22/12/2022 - 21:31

تقدير عام: ليس فقط في أعقاب نتائج الانتخابات الأخيرة

الحكومة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، قد بزّت سابقاتها في المجاهرة، وفي حجم سفور المنهج العنصري الفاشي، وذلك وفق الاتفاقيات الائتلافية الموقعة بين الأحزاب التي تتشكل منها هذه الحكومة. لا نقول هذا الكلام بدافع التخويف والترهيب؛ لكننا قلقون.. قلقون جدا

تقدير عام: ليس فقط في أعقاب نتائج الانتخابات الأخيرة

مسيرة في سخنين (أرشيفية - "عرب 48")

بغضّ النظر عن تطورات المشهد الرياضي في المونديال وخلفياته ومآلاته، إلا أن هناك حقيقة ساطعة تمْثُل أمام القاصي والداني، وهي مركزية فلسطين في الوجدان الشعبي العربي من المحيط إلى الخليج.

لقد قوّضَ حضور فلسطين الواسع والشعبي والمؤثر في أكبر حدث رياضي في المعمورة، والذي تتابعه المليارات من أبناء البشرية، قوّض كل حلقات الذكر والتأبين لضمير الأمة والتي دَرَجَ عليها البعض في السنوات الأخيرة بدافع اليأس أو بدافع الاستعلاء أو بدافع الإنكار والتشويه في صالح مشاريع إمبريالية، بما فيها أجندات أنظمة.

حزمة الضوء هذه تبدد ولو قليلا من المساحات المدلهمّة التي تلازم واقعنا الحالي، وترسل رسالة إلى الصهاينة ورُعاتهم بأن أبناء إسماعيل ما زالوا بخير، رغم ما نُسِب تعسفا إلى إبراهيم.

لقد راكمَ الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، منذ النكبة، مآثر عظيمة واجترح بطولات كانت تبدو شبه مستحيلة قياسا لحجم المؤامرات والمخططات الرهيبة التي أحدقت به وبحياته وبأرضه وهويته، كما عرف انتكاسات وأخطاء ومراهنات خاطئة شكّلت خطرا عليه وعلى مسيرته وعلى نضاله العادل.

في المقابل، راكمت الحركة الصهيونية على مختلف تلاوينها جرائم واستهداف حتى لمجرد وجود الشعب الفلسطيني من بن غوريون إلى غولدا مئير وصولاً إلى إيتمار بن غفير.

لسنا عبثيين، ولذلك نحن نقرأ كل مرحلة، بخصوصيتها وبأولوياتها وتمايزاتها، وعلينا أن نأخذها في عين الاعتبار لدى بناء مشروعنا النضالي في كل مرحلة، وذلك انطلاقا من ثوابتنا الوطنية وقيمنا الإنسانية والديمقراطية.

صهيونية فاشية بلا أقنعة

في واقع الفلسطينيين في الجليل والمثلث والنقب والساحل والكرمل، وفي ظل الاضطهاد القومي والمدني وسلب الوطن والتاريخ ومسميات الجغرافيا، والحق في صياغة وصيانة ملامح الانتماء، لا يمكن أن تكون وطنيا دون أن تضع قضية الوطن كسبّاقة للأجندة الأخرى.

أفرزت الانتخابات الأخيرة للكنيست حاضنةً سياسية لفاشية إسرائيلية دون أقنعة، وأفرزت حكومة جديدة وخطيرة.
إلى جانب مواجهة رياح الفاشية المتصاعدة، يجب تحويل التحوّل الفاضح المتمثل بنزع الأقنعة هذه، إلى فرصة على المستوى المحلي وعلى مستوى الأداء الفلسطيني وعلى المستوى الإقليمي والدولي.

لعل المجاهرة بالجوهر الحقيقي للصهيونية الحاكمة في إسرائيل، بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وتحولها إلى الصيغة الأقرب إلى النازية الجديدة، "والمعززة" بالاحتلال الإحلالي الكولونيالي، يجب أن تقود إلى نزع قناع الديمقراطية الزائفة و"الأمن" العدواني، الذي تقنعت به الصهيونية على مدار قرن وأكثر أمام العالم.

وهذا بذاته يحتاج إلى وقفة خاصة وتفصيلية، تشارك فيها كل تجمعات شعبنا العربي الفلسطيني ومؤسساتنا الوطنية التمثيلية والسياسية والأهلية.

نحن الفلسطينيون الذين بقينا قابضين على وطننا كالقابض على جمرة منذ النكبة، والذين خرجنا من رماد النكبة كالعنقاء، وشيّدنا قامتنا وهويتنا من جديد، وحفظنا لغتنا من التهجين والتغريب في أصعب الظروف وأعتى المؤامرات، لم نعرف يوما حكومةً في إسرائيل لم تنقش على أعلامها، بهذا المستوى أو ذاك، هدف قذفنا خارج التاريخ وخارج الجغرافيا وخارج الحق على الوطن وفي الوطن، الذي لا وطن لنا سواه.

لم يكن ذلك ممكنا دون القيادة التي كانت مستعدة على الدوام لدفع ثمن مواقفها وثوابتها، وليست قيادة كانت تنتظر أن تقبض ثمن "مواقفها".

نحن لا نعاني ما نعانيه من عنصرية وتمييز وملاحقة، لأن خللا اعتَوَرَ الديمقراطية الإسرائيلية، إنما لأن جوهر الفكر الذي يسَيِّر الدولة مبنيٌّ على العنصرية والتمييز، والملاحقة لكل ما هو فلسطيني.

إن مشكلة إسرائيل وجوهرها الكولونيالي معنا، هي في مجرد وجودنا في وطننا وفي كوننا ننتمي إلى الشعب الفلسطيني وإلى قضيته العادلة.

في كل الأحوال، فإن مجرد الانزلاق إلى التفكير بإيجاد معادلة لمشاركة جهة عربية فلسطينية من أبناء شعبنا في ائتلاف حاكم في إسرائيل، وفق قواسم الإجماع الصهيوني المعتمدة في المرحلة الراهنة، وفي المستوى المنظور وفي مستوى التفكير الإستراتيجي للصهيونية، لا يمكن أن يكون واردا، ويجدر عدم الاستغراق في أضغاث أحلام تراهن على تغيير جوهر الصهيونية المهيمنة.

لقد أفرزت هذا الانتخابات والتي سبقتها، مظاهر خطيرة، ومنها ما هي غير مسبوقة بحدّتها، تمثلت في تسلُّق قضايا ليست في صلب مشروعنا الوطني، وليست في صلب صراعنا مع المؤسسة الحاكمة في إسرائيل لخدمة أغراض انتخابية فئوية، إلى رأس سلم التداول السياسي والاجتماعي والانتخابي، الأمر الذي هدف إلى حرف المسار عن قضيتنا الأساسية. إلى جانب ذلك، لاحظنا استسهال التفريط بالأطر الجامعة، اعتقادا من البعض أن ذلك من شأنه أن يخدم أجندة حزبية أو فئوية، أو أن يبني أمجادًا قبليّة سياسية.

طبيعي أن تتكون فكرة نقدية من هذا الطرف السياسي إلى أيّ طرف آخر، ولكن هناك من يبحث عن المشكلة في الآخرين، وأنا اقترح أن ينظر كلٌّ إلى ذاته السياسية أو الاجتماعية وإلى أدائه وحضوره في الميدان، للمراجعة والنقد الذاتي، وبعد ذلك أن يبحث خارجه عن أسباب التردي الذي يجب أن يخلي مكانه فورا ودون إبطاء، من أجل التفرغ للقضايا، والأخطار الكبيرة، والجسيمة، والملحّة.

درجت المؤسسة على تسميتنا بتسميات فئوية وطائفية وجهوية من أجل تهتيك الانتماء الجامع لشعبنا مثل: العرب والمسيحيين والدروز، وبدو الشمال، وبدو النقب، والأقليات، وغير اليهود، وما إلى ذلك.

وذهبت إلى أبعد من ذلك، في فرض الخدمة العسكرية على أبناء شعبنا الدروز، وإلى الترويج للخدمة العسكرية وللخدمة المدنية في شرائح غير قليلة من أبناء شعبنا، وترويج أوهام "الحقوق" مقابل الولاء لطابع الدولة اليهودي والانضواء المهين في هذا الطابع.

واضح لنا تماما ما الذي تبغيه المؤسسة الإسرائيلية من ذلك، لكن تسلل هذه المفردات بالعلن وبالهمس إلى لغتنا وعملنا السياسي، سواء كان ذلك بنية خبيثة أو بنية طيبة، ينطوي على أخطار كبيرة وعلى خلل كبير، لا بل على نجاح مشروع التفرقة الإسرائيلي.

إن تعدد الألوان يجب أن يكون مصدر ثراء وطني واجتماعي، إلى جانب ذلك يجب الالتفات الوطني والسياسي من كل أبناء شعبنا، إلى واقع الظلم الكبير الذي تواجهه شرائح عزيزة من شعبنا مثل أبناء شعبنا في النقب الذين يعانون من الاقتلاع والهدم والمصادرة والملاحقة، وأبناء شعبنا في المدن التاريخية، الذي يعانون من التحريض والتغريب والملاحقة، وأبناء شعبنا الدروز الذين يواجهون مخططا لانتزاعهم من انتمائهم ومن شعبهم، إلى جانب معاناتهم من تضييق الحيز العام، ومصادرة الأرض وأوامر هدم البيوت.

إذا لم تكن الوحدة الوطنية هي الحاضنة والحامية لكل مكونات شعبنا، فالخطر كبير أن تبحث قطاعات مهددة عن "الحماية" في حضن المؤسسة.

إن التفريط بأيّ جزء من شعبنا هو انتصار لأعداء وحدته، وإن فرط وحدة شعبنا وعناوينه الجامعة هو أيضا كذلك.
في كل الأحوال فإن خصوصية المعاناة لهذا القطاع أو ذاك من أبناء شعبنا يجب أن تقود إلى الوحدة والشمولية في المواجهة مع أسباب هذه المعاناة.

إن هذه البديهية تستوجب بديهية أخرى وهي الخروج من أوهام تطويع العمل الوحدوي أو الإطار الوحدوي لهذا المزاج السياسي الضيق أو ذاك.

الإطار الوحدوي، سواء كان الوطني، أو البلدي، أو الشعبي، أو البرلماني، أو الأهلي، لا يمكن أن يكون "الأنا" الحزبية لأيّ من مركبات هذا الإطار الوحدوي، إنما هو تلك المساحة التي تستطيع كل "الأنوات" الحزبية أن تقف عليها دون أن تفقد خصوصياتها وخصائصها الأخرى: الفكرية، والسياسية، والاجتماعية، والتنظيمية.

هذا ينطبق أساسا على لجنة المتابعة العليا وهذا بذاته تعبير عن رقيّ فكرة العمل الوحدوي.

إن مسيرتنا النضالية بعد النكبة تعجّ بالنماذج والدروس التي يجب اعتماد ما ثبت خلالها في امتحان الحياة، وفي الوقت ذاته الوقوف على ضرورة الاستفادة من الأخطاء ومن رداءة الجنوح إلى الهوان وقطف الرأس من ناحية، والمغالاة والقفز عن المعطيات الذاتية والموضوعية من ناحية أخرى.

هبة الكرامة وما لها وما علينا

لسنا الآن في صدد مراجعة التجربة التاريخية على طول الأعوام الـ74 الماضية، ولكن تكفي إطلالة سريعة على بعض الدروس المستقاة من "هبة الكرامة" في أيار/ مايو 2021، التي اندلعت ردا على العدوان على أبناء شعبنا في المسجد الأقصى المبارك وفي كنيسة القيامة، وعلى حيّ الشيخ جراح في القدس، وعلى العدوان الإجرامي على شعبنا في قطاع غزة والعدوان الذي قامت به المؤسسة وقطعان الفاشية اليهودية على أبناء شعبنا في الداخل وبالأخص في المدن التاريخية الساحلية.

لقد أثبتت مجريات هبة الكرامة أن الجاهزية الكفاحية عند شعبنا وعند شبابنا تحديدا كانت بمستوى عالٍ من الانتماء، والالتزام، والنضال الميداني، والإقدام.

وهنا يجب الإشارة إلى بروز حراكات ومبادرات شبابية فاعلة، قامت بنشاطات وحضور ميداني لافت في عدد من القرى والمدن، والتي يمكن الاستفادة وطنيا من حضورها ومن لغتها ومن مبادراتها، ويجب توفير الحيّز التنظيمي الشعبي لمواصلة عملها في إطار منهج تكاملي وخارج الاحتواء أو الوصاية.

أثبتت لجنة المتابعة وعملها الوحدوي في تلك الأيام القاسية، قدرتها على قيادة الرد الشعبي الوطني المشروع لشعبنا، بشكل مسؤول ويتناسب طرديا مع حجم التحديات التي فرضتها علينا المؤسسة الإسرائيلية.

لقد كانت لجنة المتابعة في حالة انعقاد دائم في تلك الأيام، حيث استنفرت اللجان الشعبية في قرانا ومدننا التي قامت بنشاطات واسعة، في كل قرية ومدينة.

كما دعت إلى المظاهرة الشعبية الجبارة في سخنين في 15 أيار/ مايو 2021، التي كانت بمثابة استفتاء شعبي آخر على إصرار جماهير شعبنا في الداخل، على انتمائها الوطني وعلى حقوقها الوطنية والإنسانية، ذلك رغم التشكيك والتثبيط متعدد الجوانب.

ثم جاءت الدعوة إلى الإضراب الشامل الذي كان في الـ18 من الشعر ذاته، والذي خرج من اجتماع لجنة المتابعة في يافا وفي ذلك رسالة بذاتها، والتي حظيت بالتالي بالتجاوب والالتزام من كل أبناء الشعب الفلسطيني، في كافة أماكن تواجده. ثمّ جاءت إعادة تفعيل عمل هيئة الطوارئ العربية، التي حققت نجاحا هائلا في مواجهة جائحة كورونا، من أجل معالجة الجانب الحقوقي والدفاع عن المعتقلين، وتوثيق الأحداث والانتهاكات الإسرائيلية تمهيدا للمساءلة المحلية والدولية لاحقا، ويمكن القول اليوم إن هيئة الطوارئ العربية في سياق هبة الكرامة لم تحقق المطلوب منها بالكامل، إلا أن قرار لجنة المتابعة بتوكيل قضية المعتقلين في قرية أو مدينة للسلطة البلدية وللجنة الشعبية فيها (وحيث لا تتمكن القوى المحلية من إعطاء الجواب المطلوب يحال الأمر إلى لجنة المتابعة)، قد أثبت نفسه في الامتحان العملي.

إلى جانب ذلك، بادرت مفوضية فلسطين في مجلس حقوق الإنسان في جنيف، بالتنسيق مع لجنة المتابعة، إلى عقد اجتماع طارئ للمجلس في 27 أيار/ مايو 2021، حيث قدمت لجنة المتابعة مداخلة شاملة باسم شعبنا في الداخل، حول ما يواجهه من ممارسات وقوانين وانتهاكات عنصرية.

لقد أفضى اجتماع مجلس حقوق الإنسان إلى قرار غير مسبوق، بإقامة لجنة دائمة تعنى بانتهاكات إسرائيل في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، ولأول مرة تعنى اللجنة بانتهاكات إسرائيل لحقوق مواطنيها الفلسطينيين.

في المقابل، تجدر الإشارة إلى ضعف حضور بعض الأحزاب السياسية ميدانيا في أحداث هبة الكرامة، وبالتالي عدم تأكيد المشروع السياسي الناظم للنضال الشعبي، حيث لاحظنا وجود الارتجال وغياب التوجيه في كل ما يتعلق بشكل النضال وأدواته وأثمانه في عدد من الأماكن.

طبيعي أن تكون عدالة النضال هي المعيار الأساسي الذي على القيادة الميدانية للنضال الشعبي أن تأخذه بعين الاعتبار، إلا أنها ملزمة بالأخذ بعين الاعتبار الثمن الذي ندفعه، كي لا تتحول فداحته إلى رادع للمشاركة الواسعة في معارك مستقبلية، والأخذ بعين الاعتبار أن يكون النضال خادما للمشروع السياسي، والأخذ بعين الاعتبار اعتماد الأدوات النضالية الصحيحة، وأن النضال العادل يجب أن يعتمد ممارسات عادلة.

لماذا أسوق هذا الكلام عن هبة الكرامة دون غيرها من المحطات الكفاحية لشعبنا؟

لثلاثة أسباب أساسية:

  • بسبب التلازم الزمني لأحداث هبة الكرامة مع المرحلة الراهنة، وإمكانية انسحابها على الكثير من معطيات وأسئلة المرحلة.
  • بسبب ما أسلفناه من أخطار تنطوي عليها إقامة حكومة المجاهرة الفظة بالفاشية الصهيونية، التي يجري إقامتها في هذه الأيام والتي يجب مواجهتها بالاستفادة من تجاربنا
  • بسبب اقتراب محطة دقيقة مفتوحة على احتمال إنتاج أمل، أو على احتمال خطر تشرذم كبير، وأعني بها الانتخابات البلدية في أواخر العام المقبل.

لا شك أن الضرورة ملحة، وتكاد تكون مفصلية، لتجاوز ما كان من مخلفات ومنغصات الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وتحييد مصادر القلق في ما يتعلق بالانتخابات المحلية.

ثمة ضرورة أن تقوم الأحزاب بدورها السياسي والوطني في الانتخابات البلدية القادمة، بينما أي انحراف نحو عشائرية سياسية وتفريغ الانتخابات البلدية من طابعها الوطني والسياسي والخدماتي، وإلى جانب المنافسات الفئوية التي تتسم بها هذه الانتخابات، ستؤدي إلى دمار مجتمعي ووطني وستكون بمثابة بوابة لدخول أعداء شعبنا في مسامات حياتنا لحرف مساراتنا.

كما يجب الانتباه إلى دور الإجرام وعصاباته، الذي يعمل بغطاء مباشر من السلطات الإسرائيلية، في الانتخابات المحلية وفي العمل البلدي واندساسه الفاسد فيه.

إن تزامن هذه الانتخابات البلدية، مع ما يرافقها من خلل فينا، مع تشكيل الحكومة الجديدة، يستوجب قدرا كبيرا من اليقظة والجاهزية الشعبية والمسؤولية التاريخية.

منذ النكبة وحتى اليوم، لم تقم أية حكومة إسرائيلية تعترف بحقوقنا القومية في وطننا، وتعترف بحق شعبنا الفلسطيني في الحرية والاستقلال وتقرير المصير والعودة، ولم تقم أية حكومة في إسرائيل لم تمارس الظلم والقمع والملاحقة على أبناء شعبنا.
إلا أن الحكومة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، قد بزّت سابقاتها في المجاهرة، وفي حجم سفور المنهج العنصري الفاشي، وذلك وفق الاتفاقيات الائتلافية الموقعة بين الأحزاب التي تتشكل منها هذه الحكومة.

لا نقول هذا الكلام بدافع التخويف والترهيب.

لقد مررنا على مفترقات أصعب وأخطر بكثير منذ النكبة، وعبرناها وتجاوزناها وبقينا قابضين على انتمائنا وعلى وطننا وعلى قضيتنا وعلى لغتنا كالقابض على جمرة.

نحن لا نخاف المرحلة وتحدياتها وحكومتها، ولكننا قلقون... قلقون جدا.

علينا الانتباه إلى أبناء شعبنا عموما، وبالأخصّ إلى أهلنا في النقب والمدن التاريخية، وإلى محاولة المؤسسة الإسرائيلية إشعال الحريق من هناك من خلال هدم البيوت وتضييق الحيز العام وإطلاق العنان لأجهزة القمع الرسمية، وتفليت قطعان الفاشية اليهودية وتلفيق أجندة لتبرير ممارسات عدوانية.

يجب الانتباه إلى القدس والمسجد الأقصى والمقدسات التي قد تحولها الأوساط الحاكمة وفق أجندتها المعلنة، إلى مواقد للاستفزاز والعدوان والتحريض.

إن مقدساتنا الإسلامية والمسيحية هي عنوان للعقائد الدينية، وشاهد على الرواية الفلسطينية ومكوِّن مرموق في المعالم الحضارية الإنسانية وعلينا حمايتها وصيانة مكانتها في العقيدة وفي الوجدان الوطني.

من جانب آخر فإنني اعتقد أن استعمال المؤسسة "قانون القومية" ("قانون أساس: إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي")، الذي سنته الكنيست في تموز/ يوليو 2018، والذي جرى تصنيفه كقانون أبارتهايد فاشي، سيكون أكبر وأوسع في عهد الحكومة القادمة ليتجانس القضائي مع السياسي مع الاقتصادي مع الإعلامي، وليكتمل مشهد النظام الفاشي في إسرائيل وفق المعايير الكلاسيكية للفاشية.

ما العمل؟

• الثقة بالنضال الشعبي طويل النفس، وقراءة ما يبيته لك الآخر: الخصم أو العدو، وهذا يتطلب مستوى عالٍ من التفاعل الشعبي والتفاعل مع الشعب ويتطلب إحباط كل مظاهر التثبيط والإحباط من جهة، والتعالي الممجوج من جهة أخرى.

• التمسك بالثوابت الوطنية والديمقراطية المستندة إلى مركزية قضية شعبنا الفلسطيني، وإلى التمسك بحقوقنا القومية والمدنية وبمبادئ المساواة والديمقراطية الحقيقية.

• تعزيز وتشييد عناصر العمل الوحدوي على جميع المستويات وصيانة الهيئات الوحدوية، والنأي بها عما نعلم مسبقا أنه مُختلَف عليه، وصيانة قواسمها المشتركة، وتحديدا لجنة المتابعة واللجنة القطرية، وتنفيذ الالتزامات الشعبية والسياسية والتنظيمية والمالية، الكفيلة بمواصلة وتطوير عمل هذه الهيئات، وعدم الاكتفاء بالإعلان عمّا يريده البعض من هذه الهيئات، إنما الالتزام بما هو ضروري لعمل هذه الهيئات.

• تعزيز العمل الشعبي القاعدي، وتحديدا تعزيز عمل اللجان الشعبية في قرانا ومدننا، الأمر الذي يشكل مفتاحا لشطب أية مساحة من مساحات الاغتراب، التي قد تتشكل بين القيادات السياسية والجمهور الواسع.

• تقوية الأحزاب السياسية، بوصفها التنظيم المجتمعي الأرقى والأشمل، وبوصفها المحرك النضالي الأساسي، كي تستعيد دورها كمنظم ومحرّض وصاحب رؤية شاملة، إلى جانب العمل المشترك والتكاملي مع مؤسسات المجتمع المدني، والاستفادة من الخبرات المهنية والعلمية مع عدم الخلط وفقدان الحدود بين الحزب السياسي ومؤسسة المجتمع المدني.

• ضرورة إقامة تحالفات داعمة لقضيتنا وحقوقنا، سواء كانت تحالفات على قضايا محددة، موضوعا وزمنا، أو تحالفات تحمل عمقا أبعد من ذلك، على المستوى المحلي مع أوساط إسرائيلية تعارض التغوّل اليميني الفاشي على غرار التحالف الواسع، الذي تجنّد لمظاهرة عشرات الألوف التي دعت إليها لجنة المتابعة العليا في تل أبيب في 11 آب/ أغسطس 2018، بعد سنّ "قانون القومية"، أو على المستوى الدولي مع مؤسسات وجهات رسمية ومؤسسات مجتمع مدني في مختلف بلدان العالم.

• إن البراغماتية السياسية مطلوبة لتحقيق إنجازات عينية، ولتوسيع هامش المناورة في سياق معين أو لحاجة عينية، إلا أن الإمعان فيها وتدوير الزوايا التعسفي قد يقود إلى الانتهازية، بينما التوغّل فيها وإسقاط الثوابت السياسية أو الوطنية أو الفكرية، قد يقود إلى الخيانة، خيانة الذات أولا.

• إن معادلة التوازن بين القومي واليومي يجب أن تكون محكومة لميزان الذهب، فلا يجوز تحت أي شرط التفريط بالحقوق الوطنية الجماعية من أجل مكتسبات آنية، لأن ذلك سيقود بالضرورة إلى إهدار اليومي وخيانة القومي، ولا يجوز إهدار اليومي بحجة الطهرانية السياسية أو الوطنية أو الفكرية، وبالتالي إلى إضعاف عنصر هام من عناصر المناعة الشعبية.

• علينا، نحن هذا الجزء الحي والفاعل من الشعب الفلسطيني، الاضطلاع بمهمات كبيرة وثقيلة وغير معهودة بفعل هشاشة المشهد الفلسطيني عموما (بما في ذلك غياب الأفق لإنهاء الانقسام البغيض)، وبخصوصية موقعنا الجيوسياسي وبحجم الآمال التي تعلقها علينا قطاعات واسعة من شعبنا الفلسطيني ومن أمتنا العربية (والتي لا تخلو من مبالغات قاسية ومؤلمة) حيث تتمثل هذه المهمات في كوننا رأس حربة لفضح زيف الادعاء الصهيوني بشأن "ديمقراطية" إسرائيل، وبشأن ممارساتها القمعية ومناهجها الفاشية.

• محاربة عناصر التفكيك والترهل مثل انتشار الجريمة، وتسفيه العام وإخضاعه للخاص والطائفية والجهوية وعقلية الاستهلاك.

هذا بذاته يحتاج إلى مشروع كفاحي في مواجهة مشاريع التفكيك الإسرائيلية، والى مشاريع بناء مجتمعي تعيد الاعتبار لأولوية الانتماء الجامع، وما المبادرات التي قامت بها لجنة المتابعة إلا نماذج لهذا التوجه مثل المشروع الإستراتيجي لمكافحة العنف والجريمة (في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019)، الذي جرى إطلاقه والعمل على تنفيذه مع اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، وإقامة لجنة إفشاء السلام القطرية المتفرعة عن لجنة المتابعة ولجان إفشاء السلام المحلية التي تحقق حضورًا لافتًا، وذلك إلى جانب تفعيل ملحّ وضروري للجنة مكافحة العنف المنبثقة عن لجنة المتابعة.

• ضرورة وضع القضية الاجتماعية وتحديدا قضايا الفقر والبؤس الاجتماعي، والقضية الطبقية عموما في مكان متقدم في سلم أولوياتنا.

ليس خافيا على أحد أن نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر من اليهود في إسرائيل تبلغ 15% بما يشمل الحريديين، ومن دون الحريديين فإن النسبة هي 10%، بينما نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر من فلسطينيي الداخل تصل إلى 43%، بينما الأطفال العرب الفلسطينيين، الذين يعيشون تحت خط الفقر يصلون إلى حدود الـ54% من أطفالنا.
وليس خافيا على أحد أن إسرائيل تستثمر البؤس الاجتماعي في 3 سياقات أساسية:

- استعمال البؤس الاجتماعي كمدخل للإسقاط والابتزاز السياسي للأفراد.

- استعمال البؤس الاجتماعي كوسيلة لزجّ أبنائنا في عالم الإجرام بدافع الربح السريع.

- استعمال الحاجات الأساسية في المجال الطبقي الاجتماعي، للتحكم السياسي على المستوى البلدي وعلى المستوى العام بما في ذلك المستوى البرلماني.

لا شك أن الرأسمالية المتوحشة في إسرائيل، التي تقتضي ليس فقط إنتاج أرباح للقطاعات الاقتصادية المتنفذة، إنما أيضا إلى ضحايا لسياسة التغول الاقتصادي والطبقي، وإلى دافعي ثمن لهذا الأرباح.

لا شك أن إسرائيل تجني أرباحا باهظة، ليس فقط من تجاراتها الخارجية، وبالأخص تجارة الأسلحة والتقنيات "الأمنية"، إلا أنها تجني أرباحا هائلة وغير مكلفة من العمالة الأجنبية والعمالة الفلسطينية من المناطق المحتلة عام 67، وأيضا من القوة الاقتصادية وعمالة فلسطينيي الداخل.

المعنى، أن القضية الطبقية ومحاربة الفقر والنضال من أجل حقوق العمال، ووضع هذه القضية في رأس سلم أولوياتنا تحمل معنى طبقيا وإنسانيا وطنيا لكونها تقلص المساحة، التي تتحرك فيها المؤسسة الإسرائيلية لمسحنا وإسقاطنا، وابتزازنا ولتحوليها إلى رافعة كفاحية وليس دفيئة لبث الجريمة والانحراف والابتزاز، والإسقاط السياسي، والأخلاقي والأهلي.

• العمل على تطوير المشروع الذي أطلقته لجنة المتابعة تحت عنوان "مؤتمر القدرات البشرية" في مجتمعنا الفلسطيني، الذي يهدف إلى تنظيم القدرات البشرية، المهنية والأكاديمية، والاستفادة منها وطنيا ومهنيا في مجالات اختصاصها.

لقد استقطب هذا المؤتمر الذي انعقد على مدار أربع سنوات متتالية المئات من العلماء والأكاديميين، وأصحاب الاختصاص الذين يزخر بهم مجتمعنا والذين يتبوؤون مكانات مرموقة، تشكل مصدرًا للثراء المهني والمجتمعي ومصدرًا للاعتزاز الوطني.

هذا المشروع يحتاج إلى العناية والمشاركة والاستنهاض والتمويل، لأنه يحقق تكاملا بين الوطني السياسي وبين المهني والأكاديمي العلمي، الأمر الذي يشكِّل تكاملا مصيريا في واقعنا الوطني وفي واقع التحديات التي تدق أبوابنا.

• توظيف جهود استثنائية لمساحة العمل الدولي عموما، وللتواصل مع من أمكن من أبناء الأمة العربية وتنظيماتها الداعمة لفلسطين.

إن التجربة التي أطلقناها في لجنة المتابعة في نهاية كانون الثاني/ يناير عام 2016، تحت عنوان "اليوم العالمي لدعم حقوق الفلسطينيين في الداخل" على مدار عدة سنوات، هي تجربة رائدة وضرورية تحتاج إلى التطوير والمثابرة، وتحمّل المسؤولية من كل مركبات لجنة المتابعة.


*رئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل.

(ملاحظة: الفقرات المبرزة أو المظللة هي من الأصل)

التعليقات