24/06/2021 - 19:21

احتجاجات أيار 2021 وسقوط إستراتيجيّة المفاضلة الإسرائيليّة بين القوميّ والمدنيّ

لقد أدت هذه الأزمة إلى تعاظم قوة الأحزاب الصغيرة بما يشمل العربية لحسم الأغلبية البرلمانية لصالح هذا المعسكر أو ذاك. هذا الواقع فتح أفق التعاون بين أحزاب عربية وأحزاب يمينية، لطالما سحبت الشرعية عن الصوت العربي

احتجاجات أيار 2021 وسقوط إستراتيجيّة المفاضلة الإسرائيليّة بين القوميّ والمدنيّ

شابان في إحدى باحات المسجد الأقصى (أ ب)

الاحتجاجات والمظاهرات الأخيرة في المدن والقرى العربية، والتي عصفت بأقصى أشكالها في ما يسمى في الخطاب الإسرائيلي بـ"المدن المختلطة"، فاجأت الكثيرين بالرغم من كونها ذات تناسب طردي مع حيثيات الواقع السياسي في جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في المدن والقرى المختلفة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل. بالرغم من هذه التباينات بين المناطق والمدن والقرى المختلفة، والتي أدت إلى تعدد القراءات لهذه الأحداث وخلافات حول دوافعها وأهميتها، هناك توافق بين أطراف متعددة حول الادعاء بأن هذه الاحتجاجات بدلالتها التاريخية وأبعادها السياسية، تعبر عن اعتراض وجداني وسياسي على الفصل بين الهوية الوطنية للفلسطينيين في إسرائيل وبين حقوقهم المدنية، والتفاضل لصالح الأخير بينهما. كما لا تقتصر احتجاجات أيار/ مايو الأخيرة على الاعتراض على هذا التفاضل، بل تحمل في طياتها دلالات ومؤشرات عميقة تُردد وجدانية الحس الوطني الفلسطيني، التي جرى ترجمتها بآليات عملية مألوفة في أدبيات الاحتجاج والمواجهة، للتصدّي لمحاولات التجارة بالحقوق الوطنية، ومحو جذور سياسات التمييز والقهر الإسرائيلية، من خلال الفرز والفصل بين ما يحصل في الشيخ جراح وبين ما يحصل في قلنسوة أو الطيبة في المثلث الجنوبي، أو في جديدة - المكر أو طمرة في الجليل الغربي، أو في يافا وعكا واللد. كما فيها اعتراض عميق على تغييب سياسات السيطرة للنظام الإسرائيلي القائم بين البحر والنهر، والذي لا يفصل بين أجزاء البلاد المختلفة وبين سكان البلاد الأصليين في سياساته الإحلالية والاستحواذية، بالرغم من استخدامه لآليات قانونية و"تهذيبية" وقمعية مختلفة. وقد أتت الاحتجاجات لتؤكد الوعي السياسي الفلسطيني المشترك الرافض لسياسات الاستعداء الإسرائيلية لوحدة الشعب الفلسطيني، ولرفض المفاضلة السياسية بين أجزائه المختلفة، والتي هي بالأساس صنيعة نظام السيطرة الكولونيالية، الهادفة لتفكيكه والتحكم به.

إن الاحتجاجات والمظاهرات في المدن والقرى العربية تتضمن تجاوز الوعي المحلي، وتواصلا وجدانيا وسياسيا مع التجربة المكانية بمواصفاتها الوطنية الشاملة، لتدلّ على أن القائمين على الاحتجاجات وكل الشركاء فيها واعون لبنية القوة والهيمنة والغطرسة الإسرائيلية في كل المناطق المأهولة بالفلسطينيين، والتي تجاوزت ما يمكن أن يتحمله كل إنسان مسحوق، خصوصًا بسبب استخفافها بعقل هؤلاء واعتقاد بعض قيادات المؤسسة الإسرائيلية بأن الفلسطينيين لقمة سائغة في أيديهم وأيدي من يقبل التهادن مع عنصريتهم.

وتعكس احتجاجات أيار فقدان السلطة الإسرائيلية النفوذ بكل ما يتعلق بوعي الفلسطينيين في جميع مواقع سكناهم، وفقدانها القدرة على فرض سيطرتها على إدراك أبناء وبنات المجتمع الفلسطيني في الداخل، وبأن هؤلاء يصممون من خلال أفعالهم على إبقاء الحق والقدرة على الاحتجاج والاعتراض على الواقع وعرقلة سريانه "الطبيعي" بأيديهم، وفرض إرادتهم عليه ليس من أجل الدفع في اتجاه تغيير السياسات الإقصائية والمُهمِشة لهم بشكل كامل فحسب، وإنما أيضًا في صياغة قوانين اللعبة من جديد، لكي تكون لهم حصتهم في تحديد مسار المستقبل الذي يواجهونه.

أظهرت احتجاجات أيار أن الجيل الشاب في المجتمع الفلسطيني في الداخل واعٍ لإمكانياته، وبالرغم من أنه مدرك بأنه لا يملك الآليات الكافية لتغيير دفة التاريخ بشكل كامل، فهو يستطيع زعزعة ثقة المؤسسة الحاكمة بسيطرتها على الوضع والإثبات بعدم نجاحها في كيّ وعي الفلسطينيين بواسطة موارد مادية هزيلة، أو آليات ترهيب وتأديب واهية. لذا حاول كل من شارك في الاحتجاجات الأخيرة التذكير بمجرد حراكه بأنه يملك بيديه ليس الحق والجرأة والقدرة الفعلية على زعزعة مجرى الحياة في كل البلاد، وذلك من أجل التلويح بالحاجة الملحة للدفع في اتجاه تغيير جذري وعميق في بنية القوة الإسرائيلية وفي السياسات الصهيونية لاستخراج الحقوق الأساسية لكل مواطن فلسطيني، وعلى رأسها الحق في تعريف تضاريس الحياة الأساسية، كما هو متاح لكل يهودي في البلاد أو خارجها، والمشاركة الفعّالة في تحديد كيفية إدارة وتوزيع الموارد اللازمة لضمان تواصل كل فلسطيني وفلسطينية مع تاريخهم، والتأكيد على مستقبلهم، من أجل تسريع البت في حل القضية الفلسطينية الأوسع.

كما أظهرت احتجاجات أيار أن الأجيال الشابة الفلسطينية في الداخل لا تحتاج للتذكير بأنها فلسطينية الانتماء، خصوصًا وأن المؤسسة الإسرائيلية بسياساتها العنصرية تذكرهم بذلك بشكل يومي، وهي مستمرة بمحاولات الفرز بين العربي "الصالح"، الذي يقبل سقف الشرعية التي يحددها الخطاب الصهيوني ويتماشى مع التغاضي عن الشأن الوطني لصالح خطاب مدني، وبين المواطن "غير الصالح" الذي يعترض على ذلك ويؤكد على عدم تقبل الفرز بين القومي والمدني، ويعترض على التطبيع مع الدول العربية إذا لم يضمن ذلك حلا للقضية الفلسطينية.

لهذه الأسباب تشكل هذه الحَراكات والاحتجاجات الشعبية بوصلة للقيادات العربية القطرية والمحلية، وتذكّرها بأن الأجيال الشابة سئمت أنماط القيادة القائمة المبنية بأساسها على تراتبات لا قيمة لها في ظروف هائجة، وملّت من الاحترابات الداخلية بين القيادات المختلفة، وتتوقع تغييرات جذرية في عقلية التعامل مع الواقع المركب، وتجاوز أنماط التفكير الطوباوية، وضخ أفكار جديدة لتتلاءم مع احتياجات الموقف. كما تؤدي هذه الحَراكات والاحتجاجات رسالة واضحة للقيادات الإسرائيلية، بأنها مهما قامت من تحايلات، لن تستطيع أن تثني الأجيال الشابة عن عزمها بالاستمرار في المطالبة بحقوقها التاريخية كجزء من شعب وليس كأفراد، كما تتعامل معهم المؤسسة الإسرائيلية. كما توصل هذه القيادات الشابة رسالةً لنخب العالم العربي في شتّى أماكن تواجدها والقيادات الفلسطينية، وعلى رأسها قيادات السلطة الفلسطينية، بأن هذا المجتمع لن يقبل عمليات الأسرلة التي تعززها هذه القيادات، ولا يمكن أن يرضخ للغطرسة والهيمنة الإسرائيلية ولن يقبل إلا بإحقاق حقوقه المدنية والوطنية مهما طال الزمن، خصوصًا وأنه يعاشر مجتمعا يطالب بحقوق يدّعي بأنها سلبت منه منذ آلاف السنين، فكيف له أن ينسى حقوقه التي سلبت قبل بعض عقود وما زالت تسلب كل يوم حتى اليوم؟

ولأن هذا السلب المستمر يطال الجيل الرابع للنكبة ويذكره يوميًا بتهميشه وعدم احترام كيانه ووجوده الفلسطيني، فإن هذا الحراك لا يقبل الفصل بين المدني والوطني في التعامل مع المؤسسة السياسية الإسرائيلية، والقائمون عليه مستعدون لكسر كل الحواجز وتجاوز كل العقبات التي فرضتها ماكينة السيطرة الإسرائيلية، من أجل التأكيد على أن النظام القائم ليس شرعيًا بنظرهم، وأن هدوءهم وسكونهم مؤقت، وهو لا يغيّب وعيهم بأن الوضع القائم يتضمن الإبقاء على هاميشتهم، ولهذا بقاؤهم مرهون بالاعتراض عليه وزعزعة قوائمه كلما أتيحت لهم الفرصة لذلك، على أمل أن تقوم القيادة السياسية بترجمة حراكهم إلى سياسات لا تخضع للغة الكولونيالية المهيمنة، ولا للآليات العسكرية القمعية المتبعة في التعامل معهم.

إن احتجاجات أيار تعبر عن عودة المكبوت في وعي الجيل الفلسطيني الصاعد، والذي يبدي من خلال أنماط احتجاجه بأنه لا يمكن أن يقبل لنفسه أقل مما يحصل عليه أبناء وبنات جيلهم في المجتمعات الغربية بالأساس، والتي ينكشفون عليها بواسطة وسائل التواصل الاجتماعية بشكل يومي؛ وبأنهم أصحاب إرادة وقدرة ذاتية فردية وجماعية ظهرت من خلال تحركاتهم الميدانية السريعة، مثل تنظيم طلاب الجامعات في السفريات من وإلى الجامعة، وتوجههم لمؤسسات الجامعة الرسمية للاعتراض على الممارسات التي تتبع ضدهم من طلاب يهود، أو حتى من بعض طواقم التدريس في الجامعات، ومن طرف أجهزة الأمن في بعض الجامعات أو مساكن الطلبة، ومشاركاتهم في منصات للإدلاء بشهاداتهم، وتنظيم السفر للقدس وللشيخ جراح وسلوان للمشاركة في المظاهرات ومساندة أهلها، والمبادرة لمشروع جداريات في المدن المختلفة.

لذا، فإن هذه الاحتجاجات ليست عفوية أو عبثية، ولا يمكن تقزيمها لمستوى المس بسلطة القانون أو الاعتراض على سلطة الدولة المدنية، كما تحاول الدولة أو بعض القوى السياسية تصويرها. هذه المظاهرات والفعاليات تعبر عما كان وما زال مبطنًا في العلاقة المركبة بين الدولة الإسرائيلية ومواطنيها الفلسطينيين، وعلى رأس ذلك الصراع بين الفكر والممارسة الصهيونية المبنية على الاستيلاء والاستحواذ على البلاد، ومواردها وتاريخها ومدخراتها الرمزية، وبين الدوافع الفطرية الفلسطينية للتشبُّث بالأرض والوطن والدفاع عن الحق في المسكن والمكان، ليس من باب الحق المدني فقط، وإنما من بوابة الانتماء الوطني والرابط التاريخي مع وطنهم بالأساس.

من هنا، فإن القراءة الأقرب إلى الصحة هي أن الأحداث الأخيرة تعبّر عن وعي وطني فطري عميق بأن الصراع على الوطن ما زال قائمًا ومفتوحًا، وبأن "الشدة بدها شدة" كما قال المثل، ولهذا لا يمكن القبول بالاستهتار والتحقير وسحب الشرعية عن الحق الأساسي والأولي للفلسطينيين بممارسة كل الوسائل، بما في ذلك تحدي المتاح بالتعريف القانوني من أجل التأكيد على أن القانون مجحف من أساسه، وبأنه جاء للجم قدرتهم في التأثير على واقعهم، وفرض إرادتهم على مجرى حياتهم. وإذا كانت الاحتجاجات تعكس وعيا وإرادة جماهيرية، فهي أيضًا تؤكد على ما أكد عليه منظّرو التمردات الشعبية مثل ألبير كامي، بأن التمرد لا يعبر عن هوية ذاتية واضحة المعالم تستبقه، وإنما هو عملية بناء وصقل للهوية بواسطة الوعي المنعكس في إرادة جامعة، تتمثل في المشاركة الواسعة لأفراد ومجموعات في عملية التأكيد على التمسك بتاريخهم وأرضهم وحضارتهم المشتركة.

هذا يعني بأن احتجاجات أيار، وخصوصًا تبعاتها من اعتقالات سافرة ومحاولات قمع وفرض خطاب سلطوي يقلّص ما حدث ويصفه بأنه مجرد أعمال شغب مخالفة للقانون تعبر عن نوايا المشاركين فيها بزعزعة سلطة القانون، هو محاولة لصياغة الأحداث بشكل يتماشى مع إرادة السلطة للفرز بين من شاركوا بشكل فعلي وبين من لم يشاركوا في الأحداث، وإخراج الأوائل من حلقة الشرعية السياسية. والدلالة على نوايا السلطة وخصوصًا أذرعها الأمنية المتمثلة في الشرطة و"الشاباك"، تنعكس في الاعتقالات المستمرة لأعداد تتعدى الآلاف من الذين شاركوا بالمظاهرات، حتى ولو كانت مشاركتهم سلمية. لذا نرى أن هؤلاء المشاركون يؤكدون على أن سلوك الشرطة هو دلالة واضحة على إجحاف القانون، الذي لا يعترفون بعدله ولا يكيلون بمكياله، وبأن مشاركتهم بالمظاهرات تؤكد حقهم غير المشروط في مواجهة تهميشهم وإقصائهم من التأثير على مجرى حياتهم، وبأن مجرد تعريف المشاركة بأنها إخلال بالأمن العام، هو جزء من آليات السيطرة والتحكم الذي يرفضونه من الأساس. وقد انضم الإعلام الإسرائيلي لجوقة التحريض وتحريف الواقع، وتجلّى كواحد من أذرع الدولة الذي يعمل على صياغة واقع بشكل يتماشى مع الرواية الإسرائيلية الرسمية، محاولًا تقزيم الإرادة الشعبية الفطرية ومحاولة تصوير الحراك والقائمين عليه، على أنهم متطرفون ومتأثرون من قيادات مثل "حماس"، وبالمقابل محاولة تصوير غالبية المواطنين الفلسطينيين على أن أقصى ما يرغبون به هو الاندماج في المجتمع، تاركين وراءهم هويتهم القومية.

من أهم ما تجدر الإشارة إليه هو أن هذه الأحداث طرأت في سياق لا يمكن التغاضي عنه من أجل فهم عمقها الإستراتيجي وأبعادها السياسية. إن السياق الأساسي المباشر هو أحداث الشيخ جراح في القدس، واستباحة حرمة المسجد الأقصى من جهة، والخلاف الدائر بين أقطاب المجتمع الفلسطيني في الداخل حول كيفية التعامل مع سياسات الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسها النقاش حول شرعية الدخول أو عدم الدخول في مفاوضات لإقامة حكومة إسرائيلية جديدة من جهة أخرى. لا شكّ في أن هذه الأحداث مهمة ومباشرة، ولكنها جزء من صورة أوسع ولا يمكن أن تغيّب عمق أزمة الثقة بين المؤسسة السياسية الإسرائيلية وبين الحس الفطري الفلسطيني الذي يعترض على السياسات الإسرائيلية الإقليمية، وعلى رأسها فرض السيطرة الإسرائيلية على أحداث المنطقة، ومنها التطبيع مع بعض الدول العربية، وتفكيك دول الممانعة العربية وعلى رأسها العراق وسورية وإخفاقات الربيع العربي، وعودة الدكتاتورية المهادنة إلى السلطة في مصر، واستغلال هذا الواقع من جهة إسرائيل لتهميش القضية الفلسطينية، وتفكيك مركباتها الأساسية، بموازاة الإحباط الداخلي من الانقسام الفلسطيني.

إن السياق المباشر الذي ينعكس في الأزمة السياسية الإسرائيلية المتمثلة في توازن القوى بين المعسكر اليميني والمعسكر "اليميني – الوسطي – اليساري"، هو سياق محلي تلعب فيه الأحزاب السياسية بحسب توازنات القوة المتاحة لها.

لقد أدت هذه الأزمة إلى تعاظم قوة الأحزاب الصغيرة بما يشمل العربية لحسم الأغلبية البرلمانية لصالح هذا المعسكر أو ذاك. هذا الواقع فتح أفق التعاون بين أحزاب عربية وأحزاب يمينية، لطالما سحبت الشرعية عن الصوت العربي وقامت بالفرز بين أنواع مختلفة من المواطنين العرب، بين من هم صالحون ومن يشكلون تهديدًا لهوية الدولة العبرية. إن سياسات سحب الشرعية عن الصوت العربي لمجرد كونه عربيا لطالما كان جزءًا من السياسات الإسرائيلية، إلى حين أتت الحاجة لدعمها من أجل التأكيد على الحصول على أغلبية برلمانية لصالح معسكر سياسي هذا أو ذاك. هذا الواقع أعطى الشعور بأننا نقف أمام حقبة سياسية جديدة في العلاقات بين المجتمع الفلسطيني في الداخل وبين المؤسسة السياسية وعلى رأسها حزب الليكود. وقد دخلت قوى عربية محلية على هذا الخط لتلعب دور الأداة المتقبلة للخطاب الإسرائيلي، بأنه على المواطنين العرب خفض سقف مطالبهم وتقبل خطاب المواطنة الإسرائيلي لكي يستطيعوا التأثير. وبالرغم من أن بعض القوى السياسية العربية تماشت مع هذه الادعاءات، إلا أن الصوت الشعبي المبطّن في وجدان المجتمع العربي ما زال متشككًا ويأبى الرضوخ والانصياع، ويؤكد على وعيه السياسي والوطني، وينظر بعين ناقدة إلى دخول اللعبة السياسية الإسرائيلية، وشرعنة سياسات السلطة من أجل تحقيق بعض المطالب المادية، التي يبدو أن تحقيقها سيكون صعبًا في ظروف أزمة مادية وعجز كبير جدًا في موازنة الدولة. كما ازدادت صعوبة تحقيق هذه المطالب في ظل ازدياد الممارسات العنصرية في المجتمع اليهودي المُمأسسة وغير المُمأسسة، والتي تذكّر الفسطيني في الداخل أنه مهما تقدم في السلم الاقتصادي، فإن ذلك لا يخلق تغييرا في ممارسات الدولة والمجتمع اليهودي تجاهه على خلفية هويته القومية، حتى وإن كان الفلسطيني طبيبًا أو طبيبةً يعالجون المرضى الإسرائيليين، بغض النظر عن هويتهم القومية.

أتت الاحتجاجات العنفوانية الأخيرة والتي لم تنته عواقبها حتى يومنا هذا، لتكشف عمق الشرخ بين المجتمع الفلسطيني والخطاب السياسي الإسرائيلي ورؤية المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية. إن محاولة القيادات الحاكمة في إسرائيل على مدار سنوات، خصوصًا في العقد الأخير، القيام بكل ما يمكن القيام به من أجل المس في صميم القضية الفلسطينية وتهميشها، وتحقير رموزها وقياداتها وتفكيك مطالبها، وفرض سيطرة الدولة على كل مفاصل القوة والاستيلاء على موارد الشعب الفلسطيني؛ يشكل عاملا مهما في تفسير الأحداث الأخيرة.

لذا، فإن التحوّل الخبيث في وجهة بنيامين نتنياهو بكل ما يتعلق بكسب ثقة الجمهور الفلسطيني في الانتخابات الأخيرة وانضمام بعض الأصوات العربية وعلى رأسها بعض قيادات الحركة الإسلامية (الجنوبية) وبعض رؤساء البلديات، ومنها في مدن عربية كبيرة، أدى إلى إحباط كبير في صفوف فئات مختلفة من المجتمع الفلسطيني في الداخل، التي رأت في هذا التحول الفجائي استهتارا بعقلها، وعنصرية مبطّنة تستخف بعقل المواطنين الفلسطينيين، وتعتبرهم وكأنهم قطيع يمكن تجييره حسب إرادة القيادة الإسرائيلية. من بين هذه الفئات أطراف واسعة من الطبقة الوسطى العلمانية، والتي طالما بنت على التأثير في الساحة الاجتماعية والسياسية الإسرائيلية، ولكن بشروطها ورؤيتها، والتي رأت كيف أن القيادات الصهيونية، يمينية ويسارية، مستعدة لأن تتعاقد مع أي قيادة فلسطينية ما دامت هذه مستعدة للتنازل عن التأكيد على هويتها الوطنية، وبالتالي تحدد سقف المطالب التي يمكن أن تناضل من أجلها، مستثنيةً الجانب الوطني في هويتهم.

من بين الفئات الأخرى التي امتعضت من توجهات القيادات الإسرائيلية وتعاقد بعض الأطراف الفلسطينية معها، نخب وقيادات الحركة الإسلامية في شقها العقائدي والتي أخرجت عن القانون، ولكنها ما تزال متواجدة على أرض الواقع ورؤيتها تتعارض بشكل مباشر مع الخط البراغماتي الذي تنتهجه قيادات الحركة الإسلامية المتواجدة في الكنيست. الفئة الثالثة هي طبقة المهمشين وهي الأوسع والأكثر تشككًا حول ما يحصل، والتي دفعت وما زالت تدفع الثمن الأكبر للسياسات الاقتصادية النيو- ليبرالية بقيادة نتنياهو، والتي من أهم أهدافها هو إضعاف مؤسسات دولة الرفاه وقطع المعونات والمستحقات للعائلات الفقيرة.

لقد أدت هذه السياسات إلى تحوّل أجزاء لا يستهان بها من الفئة الأخيرة إلى الإجرام واستخدام آليات غير قانونية من أجل اللحاق بعجلة التطور الاقتصادي. التطور الذي رأته قيادات الدولة ومعها القوى الأمنية كمن يخدم مصالحها بواسطة تمزيق المجتمع الفلسطيني من الداخل. بالرغم من أن هناك اختلافا كبيرا بين رؤى ومصالح هذه القطاعات المجتمعية، إلا أن درجات الإحباط داخلها تأججت في الفترة الأخيرة لأسباب غير متجانسة، وعلى رأسها الاستهتار بالمواطنين العرب وسحب الشرعية عنهم من جهة، وتهميش القضية الفلسطينية واستباحة المعتقدات الدينية وعلى رأسها الاعتداء على المسجد الأقصى من جهة أخرى، والتي أدت إلى خروج بعض ممثليها إلى الشوارع وعلى رأسهم ممثلو المجموعة الأخيرة، الذين بحسب مؤسسات الدولة هم الذين صبوا نيران قهرهم على ممتلكات الدولة، ومسوا بشكل "سافر" بالنظام العام. وصورت هذه المؤسسات، الأحداث، على أنها سلوك همجي ليس له علاقة أيا كانت مع سياساتها المجحفة على مدار عقود.

لقد أتت محاولات نتنياهو وجوقته "تطبيع" العلاقات مع المجتمع العربي في فترة قليلة من الزمن، والتغاضي عن سنوات من الإجحاف والتهميش والإفقار، وتجريد السياسات الإسرائيلية من طابعها القومجي والعنصري وتحويلها إلى مجرد إجحاف تقني يمكن التغلب عليه من خلال قرارات سريعة تضمن للمجتمع الفلسطيني بعض الموارد المادية لرفع مستوى المعيشة فيه، والاستجابة لبعض المطالب المتعلقة بالتخطيط والبناء والبنى التحتية؛ أتت هذه السياسة للتذكير بعنصرية القيادات الإسرائيلية، ولذلك قوبلت بالسخرية والمحاكاة العبثية من قبل البعض، خصوصًا لأنها جاءت بعد فترة صعبة من سحب الشرعية عن كل ما هو فلسطيني، والتي تماشت مع خطة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، للسلام والتطبيع مع الدول العربية على حساب القضية الفلسطينية.

تقبل بعض القوى السياسية المحافظة هذا الخطاب وانصاعت له، ما أثار حفيظة قطاعات واسعة من النخب الاجتماعية من مواقف الأحزاب الصهيونية التي تفضل التعاقد مع قوى سياسية محافظة وتقصي قطاعات علمانية وبراغماتية، الأمر الذي يكشف النوايا المبيته لهذه الأحزاب، التي ترى بهذا التعاقد آلية مؤقته تخدم مصالح الأحزاب الصهيونية. فمن جهة حاول نتنياهو التعاقد مع ممثلي القوى المحافظة لأنها تنازلت عن التلويح بهويتها الوطنية لصالح هوية دينية ضيقة، وهو بالتالي يستطيع سحب الشرعية عنها متى شاء؛ ومن جهة أخرى قامت الأحزاب المعارضة لنتنياهو بالتعاقد مع القوى نفسها، ليس لأنها تؤمن بمبدئية مشاركتها في السلطة، وإنما من أجل الهدف الأساسي وهو الإطاحة بحكم نتنياهو. وما تزال هذه الأحزاب تتحدث عن محاولاتها إقناع أحزاب يهودية أخرى، وعلى رأسها الحريديون، الدخول إلى الائتلاف الحكومي وبالتالي التخلي عن المشاركة العربية معها.

لا شك في أن احتجاجات أيار بكيفيتها وإطارها وآلياتها ورمزيتها تتضمن دلالات واضحة، بأن الخطاب التفاضلي الإسرائيلي والذي يفصل بين المحلي والإقليمي، وبين الوطني والمدني، وبين المواطنة الصالحة وغير الصالحة، غير مقبول على قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني في الداخل وفي مقدمتهم الجيل الشاب. إن سياسات الاعتقال وفرض السيطرة الإسرائيلية في المدن والقرى العربية تظهر بشكل جليّ معاني احتجاجات أيار، وتؤكد أنها تتضمن كل ما أتت به من قبل. لا شك في أن المجتمع الفلسطيني في الداخل يؤكد عروبته وفلسطينيته كل مرة من جديد، ويعكس من خلال سلوكه السياسي قدرته على تجاوز الخلافات بين النخب والقيادات، وبأنه بفطرته المبطنة يؤكد على استعداده للمواجهة من أجل الحفاظ على كرامته ووضع البوصلة أمام المجتمعات العربية، بأن الحق الفلسطيني على كل مركباته لا يمكن التفريط به أو التغاضي عنه أو تناسيه. كما تنتظر قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني في الداخل إلى ما ستؤول إليه التجربة التي تخوضها الحركة الإسلامية في قرار دخولها إلى الائتلاف الحكومي بقيادة أحزاب لا تعترف بشرعية قضيتهم الفلسطينية، بالرغم من أنها تميّز ضدهم على هذا الأساس؛ وذلك ليس من باب قبول ذلك أو من باب السذاجة، وإنما من باب "لاحق العيّار لباب الدار"، وإن العيّار في هذا الحال مزدوج. الأول هو المؤسسة الإسرائيلية التي طالما قالت إن التعنت العربي وإصراره على حقوق قومية إضافةً للحقوق المدنية، تعيق اندماج المجتمع العربي في الواقع الإسرائيلي، وإن الاكتفاء بالمطالب المدنية من شأنه أن يتيح المجال لسياسات تحقق المساواة بين المواطنين العرب واليهود في البلاد، وهو ما تقوم قيادة الحركة الإسلامية – القائمة الموحدة بالتخلي عن القومي من أجل المدني والدخول للائتلاف الحكومي؛ ولذا فلننتظر ونرى إذا ما ستقوم الحكومة الإسرائيلية والمؤسسات الأمنية في تغيير سياساتها تجاه المجتمع العربي.

والعيّار الثاني هم من يعتقدون بأن هذا الفصل بين المدني والقومي ممكن، ولهذا علينا نحن المواطنون العرب القيام بخطوات استباقية من أجل فتح المجال أمام المؤسسة الحاكمة بتحقيق أمانينا وترجمة حقوقنا المقتصرة على الحقوق المدنية إلى أرض الواقع.

وها نحن الآن، لدينا تجربة فريدة من نوعها، إذ تترقب قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني في الداخل خطوة الحركة الإسلامية، وتمتحن سياسة الاندماج الكامل الذي يتم الادعاء بأن من شأنه تحقيق ما يصبون إليه، ألا وهو المساواة في الحقوق التي تنص عليها الدولة ذاتها بأنها مدنية. لذلك، فإن شرائح من المجتمع في حقبة انتظار وترقب لترى ما سيتمخض عن هذا المخاض غير المسبوق، وإذا ما تحققت الأمنيات وتمت ترجمة المنشود إلى سياسات فعلية، مع الإبقاء على إمكانية المفاجأة، حيث يتم كشف العورة العنصرية للمؤسسة الإسرائيلية المهيمنة وتتحطم نظرية الاندماج المدني وعودة الفطنة السياسية إلى عقول من يخوضون هذه التجربة، والتحقق من أن المفاضلة بين المدني والقومي لا يمكن تحقيقها ليس فقط لأن المجتمع الفلسطيني هو من يحول دون ذلك، وإنما لأن بنية السلطة السياسية الإسرائيلية، بكل تفاصيلها، مبنية على جدلية التكامل البنّاء بينهما في ما يتعلق بما هو يهودي، وجدلية التناقض القسري بينهما بكل ما يتعلق بما هو فلسطيني. وما التفاضل المبتور بين المدني والقومي إلا جزء من آليات السيطرة الكولونيالية المبنية على تفكيك المجتمع الأصلاني، ودق الأسافين بين مركباته للإبقاء على التحكّم به والاستيلاء عليه؛ وما احتجاجات أيار إلا دلالة على استحالة هذا الفصل، ونقض لفكرة الاندماج المقطوعة أخلاقيًا وسياسيًا عن روح الاحتجاجات ورسالتها الوطنية.

التعليقات