15/05/2022 - 10:03

"التحقيق" والمساءلة - بين ما يريده الاحتلال وما يتوجب العمل لتحقيقه

"القتل العمد" والإعدام خارج إطار القانون، عبر إطلاق يد الجيش، وترك الباب مفتوحا أمام المستوطنين هي جرائم يحاسب القانون الدولي المسؤولين عنها، على مستوى واضعي السياسات، متخذي القرار ومنفذيه، باعتبارها أشكالا من جرائم الحرب.

الحقيقة واضحة كوضوح الشمس شاهدها وسمعها كل العالم، ولسنا بحاجة لتحقيق يعيد توثيقها فقط.

يجب الخروج من نمط "التطبيع" مع الجرائم نتيجة تكرارها، ووضع إستراتيجية جديدة بالتعامل مع جرائم الاحتلال.

نوع الرصاصة وهوية الجندي ومواصفات فتحة الإطلاق، ليست إلا نهاية لبداية تتأسس على السياسات والأنظمة.


"القتل العمد" والإعدام خارج إطار القانون، عبر إطلاق يد الجيش، وترك الباب مفتوحا أمام المستوطنين هي جرائم يحاسب القانون الدولي المسؤولين عنها، على مستوى واضعي السياسات، متخذي القرار ومنفذيه، باعتبارها أشكالا من جرائم الحرب، خاصة وأنها تجري في مناطق خاضعة لدولة الاحتلال وسيطرة قواتها وأجهزتها المختلفة سيطرة كاملة وفعلية على الأرض وعلى كل مجريات وجوانب الحياة للمدنيين فيها.

يجب الخروج من دائرة "الاعتياد" الذي صنعته إسرائيل لقبول المجتمع الدولي وحتى الفلسطيني أحيانا، وتطبيعه ومحاولة التعايش معه بشكل من "القبول" بالاستمرار بارتكاب الجرائم، والنفاذ منها دون عقاب، فقط لكونها جرائم يومية متكررة، حيث يمارس الاحتلال الإسرائيلي يوميا أنماطا متكررة من الجرائم والاعتداءات، استطاع من خلال تكرارها صناعة ما يشبه "العادة" التي تؤدي لنمط من التعامل معها وكأنها "مظهر طبيعي" من مظاهر الاحتلال التي تتحول يوميا إلى فعل يومي ونمط اعتيادي لا يحظى بالتغطية الإعلامية ولا المتابعة القضائية والسياسية في الكثير من الحالات. الاجتياحات المتكررة واستهداف المدنيين (مخيم جنين مثلا)، هدم المباني بأوامر عسكرية، والانتقام والعقاب الجماعي كانتقام ومعاقبة العائلة والبلد التي تتجرأ على مقاومة الاحتلال، اعتداءات المستوطنين على المدنيين والممتلكات، بتشجيع وغض الطرف من جيش الاحتلال، وأحيانا كثيرة بحضوره وحمايته لهم وغيرها العشرات من الانتهاكات التي تمثل النمط اليومي "المعتاد" من قبل الاحتلال.

هذا النمط من التصرف والجريمة المتكررة، يجعلها خاضعة لمعايير المحاسبة الجنائية الدولية، وتؤكد وجود أنظمة وأوامر موجهة من قبل القيادات العسكرية، وحتى السياسية (يكفي جمع التصريحات الرسمية من بينت إلى لبيد وشكيد وحتى بن غفير ونتنياهو) للتأكيد على أن هذه الذهنية التي يعبرون عنها، لا تمثل مجرد تعبيرات شعبوية شاذة، وإنما هي بالواقع انعكاس لتعليمات تمثل الأساس للنمط المتكرر من الجرائم والانتهاكات التي ينفذها الجيش والمستوطنون ضد المدنيين الفلسطينيين بشكل ونمط يومي متواصل ومتكرر.

النمط المتكرر لاستهداف الصحافة، والاعتداء عليها واستهدافها من قصف المقرات إلى الضرب والتضييقيات حتى القتل، تماما كما ترسيخ جريمة "التحييد" أو الاغتيالات المتعمدة، واعتبارها أمرا روتينيا في تحركات الاحتلال، الذي يحظى بالموافقة والدعم من الرأي العام الإسرائيلي باعتبارها ممارسات شرعية من جهة، وغياب المساءلة عليها من جهة أخرى، وعدم الملاحقة والمقاضاة لواضعي السياسة ومنفذي الجريمة، باعتبارها قتلا ميدانيا وإعداما خارج القانون بلغة القانون الدولي وقواعد حقوق الإنسان، واتفاقيات القانون الدولي الإنساني الناظمة لعلاقة دولة الاحتلال بالمواطن الفلسطيني المدني الخاضع لهذا الاحتلال.

يجب أن تتحرك المؤسسات المعنية لتجريم الإعدامات باعتبارها عمليات اغتيال وقتل خارج القانون، وعدم التفاعل مع أوصلت إليه إسرائيل جمهورها وإعلامها، الذي صار يجري استطلاعات رأي للجمهور حول تنفيذ الاغتيالات ضد القيادات السياسية والعسكرية، وكأنما تتشاور في تسمية شارع أو اختيار لون صبغة الشعر المناسبة!

في قضية اغتيال الإعلامية شيرين أبو عاقلة، يجب التحرك والخروج السريع من الدوائر التي تريد إسرائيل (المتهم الرئيسي) حصر النقاش داخلها، عبر التركيز على "لجنة التحقيق" وأطرافه، أو التركيز على "نوع الرصاصة وشكلها" والجندي الذي "أخطأ" أو تفاصيل "فتحة إطلاق النار" من الجيب العسكري! ويجب تفويت الفرصة على الاحتلال من استغلال "التحقيق" كوسيلة لإيجاد المبررات والسبل للإفلات من العقاب - كما يحصل في كل مرة.

يتوجب العمل على تطوير إستراتيجية للمساءلة والملاحقة للاحتلال بمؤسساته التنفيذية والقيادية والسياسية لتصل كل من ساهم بوضع الخطط، وأعطى الأوامر ونفذ. هناك حاجة لإستراتيجية جديدة تقوم على قواعد وفرضيات جديدة، بالتعامل مع جريمة الاغتيال باعتبارها جريمة تتكامل فيها كل عناصر جرائم الحرب، باعتبارها ناتجة عن قرار مسبق (قد يصل حد القرار السياسي أو الأمني بكل مستوياته القيادية من أعلى الرتب وحتى درجة التنفيذ الفعلي)، وليست وليدة خطأ ميداني أو في تصويب وتصرف ذاك الجندي الفرد أو الوحدة بعينها كما يريد الاحتلال.

لا بد من التحقيق على قاعدة أن الجندي لم يطلق النار نتيجة خطأ في قرار، وإنما نفذ أمرا أصدره ضابط ما، بناء على توجهات قيادته العسكرية، أو بدافع التوجيهات السياسية التي تحدد ممارسات الجيش في مختلف المستويات - هذا هو الأصل في موضوع التحقيق وعليه يجب أن ترتكز الأنظار وتتوجه الأضواء.

آن الأوان لوضع إستراتيجية واضحة ترتقي بالتعامل مع جرائم الحرب ومستوى العدوان المتصاعد، وعدم ترك الأمور للتوازنات التي تفرضها اتفاقيات السلطة ومقارباتها السياسية. وآن الأوان لمحاسبة الاحتلال (أفرادا ومؤسسات) وتحميله المسؤولية القانونية والجنائية لممارسات المستوطنين واعتداءاتهم المتصاعدة، والتعامل مع القضية باعتبارهم خاضعين لسلطة سياسية هي المسؤولة عن جرائمهم، باعتبارها صاحبة القرار بالاستيطان وحمايته، بالإضافة لمسؤوليتها باعتبارها دولة الاحتلال التي يتوجب عليها قانونيا توفير الحماية للفلسطينيين المدنيين ومنع استمرار الاعتداء عليهم.

من جانب آخر، علينا أن نتذكر أن تجارب الماضي بالنسبة لقدرة السلطة الفلسطينية على حمل هذا الملف ومتابعته والصمود أمام الضغوطات الاقتصادية والسياسية، لا تبشر بالخير ولا تشير إلى قدرتها على تطوير هذه الإستراتيجية (غولدستون نموذج، وغيرها). علاوة على أن التجارب في تعاملها مع التحقيقات والمساءلة الداخلية، تجعل الثقة بها تكاد تكون معدومة (عشرات لجان التحقيق التي أقيمت وقبرت نتائجها دون أن تصدر، من لجنة التحقيق باستشهاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وحتى لجنة التحقيق بقتل نزار بنات، وبينها العشرات من اللجان والقرارات التي لم تؤد لنتائج ولم تفض لأي مساءلة أو ملاحقة للجناة).

قضية اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة وما حملته من عناصر أظهرت حقيقة الاستهداف المتعمد بهدف القتل، والتضامن العالمي والمحلي الذي أوجدته بفعل شناعة الجريمة ووضوح معالمها، تمثل فرصة لإعادة السياق للاستعمال النظام الدولي المتاح (دون المبالغة بالتوقعات، ونثر الوعود الجوفاء في توصيف عدالته وحيادته) - تمثل فرصة جديدة لإعادة الاعتبار والمطالبة بمحاكمة نظام استعمار تتزايد التقارير الدولية التي تفضح طابعه العنصري، وتتصاعد جرائمه بفعل ثقته الزائدة بدوام الحصانة التي يتلقاها من أميركا وحكومات الغرب عموما - التي تؤدي مرة تلو الأخرى لشلل الآليات الدولية وعجزها بغياب الإرادة السياسية لتفعيلها - وتصاعد جرائم الاحتلال والتصرف بعنصرية وعنجهية منقطعة النظير باعتباره فوق القانون الدولي والمعايير الإنسانية - الحقوقية والأخلاقية .

آن الأوان للخروج من نظام العجز الذي صنعته السلطة ومؤسساتها والتي تمنع استغلال الإمكانيات والآليات المتاحة، وتعيق أحيانا أي نشاط لاستنفاذها، بفعل الضغوطات أحيانا أو المقايضات أحيانا أخرى. ولا بد من الإشارة إلى أن الشعب الفلسطيني ومؤسساته تمتلك الخبرات والتجربة المطلوبة للقيام بهذه المهمة، وكل ما ينقص من تجارب، يمكن توفيره من خلال شبكات التضامن العالمية في كل المستويات المهنية والسياسية.

يحتاج الشعب الفلسطيني إلى بارقة من الأمل، وإلى تجسيد حقيقي لحماية حقوقه على قاعدة المساءلة وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب السائدة في المنظومة الدولية بكل ما يتعلق بالاحتلال ومؤسساته العسكرية والسياسية، التي لن يؤدي استمرارها إلا لزيادة الغطرسة وتصاعد الاعتداءات أكثر مما نشهده اليوم.

ومرة أخرى، لا بد من العودة لتأكيد أهمية التفاعل مع اللحظة رغم الألم، وحسن التعامل مع جريمة بحجم الاغتيال المتعمد لصحافية بالميدان. وأن يتم التأسيس لعملية تخوض في جوهر القضية، وتغادر الدائرة التي يرغب الاحتلال حشرنا بها عبر تغيير روايته للأحداث بشكل متواصل، الذي يزرع من خلالها الشعور الواهم بالإنجاز، ويرسخ الإحساس لدى البعض بـ"الانتصار الفلسطيني" الذي يفتقد للنتائج العملية، ومن خلال ذلك كله توجيه الأنوار وتركيزها على "نوع الرصاصة" والإيحاء بمعرفة مصدرها على مستوى "الجندي الذي أخطأ"، ومن خلال ذلك منع التحقيق بالجريمة باعتبارها نمطا منتظما من ممارسات الاحتلال، لم يبدأ باغتيال شيرين أبو عاقلة، ولن يتوقف عندها.

الحقيقة واضحة كوضوح الشمس، شاهدها وسمعها كل العالم، ولسنا بحاجة لتحقيق يرسخ ما شاهدنا ووثقته كاميرات الصحافيين وشهاداتهم المتكاملة. لجان التحقيق ليست هدفا بحد ذاته، لنحتفل بإقامتها - ولا نحتاج لجانا وتوصيات يكون مصيرها كسابقاتها في أدراج التاريخ، بل لعملية مهنية لتوضيح الحقائق وتوثيقها بما يضمن التوجه بها، ضمن إستراتيجية مهنية تفضي للمساءلة الحقيقية للاحتلال الذي لم يترك حقا إلا وانتهكه، ولم يترك قاعدة قانونية إلا وتجاوزها وأمعن في دوسها بشكل تصاعدي، وصلافة لم يشهد التاريخ مثلها.

نحن أصحاب حق وعلينا ألا نترك الفرص لإحقاق حقوقنا تفلت من أيدينا، تحت أي ادعاءات ونقاشات مهما كانت التجارب السابقة، ومهما كانت التحديات التي لن تكون سهلة ضمن هذا المساق الذي سيحاربه الاحتلال ويعارضه كل من يساهم بالتآمر والتخاذل على أشكاله.

لنجعل من اغتيال شيرين أبو عاقلة محطة في تحقيق العدالة ليس للاقتصاص من المسؤولين عنها فحسب، بل لفتح أفق لمحاسبة الاحتلال على كل ما اقترفه ويقترفه من جرائم بحق الشعب الفلسطيني منذ النكبة.

*مدير المؤسسة العربية لحقوق الإنسان سابقا.

التعليقات