21/10/2021 - 12:18

المال السياسيّ كعائق للتغيير فلسطينيًّا

يلعب المال السياسي في الحالة الفلسطينية دورا محوريا في تأبيد استمرارية الهياكل السياسية والتنظيمية الفصائلية والرسمية القائمة، نظرا لحاجة المجتمع والتجمعات الفلسطينية إلى المساعدة في تحقيق الحد الأدنى من حقوقه الأساسية

المال السياسيّ كعائق للتغيير فلسطينيًّا

(توضيحية- أ ب أ)

يحظى موضوع التغيير بإجماع غالبية الآراء الشعبية والثقافية المعنية بالوضع الفلسطيني، وإن اختلفت رؤى التغيير في ما بينها، بين التغيير الديمقراطي المطالب بالاحتكام إلى العملية الانتخابية الدورية، أو من خلال ثورة شبابية تطيح بالمتمسكين بالسلطة والقيادة، كي تمكن الشباب من تسلّم مسؤولية الأطر الفصائلية والرسمية، أو من خلال نهج إصلاحي يعيد هيكلة الجسم السياسي الفلسطيني، كي يتّسع لجميع التنوعات والاختلافات السياسية بما يعكس حجم كل منها في الواقع، وهناك أخيرا من يعتقد بضرورة إفساح المجال أمام المجموعات السياسية الجديدة ومنحها المناخ المناسب للعمل في الوسط الشعبي، وعرض أفكارها ورؤاها السياسية. لكن وعلى الرغم من الاتفاق حول ضرورة التغيير فلسطينيا، وبالرغم من تنوع الرؤى والأفكار التغييرية أيضا، إلا أن آثار جميع أو غالبية محاولات التغيير حتى اللحظة، ضئيلة ومحدودة وصعبة الملاحظة أصلا، وكأننا أمام واقع فلسطيني يستعصي تغييره وفق توصيف البعض، الأمر الذي دفعني إلى تسليط الضوء على أحد أهم عوائق التغيير في الوسط الفلسطيني اليوم، والمتمثل بالمال السياسي، الذي قد يساهم التحرر منه في تحقيق التغيير المنشود والمطلوب في أمد زمني معقول.

إذ يلعب المال السياسي في الحالة الفلسطينية دورا محوريا في تأبيد استمرارية الهياكل السياسية والتنظيمية الفصائلية والرسمية القائمة، نظرا لحاجة المجتمع والتجمعات الفلسطينية إلى المساعدة في تحقيق الحد الأدنى من حقوقه الأساسية، حيث تلعب الفصائل والهياكل السياسية الفصائلية هذا الدور الخدماتي وفق أسس مصلحية فجّة، أي استنادا إلى معيار الوفاء والتبعية السياسية فقط، حيث يتم ربط المنح التعليمية والمنح الاستشفائية والرعاية الطبية والمساعدات الإنسانية كمساعدات الزواج والسكن والمعيشة، وكذلك فرص العمل والسفر، وغيرها الكثير من الحقوق الإنسانية الأساسية، بمدى ولاء ووفاء الفرد وعائلته ومحيطه. وذلك يعود إلى عوامل عديدة، من بينها غياب المؤسسات الخدماتية الوطنية المعنية برعاية وحماية الفرد، بغض النظر عن انتمائه وأفكاره وآرائه السياسية والعقائدية، الأمر الذي يفرض علاقة مصلحة مباشرة تربط الفرد الفلسطيني بالأطر السياسية الرسمية والفصائلية ذات القدرات المالية الضخمة، على اعتبارها، الشكل والسبيل الوحيد للظفر بالخدمات الأساسية التعليمية والصحية والمعيشية.

يعتقد البعض أن إنهاء استغلال الجسم السياسي الفلسطيني لحاجات الفلسطينيين الأساسية يتطلب تفعيل مؤسسات منظمة التحرير، كي تحل محل الفصائل بأداء الوظائف والمهمات الخدماتية الأساسية، على اعتبارها ممثل الشعب الفلسطيني الرسمي. غير أن التدقيق في بنية وهياكل المنظمة يوضح مدى خوائها من الإمكانيات والقدرات اللوجستية التي تؤهلها للعب هذا الدور، إن امتلكت القوى المسيطرة عليها الإرادة الحقيقية لذلك، فهي بنية كانت وما زالت تهدف إلى التحكم بالقرار السياسي الفلسطيني من قِبل الفصائل وداعميهم الإقليميين والدوليين، لذا لم تلعب المنظمة تاريخيا، دورا خدماتيا واضحا إلا كحاجة من أجل تعزيز مكانتها السياسية وبالتحديد التمثيلية، كما لم تلعب المنظمة دورا سياسيا داخليا، إلا في حالات نادرة جدا، وهي من أهم الأسباب التي أدت لاحقا إلى إضعاف المنظمة واضمحلالها، حتى تراجعت وربما انعدمت مكانتها فلسطينيا وإقليميا ودوليا.

في حين يصر البعض على ضرورة لعب منظمة الأونروا لهذا الدور، أولا من أجل تحميل المجتمع الدولي مسؤوليات احتلال فلسطين، كل فلسطين من ناحية، وتحملهم مسؤوليات الجرائم التي ارتكبتها الدولة الصهيونية بحق شعب فلسطين، وعلى رأسها التطهير العرقي والتهجير القسري من ناحية أخرى. وثانيا بهدف التشبث بالمعاني والدلالات المكتسبة من تشكيل منظمة دولية معنية بالشأن الفلسطيني حصرا، وثالثا لاعتبارات لوجستية ودولية تمكن الأونروا من ممارسة دورها في غالبية أماكن التجمع الفلسطيني بكفاءة عالية مقارنة بإمكانيات المؤسسات الفلسطينية الأخرى. لكن وعلى صعيد آخر، نلحظ مدى تراجع قدرات الأونروا بفعل الاستهداف الصهيوني والأميركي من ناحية، وبسبب التوجه الدولي نحو حصر حل القضية الفلسطينية في إطار حل الدولتين من ناحية ثانية، الأمر الذي تسبب في حصر عملياتها خارج فلسطين، منذ مدة طويلة تعود إلى المرحلة التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو.

وهناك أيضا من يرى ضرورة تحميل السلطات المسيطرة في مناطق تواجد التجمعات الفلسطينية، مسؤولية تقديم الخدمات الأساسية لهم، بداية من سلطات الاحتلال المسيطرة على كامل الجغرافيا الفلسطينية، وصولا إلى الأنظمة العربية في الدول ذات التجمعات الفلسطينية الكبيرة، وخصوصا سورية ولبنان، وهو منطق سليم وصحيح من وجهة نظري لكنه غير كاف أيضا، إذ نلحظ من خلال التدقيق في بنية النظام الرسمي العربي، مدى تآكُل الحقوق السياسية والخدماتية للشعوب عامة، الأمر الذي ينعكس تلقائيا على وضع التجمعات والمخيمات الفلسطينية، إن لم يظهر بشكل مضاعف أيضا. أعتقد أن تحميل الاحتلال لمسؤولياته كقوة احتلال أمر ضروري وصحيح، لكنه نضال طويل الأمد ويجب اعتباره جزءا من المسار التحرري ذاته، لذا، غالبا سوف يتأخر النجاح في تحقيقه كثيرا، كما قد يتهرب الاحتلال لاحقا من الإيفاء بجميع التزاماته حتى لو أجبر على الإقرار بها، وبالتالي فهذا الخيار لن يمنح شعب فلسطين حقوقه الأساسية اليومية، ولن يحرره من تبعية المال السياسي المفروضة اليوم قسريا من قِبل الهياكل السياسية الفصائلية والرسمية المتمثلة في المنظمة والسلطة.

وعليه وفي ظل الوضع الفلسطيني المعقد بحكم التشتت الجغرافي داخل وخارج فلسطين، ونتيجة الاحتلال وغياب الدولة، وبالتالي مؤسساتها؛ بعيدا عن أوهام سلطتي رام الله وغزة ولاسيما الأولى؛ لا أجد أي حرج في المطالبة بمحاكاة تجربة الجمعية الصهيونية، بمعنى محاكاة دورها الاجتماعي والاقتصادي تحديدا، بعيدا عن مغالاتها العنصرية ودورها المشبوه جنائيا وربما يصح القول إرهابيا، فالواقع الفلسطيني اليوم فرض نمط حياة جديدا ومعقدا، وعلينا النجاح في جعل حقوق الفلسطينيين الأساسية بديهية مضمونة ضمنه، بغض النظر عن المكان والزمان أولا، وعن الانتماء والمحسوبية ثانيا، وهو أمر قابل للتحقيق إن تم الاتفاق حوله وعملنا على إنجازه بمهنية واحترافية كاملة. طبعا لا يصح مقارنة منظمة التحرير بالجمعية الصهيونية فالأولى كانت ومازالت جسما سياسيا تمثيليا فقط، في حين لعبت الثانية أدوارا اقتصادية واجتماعية وتنظيمية تفوق أدوارها السياسية وبخاصّة التمثيلية.

لكن ورغم إمكانية تجاوز دور المال السياسي بهذه الطريقة، إلا أن تحقيق ذلك سوف يصطدم بعقبات حقيقية وللأسف صلبة، وأولها تعنُّت ورفض ومقاومة الجسم السياسي الفلسطيني لها، حيث تدرك جميع الفصائل لاسيّما ذات السيولة المالية، أن تلبية حاجات الفلسطينيين الأساسية بغض النظر عن انتمائهم وعقائدهم واصطفافهم السياسي، سوف تنزع من يد الفصائل والجسم السياسي الفلسطيني سلاحهم الأقوى المتمثل بالمال السياسي، لتضعهم للمرة الأولى أمام اختبار قياس شعبيتهم وفق قراءتهم ومواقفهم وتوجهاتهم السياسية فقط. لذا، ومن أجل تجاوز العقبات والرفض الفصائلي، سوف يحتاج هذا الخيار إلى قوة دفع ضخمة، يمكن أن نستمدها من مجمل الكتلة الاجتماعية الفلسطينية داخل وخارج فلسطين، على اعتبارها صاحبة المصلحة الحقيقة في تجاوز الواقع الراهن وتحقيق التغيير المنشود واستعادة حقها في التمتع بحقوقها المعيشية الأساسية، في سياق نضالها من أجل استعادة جميع حقوقها، وعلى رأسها التحرير والعودة وتقرير المصير.

اقرأ/ي أيضًا | حول دلالات "مصيدة 67"

التعليقات