27/10/2023 - 12:30

"الهسبراه" الإسرائيليّة: استغلال اللاساميّة وتعزيز الإسلاموفوبيا

على مدار الأسبوع الأوّل للحرب اعتمدت إسرائيل على الدعم المادّيّ والمعنويّ الخارجيّ، لكسب الشرعيّة الدوليّة لعمليّة عسكريّة واسعة دون تقديم أيّ أهداف محدّدة أو صورة واضحة عن مستقبل غزّة، ولذلك تجاهلت إسرائيل الرأي العامّ العالميّ في الأسابيع الأولى

مظاهرة مناصرة للفلسطينيّين في برلين وسط قمع الشرطة الألمانية (Getty)

حتّى اللحظة، لم يستيقظ المجتمع الإسرائيليّ، ولا مؤسّسات الدولة الرسميّة من هول الصدمة الّتي وقعت في السابع من أكتوبر الماضي، وسط انهيار الإطار المنطقيّ والتحليليّ المسيطر على الخطاب الرسميّ والشعبيّ في العقدين الأخيرين، والذي بحسبه تستطيع إسرائيل في الاستمرار في إدارة الصراع مع أقلّ تكلفة ممكنة، بل وعقد الاتّفاقيّات الاقتصاديّة وتطبيع العلاقات مع الدول العربيّة في تجاهل تامّ للمعاناة المتزايدة للشعب الفلسطينيّ، تحت وطأة الاحتلال.

منذ الأيّام الأولى للعدوان ومع انكشاف حجم الدمار والخسائر في الأرواح الّتي تكبّدها المجتمع الإسرائيليّ، إضافة إلى العدد الكبير من الأسرى والمختطفين، تلقّت إسرائيل دعمًا غير مسبوق وغير محدود من دول التحالف وعلى رأسها الولايات المتّحدة، الّذي تضمّن إعطاء الضوء الأخضر لشنّ عدوان على غزّة في سبيل إخضاع حركة "حماس".

على مدار الأسبوع الأوّل للحرب اعتمدت إسرائيل على الدعم المادّيّ والمعنويّ الخارجيّ، لكسب الشرعيّة الدوليّة لعمليّة عسكريّة واسعة دون تقديم أيّ أهداف محدّدة أو صورة واضحة عن مستقبل غزّة، ولذلك تجاهلت إسرائيل الرأي العامّ العالميّ في الأسابيع الأولى، مدعومة بالأداء المنحاز والرديء للصحافة العالميّة الّتي تبنّت الرواية الإسرائيليّة بالكامل.

مع استمرار الضغط الشعبيّ الكبير الّذي يمارسه الشارع العربيّ والأجنبيّ على الرأي العامّ العالميّ والقيادات السياسة، بدأت شرعيّة الخطاب الإسرائيليّ في التصدّع، وأصبح من غير الممكن تجاهل الشارع، ممّا أجبر إسرائيل على استنهاض منظومة "الهسبرا" أو البروباغندا الإسرائيليّة في محاولة للحفاظ على شرعيّة العدوان أو "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" كما صرّح رؤساء الدول الكبرى، وتدار هذه المنظومة بشكل مركزيّ من قبل المؤسّسات الرسميّة في الدولة، وتستقطب المجتمع المدنيّ الإسرائيليّ إضافة إلى أذرع الحركة الصهيونيّة في أوروبا وأميركا في سبيل ذلك.

تعتمد استراتيجيّة البروباغندا الإسرائيليّة في المعركة على الرأي العامّ العالميّ على ركيزتين أساسيّتين، الأولى هي تصوير النضال الفلسطينيّ كـ"إرهاب" "لاسامي" و"نازي" يهدف إلى القضاء على اليهود، والآخر هو تعزيز الإسلاموفوبيا في الدول الأوروبّيّة لصبغ النضال الفلسطينيّ في صبغة دمويّة لا تختلف عن "داعش" وبهذا تقطع إسرائيل الطريق أمام أيّ تعاطف أو مناصرة للقضيّة الفلسطينيّة.

احتضان اللاساميّة:

ليست هذه الاستراتيجيّة وليدة اللحظة بالطبع، فهي متواصلة على مرّ الزمن في صياغة التصوّر الغربيّ للصراع، إذ تعمل إسرائيل على مدار العقد الأخير على توسيع تعريف مصطلح اللاساميّة، عن طريق إدراج أيّ انتقاد يوجّه إلى دولة إسرائيل، طابعها الإثنوقراطيّ، أو سياساتها الاحتلاليّة التوسّعيّة على أنّه بالضرورة معاد لليهود؛ لأنّه يهدف إلى "تقويض" دولتهم واستهدافهم لاستكمال المشروع النازيّ للرايخ الثالث. تعمل إسرائيل على تحقيق هذا الهدف من خلال الدفع صانعي القرارات في المؤسّسات الدوليّة والأكاديميّة لتبنّي التعريف الإسرائيليّ الجديد للاساميّة، إضافة إلى تفعيل الضغط المادّيّ من قبل المنظّمات الصهيونيّة العالميّة على المؤسّسات الإعلاميّة والمدنيّة لتبنّي هذا التعريف وإقصاء الأصوات النقديّة تجاه سياسات إسرائيل.

في مقابل هذه الجهود عملت الأحزاب السياسيّة الحاكمة في إسرائيل، وعلى رأسها حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، على توطيد العلاقات مع حركات وأحزاب يمينيّة شعبويّة، خصوصًا في شرق أوروبا ومركزها، إذ تحمل معظم هذه الحركات فكرًا معاديًا لليبراليّة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، إضافة إلى كراهية المهاجرين والمناداة على أساس الفوقيّة العراقيّة البيضاء الّتي تشكّل الأساس والدفيئة الفكريّة للتيّارات اللاساميّة حول العالم.

وجدت القيادة السياسيّة في إسرائيل في هذه الحركات شريكًا استراتيجيًّا لبثّ دعايتها المعادية للفلسطينيّين والحصول على الدعم المعنويّ لتأسيس نظام الفصل العنصريّ الإسرائيليّ الّذي يقوم على أسس أيديولوجيّة مشابهة، متغاضين بذلك عن الأفكار اللاساميّة الصريحة الّتي تبثّها هذه الحركات ذاتها، إضافة إلى ذلك، شهدنا في فترة ولاية الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب محاولات حثيثة من قبل إسرائيل لمخاطبة واستمالة اليمين الأميركيّ المتطرّف الداعم لترامب الّذي يحمل أفكارًا مشابهة لنظيرتها في أوروبا الّذي يقوم على أساس الفوقيّة البيضاء المعادية للساميّة، وللشرق عمومًا، وأدّى هذا التقارب إلى نشوء شرخ بالعلاقات بين الدولة الإسرائيليّة والجاليات اليهوديّة في أميركا الّتي تعتبر غالبيّتها تقدّميّة داعمة للحزب الديموقراطيّ.

إضافة إلى ذلك، غضّت الحكومة الإسرائيليّة الطرف عن نشوء حركات تحمل فكرًا معاديًا للساميّة، عدا عن مظاهر استهداف واضح لليهود، والتصريحات العنصريّة من قبل سياسيّين في دول مثل ألمانيا، فرنسا وإيطاليا مقابل دعم هذه الدول لسياسات إسرائيل في المنطقة والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة.

يهدف الخطاب الإسرائيليّ إلى نزع الشرعيّة الأخلاقيّة عن النضال الفلسطينيّ، عن طريق مخاطبة عقدة الذنب لدى الأوروبّيّين جرّاء ارتكابهم للمحرقة النازيّة، وذلك في سبيل إسقاط المسؤوليّة الأخلاقيّة والتاريخيّة جرّاء الكارثة الإنسانيّة الّتي ارتكبت ضدّ اليهود على العرب عمومًا والفلسطينيّين خصوصًا، وبهذا إعطاء الحقّ الكامل لإسرائيل لارتكاب أفظع أنواع جرائم الحرب ضدّ الفلسطينيّين في غزّة.

تقوم إسرائيل بذلك اليوم من خلال استجلاب مشاهد المحرقة النازيّة ومساواتها بهجوم حركة "حماس" في جميع الخطابات الرسميّة وغير الرسميّة من خلال منظومة البروباغندا إلى وصم حركة حماس بالنازيّة بعد كلّ جملة، وليس ذلك فحسب، بل إنّ شيطنة المقاومة الفلسطينيّة تمتدّ أيضًا إلى شيطنة الفلسطينيّين على كافّة أطيافهم السياسيّة من أجل نزع إنسانيّتهم. وبذلك يصبح الفلسطينيّون والداعمون لتفكيك الاستعمار الإسرائيليّ إلى لاساميّين أو اللّاساميين الوحيدين، وفي المقابل يتمّ احتواء الحركات اللاساميّة العنصريّة.

تعزيز الإسلاموفوبيا:

شهدت أوروبا وأميركا خلال العقدين الأخيرين موجات متقطّعة من الهجرة من الدول العربيّة والإسلاميّة، ممّا ساهم في زيادة أعداد الأقلّيّات المسلمة في العواصم والمدن الكبرى، وبدأت تطالب في حقوقها الثقافيّة والدينيّة، وتزامنت هذه الهجرات مع تصاعد قوى ظلاميّة في منطقة الشرق الأوسط تدّعي تطبيق الإسلام والشريعة بهدف زعزعة استقرار المنطقة، ربّما يكون أشهرها تنظيم الدولة الإسلاميّة "داعش" الّذي قام بتبنّي عدد كبير من العمليّات الموجّهة ضدّ مدنيّين في المدن الأوروبّيّة.

ساهمت هذه التغيّرات في ارتفاع منسوب الإسلاموفوبيا في أوروبا واعتبار الإسلام دينًا منغلقًا ومتحجّرًا، ولا يشارك الثقافات الأخرى بأيّ من المبادئ والأعراف، بل هو أحطّ منزلة من الغرب إضافة لكونه بربريًّا وغير عقلانيّ ويشجّع الإرهاب. الازدياد في مظاهر العداء للإسلام والمسلمين لم يقتصر على النخبة السياسيّة في أنّه وصل المجتمع المدنيّ والإعلام الغربيّ الّذي بات يردّد هذه العبارات بكونها أمرًا منطقيًّا ومقبولًا، بالمقابل، شهدت الولايات المتّحدة تصاعدًا مستمرًّا في القوى والخطاب المعادي للإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، واكتسب شعبيّة مع بدء المدّ الشعبويّ في العالم.

منذ نشوء الصراع العربيّ الإسرائيليّ عملت إسرائيل على تصوير الصراع على أنّه صراع دينيّ بين المسلمين واليهود، وليس صراعًا سياسيًّا تحرّريًّا ضدّ قوى كولونياليّة، ومع تصاعد قوى اليمين الدينيّ في إسرائيل وانزياح الخارطة السياسيّة نحو اليمين المتطرّف خلال العقدين الآخرين، بات هذا هو الخطاب الرسميّ للدولة، خصوصًا أنّ هذا اليمين الإسرائيليّ الجديد يحمل مشروعًا مسيانيًّا دينيًّا يهدف إلى تأسيس مملكة يهودًا وبناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى.

شكّل تصاعد العدائيّة تجاه الإسلام والمهاجرين المسلمين في المدن الأوروبّيّة في السنوات الأخيرة، بيئة خصبة للمؤسّسات الصهيونيّة العالميّة لنشر خطاب مفاده أنّ إسرائيل الّتي تمثّل مبادئ الغرب، وتشاركه ثقافة تتعامل مع ذات القوى الإسلاميّة الظلاميّة والانتصار لإسرائيل على أنّه انتصار للغرب ومبادئه، وذلك عن طريق صبغ المقاومة الشعبيّة الفلسطينيّة صبغة دينيّة إرهابيّة، وتأليف الأكاذيب وتزوير الحقائق في سبيل خلق التشابه بينها وبين الجماعات الإرهابيّة كداعش، وبهذا يصبح كلّ فلسطينيّ، وكلّ مسلم مناصر للقضيّة الفلسطينيّة داعشيًّا، حتّى يثبت غير ذلك.

تعمل اليوم الوكالة الصهيونيّة العالميّة على نشر حملة إعلاميّة في المدن الأوروبّيّة تحت عنوان "أنتم اللاحقون" في محاولة منها أن ترمز إلى الرأي العامّ الغربيّ، أنّ الإسلام المتطرّف سيصل إليكم في نهاية المطاف، لذلك، عليكم إعطاء الدعم الكامل وغير المشروط لإسرائيل في حربها على الإسلام الإرهابيّ، وتشنّ إسرائيل حربًا إعلاميّة ضدّ كلّ أجنبيّ يبدي دعمه للقضيّة الفلسطينيّة لكونه يدعم الإرهاب، وكانت آخر أهدافهم الناشطة البيئيّة السويدة جوريتا تونبريدج.

تشهد القضيّة الفلسطينيّة والمطالبة برفع الحصار والعدوان عن غزّة التفافًا شعبيًّا عالميًّا كبيرًا، خصوصًا بعد المجازر الّتي ارتكبتها إسرائيل، والّتي أخرجت الملايين حول العالم إلى الشارع، ولكن من أجل التأثير في الخطاب العالميّ لا بدّ من تحليل الأسس الفكريّة لخطاب البروباغندا الإسرائيليّة، وتقصّي العلاقات الخفيّة بينه وبين من يردّده في العالم من غير الإسرائيليّين، وذلك، لفهم طبيعة العلاقات بين الغرب وإسرائيل، وتطوير خطاب نديّ يرتكز على الحقائق التاريخيّة وعدالة القضيّة الفلسطينيّة، ويعمل على هدم الأفكار العنصريّة ضدّ الفلسطينيّين والمسلمين والعرب.


أمل عرابي؛ محام ومدافع عن حقوق الإنسان، حاصل على الماجستير من الجامعة العبريّة، وعلى شهادة في الإدارة العامّة من جامعة ديوك في الولايات المتّحدة.

التعليقات