استعماري، وليس نزاعًا بين طرفين متساويين في الحق. كما أن الحركة الوطنية الفلسطينية، هي حركة تحرر وطني وديمقراطي، وأنها جزء من حركات الشعوب الساعية إلى العدالة. ومضافا إلى ذلك، وهو الأهم، إعادة الاعتبار لمركزية المواطن - الإنسان في عملية التحرّر، ولا يتردّد هذا الجيل ليس في نقد نظام السلطة الفلسطينية، وكيل الاستعمار أو أي نظام عربي آخر فحسب، بل أيضًا في نقد حركات المقاومة، أو أيّ فصيل أو حزب (عربيا أو فلسطينيا) حين يرتكبوا أخطاء بحق المواطن والديمقراطية، أو انحرافًا عن قيم التحرر بمفهومها الشامل، أو يقفوا ضد ثورات الشعوب العربية.

يستند هذا النقد إلى التجربة المريرة للنخب العربية القومية التي طردت الاستعمار الأوربي من بلادها، لتبني أنظمة قهر، فاسدة، لا يتبدل زعماؤها الذين يرثون الملك، إلّا بالموت أو القتل أو الثورة. وحالة الوطن العربي وأنظمته الرسمية، هي من نتائج ممارسات ونهج تلك النخب، التي، للأسف، أعادت إنتاج نفسها على جماجم شعوبها.

اقرأ/ي أيضًا | المعركة بدأت للتو

شعبنا الفلسطيني المكافح، ومن خلال حركته الشعبية، ونخبه المتجددة الصاعدة، يستطيع أن يمثّل نموذجًا رائدًا ليس في مقاومة الاستعمار فحسب، بل أيضًا في مقاومة الفساد والاستبداد، سواء كان فلسطينيًا أو عربيًا، عبر حركة وطنية ديمقراطية تحررية، حديثة، تطمح لوطن حر ومواطن حر. والمواجهة التي أطلقها شعبنا في شهر رمضان الماضي، ردًا على العدوان، وبأشكال مختلفة من النضال، من داخل أحياء القدس والأقصى، ومن الجليل إلى رفح، هي فرصة لفتح أفقٍ مختلف للمسيرة الفلسطينية، والعربية التحررية، ولتصبح جزءًا عضويًا من حركة التحرر العالمي من أجل نظام دولي عادل.

التعليقات