23/07/2022 - 12:22

عن طغيان اليومي على حساب الإستراتيجي

وجدت أحزاب الكنيست نفسها أمام امتحانات متتالية بسبب أزمة كيان الأبارتهايد الداخلية، والعجز عن تشكيل حكومات مستقرة، لتصبح هي ذاتها في أزمة ذات وجهين؛ وجهها الأول داخلي، تنظيمي وأيديولوجي وأخلاقي، ووجها الآخر خارجي، يتمثل في علاقتها مع الكيان الإسرائيلي

عن طغيان اليومي على حساب الإستراتيجي

(Getty Images)

ينأى قادة الأحزاب والحركات السياسية بأنفسهم عن الفكر، وعن ضرورة بلورة رؤية شاملة للمجتمع، أو تصور إستراتيجي يقود إلى تحقيق هذه الرؤية. وبدل ذلك ينشغلون ويوجهون جُّل طاقاتهم إلى القضايا اليومية وأساليب المناورة المعتمدة تجاه السلطة المركزية القائمة أو تجاه الاحزاب الأخرى في إطار التنافس على تحقيق إنجاز هنا أو هناك.

هذا حال الأحزاب العربية كلها، داخل الخط الأخضر، التي باتت تعاني جميعها من وهن تنظيمي، وخواء أيدلوجي. فبعض الأحزاب التي كان لها منطلقات أيديولوجية ورؤيوية، تعتاش اليوم على ماضيها النضالي، والذي لم يعد كافيا لإنقاذها، ذلك أن التجديد هو إكسير حياة الأحزاب، كما هي المجتمعات والدول. ولم يعد لهذه الأحزاب، وجود فعلي في البلدات العربية، لا نوادي ولا نشاط، والأخطر، لا نقاش سياسيا منظما، الذي كان يدار من خلال الندوات والمحاضرات والمناظرات، والمنابر الإعلامية. لقد حلت المناكفة والنجومية السطحية والهشاشة، محل الكاريزماتية ذات الزخم العقائدي والأخلاقي.

في الأعوام الأربعة الأخيرة، وجدت أحزاب الكنيست نفسها أمام امتحانات متتالية بسبب أزمة كيان الأبارتهايد الداخلية، والعجز عن تشكيل حكومات مستقرة، لتصبح هي ذاتها في أزمة ذات وجهين؛ وجهها الأول داخلي، تنظيمي وأيديولوجي وأخلاقي، ووجها الآخر خارجي، يتمثل في علاقتها مع الكيان الإسرائيلي الذي حدّث إستراتيجيته العدوانية تجاه التمثيل العربي الوطني، بهدف احتواء ومحاصرة نمو قوة هذا الوجود وفاعليته.

وقد وصلت ذروة هذه الأزمة في تفكك القائمة المشتركة، وسقوطها سياسيًا، أي الانخراط في صراعات الأحزاب الصهيونية وائتلافاتها، وتفضيل طرف على آخر، من خلال تقديم التوصيات. أما التجلي الآخر الأخطر للأزمة هو الأخذ بهذه التوصيات، إلى أقصى قاع الهاوية، وهجر الجماعة الوطنية، من قبل تيار عربي إسلامي، وهو انحدار غير مسبوق في تماديه ووقاحته.

ولهذا يعيش المجتمع العربي حالة من الإنهاك والحيرة والبحث عن المعنى، كما أحزابه وحركاته كلها، البرلمانية وغير البرلمانية. شرائح منه، مشغولة في مراكمة نجاحاتها الفردية، وهي مهمة وآخذة بالإتساع، ولكنها خطيرة من حيث أنها غير مسقوفة برؤية وطنية موحدة، وبإستراتيجية عمل فاعلة، الأمر الذي يفتح المجال أمام استمرار تعمق الأسرلة والتحلل الوطني. أما الشرائح الأضعف، فهي غارقة في همومها اليومية وتقاتل من أجل تأمين لقمة العيش، وتأمين أقساط التعليم لأبنائها، وهي محاطة ببيئة غير آمنة من العنف والجريمة، والشجارات العائلية والفردية، وظاهرة انتعاش الممارسات الاجتماعية المتخلفة، مثل قتل النساء، أو القمع الثقافي والفني، الذي تمارسه أوساط محافظة، معيقة للتقدم والتطور، إضافة إلى تفشي النزعة الاستهلاكية المدمرة اجتماعيًا.

يفتقد الفلسطينيون داخل الخط الخضر، في السنوات الأخيرة، إلى الشعور بغياب من يمثلهم سياسيا ووطنيًا، كجماعة، تحديدا بعد تفكّك القائمة المشتركة والانهيارات السياسية الأخلاقية التي تلت ذلك، وبعد تبدّد الهيبة والمكانة التمثيلية للجنة المتابعة العليا والفشل الذريع في النهوض بها كمؤسسة حديثة وعصرية، وكمرجعية وطنية قُطرية. وحتى الآن لا يرون أفقًا، أو مبادرة حقيقية تُعينهم على البدء في الخروج من المأزق.

بسبب كل ذلك، نفتقد لحوار إستراتيجي، داخلي، تنخرط فيه الفاعليات السياسية كلها، كبيرها وصغيرها، لدراسة مآلات ومخاطر التحولات المتسارعة داخل الكيان الإسرائيلي وانعكاساتها على العلاقة بين المواطنين العرب ومستقبلهم، وعلاقة ذلك بالقضية الفلسطينية ككل، وبالمشروع الوطني الفلسطيني التحرري. نحن نَصبُّ غضبنا، وبحق، على سلوك قيادة القائمة العربية الإسلامية ("الموحدة")، الكارثي، ولكن ذلك لا يمكن أن يُخفي جذور الأزمة الكلية، أزمتنا الداخلية التي يغذيها نظام الأبارتهايد، ولا يجوز أن يُشكل غطاء للهروب من معالجتها والتصدي لها.

فهل يُعقل أن لا تجري تقييمات وإعادة نظر في فهمنا لإسرائيل، الجديدة، وفي نظرتنا وممارستنا لعلاقتنا معها، بعد أن بسطت هيمنتها الكاملة على كل فلسطين، وبعد أن سنت قانون يهودية الدولة، وكل ما يتفرع عن ذلك؟ وهل يُعقل أن نواصل التصرف بنفس الطريقة، بعد أن صدرت تقارير دولية وإسرائيلية، هامة جدا، تصنف إسرائيل كما هي في الواقع؛ نظام أبارتهايد، نظام فصل عنصري شديد العداء للفلسطيني؟ ألا يجب أن نسأل أنفسنا السؤال الكبير، وبغض النظر عن الاختلاف في الجواب؟ لماذا لا نتبنى رسميا وإعلاميا هذا التعريف؟ وهل بعد تبنيه، يجوز أن نواصل التمثل في كنيست الأبارتهايد؟ ويجب أن نفكر في كيفية التصرف في الحالتين؛ في حالة الاستمرار في المشاركة في الكنيست، وفي حالة اعتماد المقاطعة. أي، ما هي الإستراتيجيات المطلوبة لتمثيل مصالح المواطنين العرب، فلسطينيي الـ48، والتعبير عن أهدافهم، وعن علاقتهم مع الشعب الفلسطيني ككل، ألم يحن الوقت للتفكير ببلورة سقف جماعي وطني جامع، يربط الكل الفلسطيني في النضال ضد الأبارتهايد؟

ما يثلُج الصدرَ أن هناك مؤسسات بحثية هامة، داخل الخط الأخضر، وهناك جيلٌ جديد من الباحثين، الذي تجاوز كل ذلك وانتقل إلى تشريح الكيان الإسرائيلي وفق الدراسات النقدية الجذرية، وتحديدًا دراسات الاستعمار الاستيطاني، والتي يجري تطبيقها على إسرائيل باعتبارها كياناً استعماريًا إحلاليًا، وكذلك على سياسات إسرائيل تجاه مواطنيها الفلسطينينين، باعتبارها سياسة استعمار داخلي وأن المواطنة هي مواطنة كولونيالية وليست مواطنة دولة عادية وطبيعية. وكل هذه الدراسات والتحليلات تحتاج إلى تفكير جماعي حول كيفية التعامل مع تطبيقاتها العملية.

غير أن المشكلة أن هذه الدراسات محصورة في الدوائر البحثية، أي أنها ليست في متناول الناس العاديين، وليست للأسف في متناول ناشطي الأحزاب والحركات السياسية، ومن المفروض، وكما كان الأمر في حقبة ثورات التحرر، التي زخرت بالقياديين المثقفين، أن تطلع عليها قيادة الأحزاب، تقرأها وتتمثلها وتنقلها إلى داخل أحزابها وكوادرها. إن التسلح بالفكر السياسي، بمفهومه الشامل، التقدمي التحرري، من شأنه تحصين الأحزاب من التحلل الأيديولوجي والأخلاقي، وتمكينها من التطور والاستمرار، بل ومحاصرة مظاهر الانحراف والانتهازية، وكذلك الدوغمائية المقيتة، قبل أن تتسع وتقوض هوية الأحزاب، وتحولها إلى أحزاب وحركات لا روح لها، ولا دور تحرري لها. بل تصبح عبئا على مجتمعها.

كيف نعيد الاعتبار للرؤى والتفكير الإستراتيجي؟ ما هو إطار التحليل المطلوب في فهم الواقع الإسرائيلي، تجاه فلسطينيي الـ48 والشعب الفلسطيني ككل؟ كيف تُعيد الأحزاب والحركات بناء المُوجّه الأيديولوجي والأخلاقي؟ وهو الأمر الذي لن يحصل إلا من خلال مواكبة التطور الفكري الذي يجري خارج الهياكل الحزبية والحركية القائمة، وتوفر وكيلا للتغيير، مبدعا وحديثا ومتحررا. نتابع في المقال القادم النقاش والاشتباك مع هذه الأسئلة.

التعليقات