11/02/2022 - 14:58

في جريمة نابلس والولادة الجديدة

تحتاج إسرائيل كل لحظة لإعادة تأكيدها على استعمارها لفلسطين وتحكّمها بشعبها، ولتثبيت سيادتها على هذا القطر العربي، الذي شرعن العالم سرقته في وضح النهار، في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947.

في جريمة نابلس والولادة الجديدة

تحتاج إسرائيل كل لحظة لإعادة تأكيدها على استعمارها لفلسطين وتحكّمها بشعبها، ولتثبيت سيادتها على هذا القطر العربي، الذي شرعن العالم سرقته في وضح النهار، في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947. وهي تؤدي هذا الدور من خلال ارتكاب الجرائم المختلفة، في درجة دمويتها وطبيعتها، بدءًا من زهق أرواح الناس عبر إعدامات ميدانية، إلى نهب الأرض والحصار، والمطاردة، والاعتقال، والمحو.

ففي غضون 24 ساعة فقط (بين الثامن والتاسع من الشهر الجاري) ارتكب نظام الأبرتهايد جملة من الجرائم؛ إعدام 3 شباب فلسطينيين في وضح النهار في مدينة نابلس، وتمرير قانون منع لم الشمل في الكنيست (في القراءة الأولى) الذي يكرس تشتيت آلاف الأسر الفلسطينية. وفي الجليل، جرى هدم بيت من ثلاث طبقات في مدينة الناصرة؛ وفي النقب، الناهض مجددًا، حصلت عملية غزو لشمالي مدينة رهط في الرابعة فجرًا من قبل مجموعات المستوطنين بهدف إقامة بؤرة استيطانية فيها (تم إحباطها في غضون ساعات قليلة بفضل هبة أهل المدينة). في الوقت نفسه، أقدم المستعمر الصهيوني على الاعتداء على سورية وأوقع شهداء وجرحى في إطار سياسة عدوانية اعتاد عليها منذ عقود.

يعيش النظام الصهيوني أفضل حالاته، بفضل طاقاته الذاتية ودعمه الخارجي غير المسبوق، والذي تعزز بفضل السقوط الخياني السافر لعدد من الطغاة العرب. ويظهر هذا النظام قدرًا فائضًا من الثقة بالنفس، ولديه نشوة وشعور بأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء. لم يعد حل المسألة الفلسطينية ذا أهمية أو مصدر قلق له. ودخل طرفا نظام الأبرتهايد، المتطرفان في الحكم وفي المعارضة، في حالة مزايدة وتنافس لكسب تأييد جمهور اليمين، جمهور أغلبية التجمع الاستيطاني الوافد إلى فلسطين، وذلك من خلال ارتكاب المزيد من الأعمال العدوانية العسكرية، وتمرير قوانين عنصرية، واعتماد إجراءات قمعية جديدة ضد الفلسطينيين، أينما كانوا. الهدف تكريس سرقة فلسطين وشرعنة نظام الأبرتهايد وتأبيده في هذا الجزء من الوطن العربي، وجعله القاعدة التي من خلالها تدير إسرائيل هيمنتها على هذا الوطن الفسيح. إنها فرصتها التاريخية المواتية وتخشى من أنها ربما لن تتكرر. هكذا تقرأ إسرائيل اللحظة الراهنة. إلى ماذا تستند فيها، فضلا عن إيمانها بأسطورتها التوراتية و"استثنائية الحالة اليهودية"؟

أولًا، تخلّي ما يسمى المجتمع الدولي عن "حل الدولتين"، حتى لو ظلت هذه المعزوفة تتردد على ألسنة موظفي الأمم المتحدة؛

ثانيًا، استمرار دعم الإمبريالية الأميركية، ومن خلال إدارة جو بايدن أيضًا، لإسرائيل، ولسياسة السلام الاقتصادي التصفوي، بديلا عن "حل الدولتين"؛

ثالثًا، هيمنة الصراع، صراع الهيمنة الاقتصادية والجيوستراتيجية مع الصين وروسيا، على الأجندة الخارجية للإدارة الأميركية من دون أي علاقة للقيم مثل العدالة، والمساواة، وتحرر الشعوب والديمقراطية؛

رابعًا، ترتيب علاقة إسرائيل مع روسيا بوتين، بحيث يقوم الأخير بمنح الشرعية لاستمرار العدوان على سورية في إطار مواجهة إيران كقوة إقليمية تهدد الأجندة الإسرائيلية. روسيا بوتين ليست روسيا الاتحاد السوفييتي، إذ لا ترى بسورية شعبًا يريد التحرر والحياة الحرة، بل قطعة أرض تنطلق منها لضمان مصالحها الإستراتيجية وتقاسم النفوذ والمصالح مع الإمبريالية الأميركية، التي لا تريد الصعود لروسيا. وتكاد مصلحة النظام في سورية تتماهى مع هذا التوجه الروسي، إذ إن النظام يتصرف بـ"براغماتية" و"مرونة" أو بحسابات عقلانية باردة مع المعتدي الإسرائيلي، ما جعله محط تندر وسخرية حتى من قبل بعض داعميه، في حين يتصرف بغياب كامل للعقلانية وبوحشية منقطعة النظير مع شعبه ومنذ اليوم الأول للثورة؛

خامسًا، تمكن إسرائيل من إخضاع وإدماج عدد من الطغاة العرب، مثل حكام الإمارات والبحرين والسعودية والمغرب والسودان في تحالف أمني مباشر، غير مكتفية بعلاقات تطبيعية بمستويات متفاوتة كما هو الحال مع أنظمة عربية أخرى في الخليج أو غيره. هذا فضلا عن توطيد العلاقة الأمنية مع نظام عبد الفتاح السيسي، الذي سهل لإسرائيل غزو القارة الأفريقية؛

سادسًا، وهو الأخطر ويتعلق بأصحاب القضية المباشرة، وهم الفلسطينيون، ويتمثل في هبوط نظام أوسلو، ومن خلال الطبقة المتحكمة بالسلطة، درجة أخرى في مستوى التحلل والانهيار السياسي والأخلاقي، أي الدخول في تفاهمات جديدة مع المستعمر، تتلخص بالحفاظ على دور السلطة وتحسين مكانتها المتآكلة، والقبول بالسلام الاقتصادي، وذلك ليس مقابل أي مكسب سياسي أو وطني، بل فقط لمواجهة نفوذ حركة حماس المتصاعد في الضفة خصوصًا بعد هبة أيار الأخيرة. ويجري ذلك من خلال أمرين: الأول وهو من خلال الرشوات المادية؛ قرض مالي للسلطة، تجديد آلاف البطاقات لفلسطينيين، وزيادة في تصاريح العمل في إسرائيل، وبضعة بطاقات VIP لموظفين في السلطة؛ الأمر الثاني، التفاهم على خليفة محمود عباس، أي حسين الشيخ، وزير الشؤون المدنية، والذي تناولت شخصيته ودوره صحف إسرائيلية بإسهاب، قبل أن يتم ترشيحه وتعيينه لعضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وفي الوقت الذي كان محمود عباس وحلقته الضيقة من الموالين، ينفذ مسرحية عقد المجلس المركزي لتمرير التفاهمات مع إسرائيل، ويوزع الأوسمة عليهم، كانت إسرائيل تقتحم أكبر المدن الفلسطينية، وتعدم في وضح النهار ثلاثة من حركته، حركة فتح، التي عمل منذ توليه رئاسة السلطة لتطويعها وتفريغها من مضمونها التحرري والريادي. وهكذا تعيد إسرائيل التأكيد بأنها لا تقيم وزنًا للسلطة الفلسطينية.

تلك هي الجبهة الواسعة الممتدة التي تمثل نقيضا للحركة الفلسطينية التحررية، وللمُثل الإنسانية النبيلة، لكن المفارقة أن جبهة بهذا الحجم وهذا الاتساع، من المفترض أن تُرعب، بل تُحبط، أصحاب الحق ومن يؤمن بالنضال كطريق للتحرر. فكيف أن شعبًا مثل شعب فلسطين لا يزال يقاوم يوميًا بما يتوفر له من إمكانيات، بل ينتفض بين الحين والآخر بهبات شاملة وعارمة، بصورة يفاجئ الجميع ويدهش العالم. كيف لا يذعن لقياداته تلك؟ دعكم من الإدانات الفارغة، ودعكم من تهديدات رئيس السلطة، فما يجري على الأرض هو تعاون، بل تحالف ليس في مواجهة المستعمر، بل في مواجهة طرف فلسطيني آخر. ألم يحن الوقت لتسمية الأمور بمسمياتها؟ فوضوح الرؤية هو شرط ضروري للانطلاق في الطريق.

على الأرض، بين الناس، يحصل شيء آخر. غضب شعبي يتوالد، وفي أوساط قواعد حركة فتح الشعبية، ولم يعد يحتمل الذل والمهانة، ويقظة وعي عالية آخذة تنمو، جيل جديد يتعرف على ذاته، ويتلمس طريقه. ما رأيناه في نابلس يوم الثلاثاء الماضي، وما شهدناه في جنين، قبل أشهر قليلة، وقبل ذلك في أماكن أخرى، في كل فلسطين التاريخية، يعيدنا إلى واقع الصراع الحقيقي وما يترتب عليه من شروط تنظيمية وشعبية وسياسية. هذا ما تتعلمه حركة الشارع، وما تبلوره. هذا الشارع الذي بدأ يدرك أن حراكه هو الذي يستقطب الدعم المتزايد من شعوب العالم وأحراره، وليس سياسة التوسل والإذعان أو إثبات الأهلية.

سيكون مخاضًا عسيرًا وربما طويلا، ولكن هذه هي الولادة الجديدة لأمة عريقة أريد لها أن تنام في لحظة ضعف ووهن. إنها تستيقظ!

التعليقات