26/02/2023 - 22:33

التنمية البشرية بين الحقيقة والوهم

بلا شك أن التنمية البشرية تفيد الكثيرين، وهي مفيدة في جوهرها ومهمّة، ولكن تأثيرها مؤقت وآني على المتلقي إذا لم يكن هو نفسه يملك المقومات، إنّ محاضرة قد ترفع المعنويات وتلهم وتشحذ الهمم لساعة من الزمان أو لبضعة أيام.

التنمية البشرية بين الحقيقة والوهم

(Getty Images)

من المواضيع الأكثر انتشارًا في المواقع ومختلف شبكات التواصل الاجتماعي، ومن الكتب الأكثر انتشارًا ومبيعًا هي كتب التّنمية البشرية.

يقصد في الأساس منها تعزيز ثقة الأفراد بأنفسهم وبقدراتهم على تحقيق طموحاتهم، والتغلب على المشكلات والعقبات التي تواجههم في حياتهم اليومية لتحقيق طموحاتهم وأحلامهم.

هكذا يضربون أمثالا عن أناس "عاديين" تحوّلوا إلى قادة، وإلى أثرياء ومخترعين وغيرها من النجاحات في الحياة.

هكذا صرنا نلاحظ وجود أعداد كبيرة من مقدّمي برامج التنمية البشرية والنصائح التي لا تحصى، في كيفية التعامل في مواجهة قضايا حياتية: افعل كذا ولا تفعل كذا، وكيف تتغلب على كذا وكيف تحقق كذا... إلخ.

ما يحدث في الواقع وفي كثير من الأحيان هو تحميل بعض الناس أكثر من طاقتهم، وأكثر من حدود معرفتهم وثقافتهم وقدرتهم على التقدم سواءً في مجال عملهم، أو في محطيهم الاجتماعي، وللأسف كثيرًا ما تكون النتائج عكسية عليهم هم أنفسهم أوّلا، نتيجة إحباطهم واصطدامهم بالواقع الصّلب، البعيد عن الإنشاء والأوهام.

التنمية البشرية يجب أن تعتمد على أساس متين وقاعدة ثقافية أوّلا، فلا يمكن القفز من "قاع القفّة إلى أذنيها" كما جاء في المثل الشعبي، لا يمكن خلال بضع لقاءات أو ساعات من التوجيه أن تتحول إلى إنسان ناجح ما لم تكن لديك القاعدة المتينة للنجاح.

لا يمكن أن تكون قوي الشخصية مع ثقافة سطحية، لأنك في الامتحان الأول سوف تراوح في حدود ثقافتك ومعرفتك، وأيُّ مشكلة تواجهها سوف تعيدك إلى حقيقتك وإلى واقعك، وإلى قدراتك الحقيقية التي قد تكون محدودة أو متواضعة بإزاء الهدف الذي وضعته أمامك.

يحدث نتيجة التنمية البشرية، أن يتوهَّم بعضهم بأنهم أصبحوا قادة، "لأن فلانًا ليس أفضل منّي"، ولأنّه لا ينقصني شيء كي أكون في المقدمة، وأنّ الأمر لا يحتاج إلا لقليل من الشَّجاعة.

الحقيقة أنك عندما تريد أن تكون في المقدمة من دون مقوّمات ثقافية ومعرفية وحتى مادية، فأنت تضع نفسك في المكان غير المناسب لك، وسوف تقطف خيبة الظن والإحباط.

التنمية البشرية الحقيقية هي في سعة الاطلاع والمهنية العالية في الموضوع الذي نتّجه لنكون مبدعين فيه.

المشاركة في أحداث ثقافية حقيقية وفي صناعة ثقافة اجتماعية ومناقشة قضايا مهمة وساخنة تمسُّ حياةَ النّاس.

التنمية البشرية تعني الانخراط في قضايا شعبك الأساسية وأن لا تقف موقف المتفرّج والجالس على الجدار.

التنمية البشرية هي حصيلة تجربة أجيال على مدار قرون، وليست طبخة تطهى خلال ساعات.

يجب أن ننتبه بأنَّ المجتمعات وثقافاتها وقيمها تختلف من بلد إلى آخر، ومن شعب إلى آخر، فما يصلح في أميركا أو كندا قد لا يصلح في الأردن وفلسطين، وما يصلح في فلسطين قد لا يصلح في السُّعودية.

في كثير من الحالات تحوّلت التنمية البشرية إلى عكس المرجو منها لدى أولئك الذين توهّموا بقدراتهم بلا أساس متين، فكانت صدمتهم كبيرة عندما انتبهوا بأنهم يراوحون مكانهم.

هل هذا يعني الابتعاد عن كتب التنمية البشرية وبأنها خطأ وعن أولئك الذين يقدمونها؟

لا، أبدًا ليس هذا هو القصد، وبلا شك أن التنمية البشرية تفيد الكثيرين، وهي مفيدة في جوهرها ومهمّة، ولكن تأثيرها مؤقت وآني على المتلقي إذا لم يكن هو نفسه يملك المقومات، إنّ محاضرة قد ترفع المعنويات وتلهم وتشحذ الهمم لساعة من الزمان أو لبضعة أيام، ولكنها على المدى الأطول لا تفيد إلا المهيّئين من الأساس ولديهم القاعدة الثقافية والمعرفية المتينة التي يطورونها بشكل دائم ويبنون عليها أحلاما واقعية لديهم القدرات على تحقيقها.

إلى جانب هذا فالأخلاق يجب أن تكون ركيزة مهمة وأساسية في تقدمنا المهني أو الاجتماعي أو السياسي، ولا يعقل استخدام أسلحة مسيئة للآخرين مثل النميمة والانتهازية والتسبّب بأضرار للآخرين كي نصل موقعا ما أو نحقق هدفًا، الهدف يبرِّر الوسيلة، هذا شعار خطير وبعيد عن القيم الأساسية السليمة، فالهدف النبيل له الوسيلة النبيلة للوصول إليه.

التعليقات