25/11/2021 - 16:30

من الهجيج إلى التهريج

المشكلة الأساس تبقى في الوعي والمفاهيم والواقع. أصبح التقنيّ هو النموذج للسياسيّ والشيخ معًا. التقنيّ ليست وظيفته نشر الوعود ولا توضيح المفاهيم، بل تنفيذها. هل هذا يعمّر أرضًا ويصنع مجتمعًا؟ من الاستحالة بمكان. لا يصنع عقلُ التقنيّ مجتمعًا.

من الهجيج إلى التهريج

يروي إميل حبيبي في فيلم وثّق آخر أيامه قبل وفاته (1996)، قصة حقيقية مؤثرة ولكنها تحمل عبرًا سياسية ووطنية هامة. يروي صاحب "المتشائل" أنه بعد عودته لفلسطين متسلّلا من لبنان بمساعدة طبيب من قرية البعنة، واحتجازه في عكا لدى سلطات الدولة الوليدة، نقَلَه ضابط صهيوني بمركبة عسكرية من عكا إلى مدينته حيفا. يَذكُر أنه خلال الطريق توقف الضابط وقفز فجأة بين الحقول مشهرًا مسدسه في وجه طفل رضيع ضمّته أمه وهي تختبئ بين الحقول. يصرخ الضابط سائلًا: من أي قرية أنتم؟ تجيبه الأم متسمّرة في مكانها: من البروة، فيصرخ الضابط عليها، ألم أقل لكم ألّا تعودوا إلى هنا!

يقول إميل حبيبي وهو ينظر إلى الحقيقة بعينين حزينتين إنه في تلك اللحظة فكّر في أن يهاجم الضابط الصهيوني، أن ينقضّ عليه وهو يوجّه مسدسه نحو الرضيع؛ لكنه لم يفعل. يقول بحسرة إنه كان عليه أن ينقض على الضابط ربما، أمام المشهد المروّع، وإنه رأى توجُّه الأم ورضيعها شرقًا بعد أن واجهها الضابط بمسدسه، بمثابة ظلٍّ يكبر، ظلّها وطفلها يكبر ويكبر كلما اتجها شرقًا. يتساءل "المتشائل" لماذا لم أنقض عليه؟ ويجيب: لأنّ اعتباراتي سياسية، وهو الذي قال في مقطع سابق من الفيلم: "طز" بالسياسة، التي مارسها وهو الذي كان قائدًا حزبيًا بعد النكبة.

تصرّف معظم الباقين في وطنهم مثل إميل حبيبي. لم ينقضّوا على الضابط ربما لاعتبارات مختلفة ليست سياسية كُبرى مثل اعتبارات حبيبي الذي برّر ذلك بما يمكن تسميته "عقيدة البقاء بأي ثمن". لكن معظم الباقين تصرّفوا لاعتبارات لا تختلف كثيرًا، وهي البقاء اليوميّ المعيشيّ، إلا أنّ ذلك لم يرحمهم من مزايدات لاحقة، فما يجوز للقائد السياسي لا يجوز للفلاح أو ابن الريف؛ لدى الأوّل أيديولوجيا ومفاهيم تبرّر كل شيء وتخلق واقعًا وبقاءً مزيفًا أو مصطنعًا؛ في حين لم يسمع الثاني بهذه الكلمة والمفاهيم في حياته، واعتبر الوجود الصهيوني مرحلة أخرى من مراحل الانتداب الأجنبي. لكن المهم هو صراحة إميل حبيبي وصدقه في هذا المقطع؛ "لماذا لم أنقضّ عليه؟ لاعتبارات سياسية". قالها بحسرة وهو في آخر أيامه. إنها الاعتبارات السياسية والحزبية... التي تستند إلى مفاهيم عقائدية سياسية عديدة... والتي أجمَلَها بـ"طز" من أعماقه، نادمًا على انشغاله بالسياسة والحزبية بدلا من الثقافة والأدب. هو أديب وليس سياسيًا، وقد مات أديبًا.

وعلى سيرة الأدب، سُئل المؤرخ المغربي المعروف، عبد الله العروي، صاحب سلسلة المفاهيم، مرةً: لماذا قَتلَ إدريس؟ وهو إحدى الشخصيات –أو الشخصية الرئيسية– في روايته الفلسفية "أوراق – سيرة إدريس الذهنية". يبدأ العروي سيرة إدريس بوفاته وبمحادثة مع صديقيْه عن ترِكَتِه، وهي مجموعة أوراق خطّها. يجيب العروي بما معناه أن موت إدريس ربما هو تعبير عن الخيبة. الخيبة من عدم تطابُق الأفكار والمفاهيم والآمال الوطنية والقومية مع الواقع، واقع ما بعد الاستعمار وتشكّل الدولة الوطنية العربية.

هو عمليًا موت الأيديولوجيا التي لا تعكس بالضرورة، واقعًا؛ واقع الآمال والتمنيات، فمصير إدريس منذ البداية كان الخيبة والتعاسة والانعزال حتى الموت وهو شاب. يقول إنه عاش عشرين عامًا تحت "الحماية الفرنسية" للمغرب، وعشرين أخرى تحت الاستقلال الوطني. نهاية تراجيدية سيخوض الراوي –العروي– تمثّلاتها في سيرة إدريس الذهنية، من الوجودية للنيتشويّة والديكارتيّة.. إلخ.

وعودةً إلى حبيبي المثقف والسياسي الأبرز طيلة عقود في الداخل؛ لماذا لم يقُم حبيبي بضرب الضابط الصهيوني بـ"الصرماية" كما فعل هو وزوجته مع الفلسطينييْن اللذيْن جاءا لاعتقاله في منزله في رام الله إبان النكبة بتهمة "الخيانة"؟ لماذا لم يتملك تلك الشجاعة ذاتها على المواجهة وإن انتهى به المطاف متسلّلا فارًّا ناجيًا بحياته إلى الأردن ومن ثم إلى لبنان، ولاحقًا إلى الدولة الصهيونية؟ إجابة مرجَّحَة: لأنه كان يحمل تصوّرًا مصطَنَعًا ومفاهيمَ خاطئة عن الواقع والمستقبل. كان أيديولوجيًّا في تعامله مع الواقع والمستقبل، ورأى بمعتقليه الفلسطينييْن في رام الله عائقًا أمام تحقُّق يوتوبياته، يوتوبيا الاشتراكية والمساواة والتسامح؛ اعتبر أنهما يمثّلان الرجعيّة لا التحرُّر. أما تعامله مع الضابط الصهيوني فكان تعاملا "اضطراريًا" أو "جبريًا" مع الواقع الذي قد يسمح بتحقّق يوتوبياته وفق مفاهيمه.

لقد أخضعت الأيديولوجيا والاعتبارات السياسية الواقع لمناياها، تحايلت على نفسها وزيّفت الواقع بذهنها لتطابِق مفاهيمها؛ وما حصل هو أن الأيديولوجيا تأقلمت مع الواقع الذي أخضعها لأنه كان أقوى ماديًا ورمزيًا وأيديولوجيًا ومفاهيميا. ماذا لو تعامل حبيبي مع الضابط الصهيوني بـ"الصرماية" أو الصرامة ذاتها التي تعامل معها مع الفلسطينيين في رام الله؟ ربما كان مصيرنا مختلفًا. لمَ زيّفنا الواقع لنواسي أنفسنا بأنّ المستقبل سيكون مشرقًا وماذا يعني البقاء؟ ولمَ حوّلنا الأيديولوجيا لمجرّد شعارات تطلب منا التعامُل مع الواقع كما هو –كوننا مستضعفين.. إلخ– ولكنها تعِدُنا بجنة على الأرض مستقبلا، تعمّ فيها الاشتراكية والعدالة والمساواة؟ أليس سوء فهم للمفاهيم التي لا تطابق الواقع أصلا؟ ألا يزال المثقف والسياسي حتى يومنا يتعامل بـ"جبرية" و"براغماتية" مع الآخر، وبصرامة غير عقلانية مع مجتمعه؟

في الحاجة إلى المفاهيم

لنعد إلى العروي مرّة أخرى. في أولى مؤلفاته العلمية عام 1967 ("الأيديولوجيا العربية المعاصرة")، حدّد ثلاثة نماذج أو مذاهب لكيفية إجابة العرب على سؤال النهضة في مطالع القرن العشرين ونهايات القرن الذي قبله: لماذا تقدّمت أوروبا؟ ولماذا تخلّف العرب والمسلمون؟

النماذج الثلاثة التي أجابت عن هذا السؤال على التوالي –أي ليس بالتوازي– هي: الشيخ (محمد عبده مثلا)، والسياسي الليبرالي (لطفي السيد مثلا)، والتقني (سلامة موسى مثلا). والنماذج الثلاثة أصبحت ممَثَّلةً بتيارات سياسية وفكرية حتى يومنا هذا.

الشيخ (يجيب على الأزمة بالمعتقد الديني) وعَدَنا باختصار بأن المستقبل في الماضي، لدى السّلَف الصالح، وأن المشكلة تكمن في المسلمين وليس في الإسلام. إذا ما عُدْنا إلى السّلَف الصالح، نكون قد سرنا في الطريق إلى التقدُّم. ويرى التخلف في إطار صراع بين الغرب المسيحي والشرق المسلم. هذا التناقض الأساسي بالنسبة إليه. مشاكل الحاضر حلولها موجودة في النصّ الأصلي، ويؤكد أنه لا يوجد تناقض بين العلم والتقدّم والإسلام، فبيت الحكمة الإسلامي شاهد على ذلك بنظره، بل إنه يزايد على الأوروبيين بأنّ التحضّر والتقدّم والتمدّن شأنهم، ليس بسبب المسيحية التي ارتُكبت باسمها الجرائم ضد مؤمنيها والشعوب الأخرى. ويخلص في النهاية إلى إسلاميْن: أوّل متعالٍ وأصيل، وثانٍ زمانيّ ومشوَّه.

أما السياسيّ (يجيب على الأزمة وفقا لمعتَقَد التنظيم السياسيّ) فيَعِدُنا بعد الشيخ، بأنه إذا سقط الاستبداد وحلّت الديمقراطية والبرلمانات ودولة القانون والدستور، فنحن في الطريق الصحيح نحو المستقبل، نحو التقدّم والتمدّن.. إلخ. إذا انتهت العبودية والاستبداد، أي انتهى الخوف والطغيان، وسنتقدم إلى الأمام. وهو شعبوي إلى حدّ بعيد، إذ إنه يميّز بين العرب وباقي المسلمين بأن العرب في طبعهم أحرار، وإذا ما تحصّلوا على القوة اللازمة وأزالوا الخوف من نفوسهم، فإن الحرية بانتظارهم، وإذا ما كانوا أحرارًا سيصنعون القوة اللازمة. سيخيب ظنّ هذا السياسي والقانوني والدستوري فورَ تشكُّل الدولة الوطنيّة ببرلمانها ومؤسساتها، ليكتشف أن أيديولوجياته لم تفِ بوعدها، إذ إنّ الشروط تحقّقت، ولم تتحقق الوعود؛ فقد جاء العسكر.

أما التقني أو داعية التقنية (يجيب على الأزمة بعلاقة الإنسان مع الطبيعة، وليس بالإنسان، بتقديري)، فهو الخبير والعالِم والتكنوقراط في مرحلة ما بعد الاستقلال، يوجِز تقدّمهم وتخلّفنا بالصناعة والعلم التطبيقي والتخطيط والتوجيه لا غير. لا يعنيه التراث ولا التاريخ ولا الوطنية والقومية أو الديمقراطية. بالنسبة إليه كلمة السرّ هي التقدّم الصناعيّ. لا تهمه الديمقراطية والحرية لأن دولا غير ديمقراطية حقّقت تقدمًا صناعيًا. يقول سلامة موسى إن "الحضارة الآن هي الصناعة، وثقافة هذه الحضارة هي العلم، بينما ثقافة الزراعة هي الأدب والدين والفلسفة". هكذا يختزل تاريخ الأمم بكل بساطة وتجريد. الواقع: تقدُّم وتطوُّر الأدب والدين والفلسفة، والزراعة في الدول الصناعية، وليس في الدول الزراعية المتخلّفة. لكن الإيمان الطوباوي - الأيديولوجي بالمستقبل، يحجب عنه هذا الواقع، في تقديري، لأن الواقع أو الحاضر ليسا مهمّيْن. المهم هو المستقبل كما تتصوّره مفاهيمه الجزئيّة المبتورة.

وصلت هذه الخطابات الثلاثة إلى الفشل المحتّم، فمثلا، كان نقاشها أو استدلالها من الغرب سطيحًا، وقد فهمت تطوّر الغرب وفقا لمظاهره لا لجوهره. لم تستوعب مفاهيمه فحرّفتها أو اقتطعتها من سياقاتها، ولاحظت التقدّم العلميّ ولم تلحظ الإصلاح الدينيّ الأوروبيّ. لاحظت البرلمان ولم تلحظ فلسفة التنوير. لاحظت الحرية ولم تفهمها، وكانت سطحية لدرجة أن يصفها العروي بأنها كانت تلخيصية تبسيطية. لم يفهموا الأفغاني حتى، لأن تجربته الإسلاميّة الهنديّة كانت متقدّمة عليهم بسبب الاستعمار المبكِّر لبلده الهند، بحسب العروي. هو جمع الخطابات الثلاثة ومارسها إلى حدٍّ كبير. وهذا الذي دفع العروي إلى إطلاق سلسلة كتب مفاهيميّة (مثل مفهوم العقل، والأيديولوجيا، والتاريخ، والدولة.. إلخ)، بهدف توضيح هذه المفاهيم الضرورية المستخدَمة في الأيديولوجيا العربية، ولكن ليس بالمعنى المفاهيميّ الفلسفيّ المجرّد فقط، بل بشرح وتفسير وربط ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السابقة واللاحقة. هي ابنة سياقات وليست مجرّدة معزولة عن الواقع الذي تبلورَت وتطوّرت فيه. المفاهيم ليست يوتوبيا، بل تتطور بتفاعلها مع سياقاتها.

في ما يخصّ حالتنا هنا، هل تصلح هذه التصنيفات الثلاثة وحالة العجز المفاهيميّ؟ لنجرّب.

حتى النكبة، لم يكن سؤال النهضة العربية في فلسطين معزولا عن سياقه ومناخه العربي. طُرحت أسئلة مشابهة لن نخوض فيها هنا. لذلك، لننتقل إلى ما بعد النكبة مباشرة وهنا في الداخل تحديدًا. كان النموذج الأبرز بعد النكبة هو السياسي - المثقف، ولم يعدنا في حينه بشيء لأنه كان مبتورًا عن سياقه. حالة هجينة مستجدَّة تحت صدمة النكبة والتهجير والتدمير الحضاري. لكن لاحقًا، وتحديدًا بعد احتلال باقي فلسطين في 1967، وعَدَنا السياسي - المثقف بالمساواة والعدالة بعد انتهاء الاحتلال؛ ما إن ينتهي الاحتلال حتى تتحسن أمورنا المعيشية والقومية ومكانتنا القانونية.

وعَدَنا السياسي حينها أن التعايش مع الآخر –المُحتَل- هو السبيل للبقاء، لا تضربوه بـ"صرماية" ولا برصاصة، وانتظروا السلام. لقد استبدل السياسي مفهوم التحرّر والتحرير بتحقيق السلام. إذا ما انتهى الاحتلال وتحقّق السلام، أعدُكُم بالمساواة. أي مساواة بالضبط؟ ليس التحرّر ولا التحرير. في الخطّ الموازي ظهَر الفدائيّ الذي طرَح ممارسة مغايِرة كليّة عن خطاب السياسيّ، ولكن جُيّر لصالح خطاب السلام وليس التحرّر. النهاية معروفة ولا داعي للإسهاب.

في الأثناء، طلّ علينا الشيخ بخطاب الصحوة الدينية، وهو خطاب ثقافيّ أكثر مما هو سياسيّ تحرّريّ. بعد احتلال 1967، تصاعَد دور الشيخ بسبب الالتقاء مع الحركة الإسلامية في الضفة وغزة.

ومنذ أن "تحقق السلام" وفشل في مطالع الألفية الحالية، برز التقني. هذا لا يعرف سلامًا ولا تحريرًا، فمعياره التفوّق الشخصيّ والأرقام الكبيرة. يحلّل مجتمعه بالأرقام لا بالمفاهيم، ولا يعدنا بأي شيء. ربما يعدنا بشيء واحد: اجتهِد تنجح، أو ابحث عن الخلاص الفرديّ. يمجّد الإنجاز الشخصيّ الفرديّ. يجيد العبريّة والإنجليزيّة أكثر من لغته الأم، العربيّة. يحبّ إعداد التقارير والرسوم البيانيّة و"الدال نقطة" قبل اسمه! منطقه اقتصاديّ صِرف، ليس علميًّا بالضرورة. لا يكتب تقريرًا أو أبحاثا لشعبه بل لزملائه الأجانب أو الإسرائيليين. قد يكون أقصى طموحه السياسيّ أن يصبح عضوًا في الكنيست، رغم أنه يقول: أنا لا أفهم في السياسة، ولا علاقة لي بها، أكره الأحزاب والناشطين الحزبيين والسياسيين. هذا التقني غالبًا ما يكون شخصا "مربّعا". الواقع شيء والأرقام عبر الشاشة شيء آخر. احتلال ونكبة وتطهير عرقي وأبرتهايد؟ كيف نصفها في ملف "إكسيل"؟ قد يسألك. لا تهمّه. نندمج في الاقتصاد الصهيوني ونعمل في الهاتيك الإسرائيليّ، هذا شعاره. والتقنيّ هو الأكاديميّ والعلميّ والباحث، ولكنه غير المثقف، لأنه ينزع عنه "علمه" وأي ثقافة ينتمي إليها، ولا يحمل أي مفهوم من الحرية إلى الدولة. هو مُبرمَج محايِد مثل الروبوت.

في أيامنا هذه، لم نعُدْ نميّز بين السياسيّ والتقنيّ. السياسي يتعامل مع الواقع بمعايير التقني، التكنوقراط. لم يعد السياسي يحمل مفاهيم أو طوباويّة أو أيديولوجيّة أو مشروعًا سياسيًا يبيعه للناس. لم يعُد يعِدُنا بـ"تحقيق السلام" ومن ثم المساواة، إذ إنه يعتبرها شعارات ولكنها في الحقيقة تعبير عن أزمته. صار يعدُنا بأن نصبح تقنيين. وأخيرًا طلّ علينا الشيخ - السياسي أو السياسي - الشيخ. بماذا يعدنا هذا البراغماتي و"الواقعي" نهارًا، السلفيّ ليلًا؟ لا شيء، مثل التقنيّ. لا يعدنا الثلاثة بثورة، ولا بنهضة، ولا بإصلاح، ولا بمستقبل.

أزمتنا أو لا، ربما أن لا أحد يحمل لنا وعودًا، لا طوباوية ولا حقيقية، لكن المشكلة الأساس تبقى في الوعي والمفاهيم والواقع. أصبح التقنيّ هو النموذج للسياسيّ والشيخ معًا. التقنيّ ليست وظيفته نشر الوعود ولا توضيح المفاهيم، بل تنفيذها. هل هذا يعمّر أرضًا ويصنع مجتمعًا؟ من الاستحالة بمكان. لا يصنع عقلُ التقنيّ مجتمعًا ولا مفهومًا. الوعي التقني، هو تقني.

أزمتنا لا تكمن في أننا لم نعُد نحمل أيديولوجيا أو أحلامًا كبرى، بل في أننا ما زلنا نحمل المفاهيم الخاطئة والجزئية ذاتها (وليس القيم بالضرورة)، التي حجبت عنا في السابق الواقع الحقيقيّ، ولا تزال. ومستوى الوعي السياسيّ يُقاس بمدى فهم واستيعاب وتطوير المفاهيم المتعلّقة، وليس العكس.

قد يكون ما تقدّم، صالحًا لبناء سيرة مغايرة لنا، ولتوضيح مفاهيمنا وضبطها، منذ الهجيج الأول في النكبة حتى التهريج الحاليّ، إن سمح الوقت (مثلا: كثر لا يميّزون بين خطاب المواطَنة/ المساواة وخطاب دولة المواطنين، لا نفهم ماذا يُقصد بالمساواة أو الليبرالية أو الهوية، وبدل بحث المفاهيم وسياقاتها وظروفها وواقعيتها في شأننا، يبحثون ويصنفون الظواهر والعوارض الاجتماعية ويسمونها ويعالجونها بعقلية التقنيّ، وغالبا لا تفيد في بناء السرديّة الوطنيّة، أو في صنع سياق للمفاهيم، أو يقيّمون الأشخاص مثل؛ هل كان إميل حبيبي كذا وكذا...).

يقول العروي: في الرواية يُرغَم الكاتب على شيء من الصدق حتى تكون الرواية متماسكة إلى حدّ ما. لا مجال للخيال الجامح. في الأيديولوجيا تستطيع أن تعارِض الواقع في التحليل. أن ترى الأخضر وتقول إنه أحمر!

اقرأ/ي أيضًا | الهدوء الإسرائيليّ

التعليقات