16/12/2022 - 15:55

أولويّة الحركة الوطنيّة: إصلاح المتابعة أم تمكين ذاتها؟

إن مشروع إعادة بناء لجنة المتابعة بالصيغة التي نقشها التجمع على رايته منذ انطلاقه، بات نظرا للظروف التي تحدّثنا عنها أعلاه، مؤجلا، إذْ لا تسمح طبيعة العلاقات الراهنة بين الأحزاب، ولا طبيعة التفكير الحالي لقياداتها، باستئناف العمل

أولويّة الحركة الوطنيّة: إصلاح المتابعة أم تمكين ذاتها؟

مظاهرة في أم الفحم ضد الجريمة (Getty Images)

هل لا يزال مشروع إعادة بناء لجنة المتابعة في الظروف الراهنة ممكنًا، أم بات مجرّد شعار مستهلك، على غرار شعار إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية؟ وبناء عليه، هل أولوية الحركة الوطنية في الداخل هي الانشغال مجددًا في إصلاح لجنة المتابعة، أم تركيز الجهد في تمكين وتحصين ذاتها، بعد أن تعرضت لمؤامرة دنيئة خرجت منها منتصرة، سياسيا وأخلاقيا، ولكن مع تحديات ضخمة تقف أمامها؟

على مدار ما يقارب العقدين، كنتُ موكلا نيابة عن حزب التجمّع في لجنة مصغرة، مشكلة من جميع الأحزاب، مهمتها صياغة تصوّر لمبنى لجنة المتابعة العليا؛ وكنتُ من أكثر المتحمسين لإعادة بناء تطوير هذه الهيئة العربية الفلسطينية، التي من المفترض أنْ تمثل وتقود نضالات فلسطينيي الـ48. وللتعريف، لجنة المتابعة هي إطار تنسيقي بين أعضاء الكنيست العرب وممثلي الأحزاب ورؤساء السلطات المحلية العربية، وتأسست عام 1983 في إطار عملية تنظيم هذا الجزء من شعبنا الفلسطيني، وهي سيرورة كانت قد بدأت في النصف الأول من السبعينيات، وتصاعدت بعد انتفاضة يوم الأرض المجيد.

ومنذ العام 1998 حتى العام 2015، انشغلت مركبات المتابعة مع تعطل بين الحين والآخر، بنقاش منهجي وجدّي، في محاولة لإيجاد الصيغة الأفضل التي تجعل هذه الهيئة أكثر قوة، وأفضل مهنية، وأكثر تمثيلا وتعبيرا عن إرادة الناس، وعن توجهاتهم السياسية وحاجاتهم اليومية. وللموضوعية، والأمانة، كان التجمع الوطني الديمقراطي، وفي داخله حركة أبناء البلد، المُحرّك لهذه الجهود وللنقاش والعمل على نقل الرؤية النظرية إلى أرض الواقع، لتنظيم المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر، باعتبارهم جماعة قومية لها حقوق جمعية، وجزء من شعب طرد من بيوته واستُعمر وطنه. وقد كنا استنتجنا عبر التجربة الطويلة لمسيرة شعبنا الطويلة، ومن خلال قراءتنا للفكر السياسي الحديث، أنه من دون تنظيم مجتمعنا على أساس قومي وديمقراطي (أي انتخابات مباشرة)، ليس بمقدورنا الحفاظ على الإنجازات والنجاحات التي تحققت خلال العقود الماضية في مجالات التنظيم، كتأسيس الأحزاب والحركات الوطنية، والأطر الطلابية والشعبية المختلفة، و في المقاومة السياسية والثقافية والشعبية، وفي التعليم والثقافة؛ وهي إنجازات تحققت بالنضال الشعبي والقانوني، غذّاه وأغناه التعليم الجامعي الذي ظهرت موجته الأولى أوائل السبعينيات. وأدرك الكثيرون منا، أنّه من دون تأطير كل هذه الإنجازات في مرجعية وطنية تمثيلية مهنية جامعة، ليس بمقدورنا مواجهة المشروع الصهيوني التوسعي، ومخططات التخريب والإعاقة، بصورة فاعلة، كما لا يمكن بناء مؤسسات جديدة وتعزيز القائم منها، والتجاوب مع الحاجات المستجدة الناجمة عن النمو الديمغرافي بين الفلسطينيين، كالسكن والأرض والعمل.

ويمكن تلخيص جهود إعادة البناء للجنة المتابعة التي امتدت على مدار ما يزيد عن عقد ونصف، بأنها لم تؤتِ جلّ أكلها، ولم يتحقق مشروع إعادة التنظيم، لا المرحلة الأولية منه، أي ترسيخ وتفعيل اللجان المختصة، وإقامة صندوق مالي قومي، ولا الانتخابات المباشرة. والانتخابات المباشرة عملية كبيرة تتطلب معركة سياسية وشعبية حقيقية، لأن إسرائيل ترفض الاعتراف بنا كجماعة قومية، رغم أن ذلك الاعتراف بـ"حقوق الأقليات القومية والدينية" كان شرطا لقبول الاعتراف بها كدولة في الأمم المتحدة عام 1948.

لكن هل يمكن القول إن كل الجهود ذهبت سدىً؟ لا، فقد ترسخت في هذه الفترة، في الوعي العام وعبر هذه الجهود، فكرة التنظيم القومي السياسي، وفكرة الانتخابات كتجسيد لمبدأ حق تقرير المصير بحده الأدنى لجماعة قومية نجت من التطهير العرقي، وتحولت إلى أقلية قومية وفق العُرف أو القانون الدولي، الذي يقر بحق الأقليات في تنظيم نفسها وإدارة شؤونها الثقافية، بما فيها تخطيط الحيز، إما على شكل حكم ذاتي ثقافي أو سكاني أو الاثنين معا، في إطار الدولة المركزية. كما جرى وضع دستور أولي يفصل اللجنة القطرية للسلطات المحلية عن لجنة المتابعة، وتجري انتخابات لرئاسة المتابعة، من داخل اللجنة، وتحديدا من قِبل مجلسها المركزي المكون من 54 عضوا، وتؤخذ القرارات بأغلبية الثلثين، بعد أن كانت تؤخذ بالإجماع، مما عرقل اتخاذ قرارات إستراتيجية.

هذه الشحنة الثقافية، أو بالأحرى المواد التثقيفية عن حقوق الأقليات، لم تكن معروفة لدى أغلبية القيادات السياسية، أو النشطاء، ويجب القول إن ظهور التجمع الوطني الديمقراطي وتحوله إلى حزب مركزي في مواجهة تبعات اتفاق أوسلو الكارثية بالنسبة لفلسطينيي الـ48، وتبنيه لرؤية وطنية حديثة، تعبوية ومُجندة، ساهم في تحفيز القوى السياسية الأخرى على الانخراط في نقاش مقاربات قانونية وثقافية لم تكن مألوفة لدى غالبية هذه القوى، وفي خلق نقاش واسع بين النُّخب، تمخّض لاحقا عن صدور مجموعة من الوثائق، مثل وثيقة التصور المستقبلي، ودستور "عدالة" الديمقراطي، ووثيقة حيفا وغيرها. وفي القلب من هذا النقاش، مسألة تحدّي يهودية الدولة، واشتراط تحقيق المساواة بإلغاء الطابع اليهودي للدولة، وتفكيك بنية النظام الصهيوني الكولونيالي، كشرط لتحقيق العدالة والمساواة. كما نصّت إحدى هذه الوثائق على برنامج مفصّل لتنظيم مجتمعنا، منها ضرورة وجود إطارٍ وطنيٍّ جامعٍ منتخَب من الجمهور.

وللأسف ولغياب التنظيم، والتوافق داخل لجنة المتابعة، ظلت هذه الوثائق حبيسة الرفّ، دون إجراء نقاش موسع ومستمر، بالتوازي مع النقاش الذي أثارته داخل المؤسسات الصهيونية، الرسمية وغير الرسمية، التي نظرت إليها نظرة عدوانية، إذ اعتبرت تلك الوثائق محاولة لتقويض يهودية الدولة.

فهل على التجمع والحركة الوطنية داخل الخط الأخضر، عمومًا، وفي هذه الظروف المستجدة، أن يتفرغ لاستعادة البحث والعمل من أجل إصلاح المتابعة وإعادة انتخابها؟ هل الظروف الحالية هي نفسها التي كانت فيها الحركة الوطنية تدفع بقوة نحو هذا الهدف، وتبذل الجهود الكبيرة، وتستضيف الحركات والأحزاب التي كانت تؤيد مشروع الانتخاب، في مقر التجمع المركزي؟ وهل تستطيع تلك الحركات القيام بدور أخفقت بالقيام به في أول فرصة، أو في أول خطوة تمثلت بانتخاب رئيس للمتابعة في العام 2015، وهي اليوم في حالة تراجع تنظيمي وجماهيري؟! وللتذكير، وللمفارقة، فقد انقسمت تلك القوى وذهبت كل واحدة منها -باستثناء التجمع- في اتجاه مناقض للالتزامات المتفق عليها.

أعتقد أن على التجمع أن يعيد تنظيم أولوياته. ويُقيّم مدى قدرته على استئناف دوره الريادي السابق في مبادرات إعادة البناء، حينما كانت قدرته على التأثير على مجرى الأمور أكبر بكثير، وحين سادت بين الأحزاب علاقات أفضل من اليوم، وكذلك حين تمتعت جميع الأحزاب بحيوية واستعداد للحوار أكبر من اليوم، رغم الفروقات الأيديولوجية والسياسية، وحين لم يكن هذا الانحلال السياسي الأخلاقي لقيادات في الأحزاب البرلمانية قد وصل إلى هذا الدرك (كالتآمر والتواطؤ مع الأعداء، وكذلك التحالف مع الصهيونية والانخراط في حكومتها). وفي المقابل، هناك مستجدات نظام الأبارتهايد الكولونيالي، الذي تتعاظم عدوانيته لشعبنا الفلسطيني ولحقوقه المشروعة، بصورة عامة، ولفلسطينيي الـ48 بصورة خاصة، التي تحتاج إلى حكمة عالية، ومقدرة وكفاءة خاصة على التنظيم وإدارة الصراع مع هذا النظام العنصري العدواني.

التجمع الوطني الديمقراطي خرج من المعركة الأخيرة منتصرا سياسيا وأخلاقيا، والآن أمامه الملعب الشعبي، خارج البرلمان، وهي فرصة لإعادة بنائه وتوطيد ركائزه. ومثّل الالتفاف الشعبي غير المسبوق، الذي لم يشهده منذ أكثر من عشر سنوات، تزكية منحتها شرائح واسعة من شعبنا لتوجهات هذا الحزب، ومثّل إدانة للسلوك التآمري والانخراط في حكومات القتل والاستعمار.

خاض التجمع الانتخابات بميزانية متواضعة جدا، مقابل ميزانيات ضخمة امتلكها الخصوم، وعوّض عن هذا الشُحّ بالميزانيات، بالتعاطف الشعبي الواسع، الصادق والعفوي. وشكّل هذا التعاطف ضربةً لحملات التضليل والكذب بأن كل شعبنا في الداخل معنيّ فقط بحاجاته اليومية، وأنه بلا ضمير، أو أنه لا تهمه هويته الوطنية وانتماؤه لشعب، ولا جريمة الحصار في قطاع غزة، ولا التهويد والقمع الوحشي في القدس، أو في كل مكان. واستند هذا الوهم والتضليل، إلى ادعاء بأن شعبنا وطبقته الوسطى باتت لونا واحدا، وأن أولوياتها هي الحقوق الفردية والمدنية لا غير. صحيح أن الطبقة الوسطى توسّعت، وهذا مصدر قوة لشعبنا، وصحيح أن أوساطا من هذه الطبقة باتت تبحث عن النجاحات الفردية على حساب النجاحات الجمعية والتضامن الداخلي، وهذه نقطة ضعف، ولكن ما هو دور القيادات السياسية؟ هل مسايرة هذه التوجهات والعمل على ترسيخها، أم رفع الوعي الجمعي والأخلاقي، الذي يعني تعزيز التضامن الوطني وتعزيز الانتماء للجماعة القومية، وما يترتب على ذلك من ضرورة توطيد الوعي الجماعي، المترجم في مؤسسات قومية، تمثيلية ومهنية، وأطر كفاحية شعبية.

أمام التجمع ونواته الصلبة مسؤولية كبرى، ليس إزاء نفسه، بل إزاء مجتمعنا، وبخاصة شرائحه الواسعة المتشبّثة بحقها في الوطن، وبحقها في ممارسة السياسة الأخلاقية، التي تحفظ تماسكنا وبوصلتنا الوطنية والأخلاقية. إن التمكن من ممارسة المسؤولية تجاه المجتمع، وتجاه الحركة الوطنية عموما، تتطلب بناء القدرة الذاتية الحزبية. أولا، التركيز على الداخل، داخل الحزب، وتوفير الشروط لمواصلة مراجعة وتطوير ممارساته، وبرنامجه السياسي، وابتكار إستراتيجية عمل حديثة وفاعلة، داخل المجتمع وشرائحه الشعبية المختلفة، وتطوير آليات التفاعل والدعم والتضامن مع ضحايا القمع، خصوصًا مع معتقلي هبة الوحدة والكرامة، ومع أهلنا في النقب الذي يتعرض لمخططات عدوانية قد تزداد شراسة مع تشكّل الحكومة الصهيونية الجديدة. أما الجريمة التي تعصف بمجتمعنا وتهدد كيانه، فتحتاج إلى دور مميز من الحركة الوطنية، من خلال تفعيل برامج عملية ناجعة، وربط كل ذلك بإستراتيجية سياسية وشعبية، في مواجهة النظام الذي اختلق هذه الآفة، بهدف تسهيل استكمال مخططات السيطرة والإخضاع.

يواجه الحزب صعوبات ليست قليلة، منها المالية، وهي عامل هام في عملية إعادة البناء والتمكين. إن ابتكار صيغ تنظيمية مستحدَثه، ستُمكّن الحزب من التغلّب على مشكلة التمويل، من خلال مضاعفة عدد الأعضاء الذين يدفعون رسوما عضوية شهرية. إن روح التطوع والتبرع التي شهدها الحزب في المعركة الانتخابية - السياسية - الوطنية الأخيرة، تذكّرنا بتلك الروح الكفاحية التي سادت في العقد الأول من انطلاق الحزب. وبات واضحا أنه يمكن البناء عليها وتطويرها. إن بشائر الخير ظهرت مؤخرا في انتساب المئات من الأعضاء الجدد، والتجنّد مستمر.

يجب أن يبقى في الذهن، أن معركة التجمع هي معركة الحركة الوطنية، وليست التجمع كحزب، وأن لهذه المعركة أيضا صدىً وتفاعلات في عموم شعبنا خارج الخط الأخضر، وليس صدفة أن مئات المثقفين والنشطاء الفلسطينيين، في الداخل والشتات، تفاعلوا مع هذه المعركة، فكريا وعاطفيا، على صفحاتهم الشخصية أو عبر التواصل هاتفيا. وهذا كله له استحقاقاته، يدركها التجمع تماما، أي ضرورة التفاعل الوطني، الفكري والسياسي والعملي مع الحركة الوطنية الفلسطينية، وتيارها الصاعد من تحت، ومع بداية تشكّل وتبلور رؤية وطنية سياسية تنشد التحرر من نظام أبارتهايد كولونيالي من البحر إلى النهر، والتي من المفترض أن تدفع التجمع إلى المشاركة في مبادرة تأسيس لحركة مناهضة لنظام الأبارتهايد الاستعماري، عابرة للتجزئة وللتقسيمات الاستعمارية، وتقوم بالتشبيك مع جميع الشخصيات والأوساط اليهودية المناهضة للأبارتهايد والاستعمار والفاشية، والمناصِرة للعدالة.

ختاما، نقول إن مشروع إعادة بناء لجنة المتابعة بالصيغة التي نقشها التجمع على رايته منذ انطلاقه، بات نظرا للظروف التي تحدّثنا عنها أعلاه، مؤجلا، إذْ لا تسمح طبيعة العلاقات الراهنة بين الأحزاب، ولا طبيعة التفكير الحالي لقيادات الأحزاب والحركات، الذي يتسم بالنكوص والتراجع، باستئناف العمل. إن ذلك سيعني تبديد الجهد والانشغال عمّا هو أهم في هذا الظرف تحديدا، ليس للتجمع فحسب، بل لعموم شعبنا. أقصد أن تستعيد الحركة الوطنية داخل الخط الأخضر عافيتها وصلابتها، وتعيد تأطير الشرائح الاجتماعية الواسعة، القديمة والجديدة، هي خدمة لقضيتنا الوطنية، التي تشمل همومنا اليومية وهمنا الوطني العام، المتمثل في التخلص من نظام القهر الكولونيالي وتحقيق العدالة.

هذا لا يعني التخلي عن التمثيل داخل لجنة المتابعة، على هشاشتها وضعفها، ولا التخلي عن رؤيتنا لإعادة بنائها ولمبدأ الانتخاب المباشر، ولا التخلي عن التنسيق مع قوى نلتقي معها في الموقف من قضايا ذات بعد إستراتيجي وآني، لأن هذه الرؤية جزء من هوية التجمع القومية الديمقراطية الحديثة والتحررية، فالتمسّك بفكرة إعادة البناء، على المستوى النظري، ضروري كجزء من عملية التثقيف وتعزيز الوعي في الأجيال الصاعدة وطلائعهم الواعية، لتجد الفرصة المواتية لإنضاج الظروف التي تسمح بولادة الجديد.

كل ذلك مشروط بعقد مؤتمر ناجح ومهيب للحزب يفرز قيادة جديدة، قوامها من عناصر الجيل الثاني والثالث، الأكثر مقدرة، والذي نشأ وتمرّس في الحزب، جيلٌ لا تشغله لوثة التنافس المحموم على مقاعد الكنيست، بل كيفية تقديم نموذج قيادي عصري في الساحة الشعبية، مع رؤية شاملة وثقافة تحررية وطنية و تقدمية؛ يمتلك الإحساس المرهف بهموم الناس، وقادر على التسامي على الذاتية.

التعليقات