30/10/2023 - 17:32

"حرب الحضارة على الهمجيّة"... 

تجاهلت حكومات إسرائيل المتعاقبة قرارات الشرعيّة الدوليّة مدعومة من أعتى القوى العالميّة، قوى التحضّر الّتي تقودها أميركا الّتي دمّرت العراق، وقتلت حوالي مليون إنسان باسم "الحضارة في مواجهة الهمجيّة"...

طفل مصاب إثر غارة إسرائيليّة على غزّة (Getty)

إنّها حرب الحضارة على البربريّة والهمجيّة، هكذا أطلق بيبي نتنياهو على هذه الحرب.

تتجلّى الحضارة في أبهى صورها، بإلقاء ما يعادل قنبلة ذرّيّة من تلك الّتي ألقيت على هيروشيما، على المساكن والمؤسّسات المدنيّة والمخابز ومنازل الصحفيّين وحتّى على المستشفيات! القتل اليوميّ لمئات المدنيّين ومعظمهم من الأطفال والنساء هي حضارة، قطع الماء عن المدنيّين منذ اليوم الأوّل للحرب ومنع دخول الوقود والموادّ الإنسانيّة لمدّة ثلاثة أسابيع حضارة، ترحيل مئات آلاف السكّان المدنيّين من بيوتهم، ثمّ نسفها هو حضارة. طبعًا كلّ هذا يجري تحت هدف معلن هو تفكيك حكم حماس، ولكنّها في الحقيقة ليست حربًا للقضاء حماس فقط، ما يجري هو حرب إبادة بتأييد أميركيّ وأوروبّيّ، إنّها حرب قتل وتهجير، إنّه تنفيذ لمخطّط ذكره نتنياهو بلا مواربة، عندما طلب من عبد الفتّاح السيسي فتح معبر رفح للنازحين، وكان ردّ السيسي المتواطئ أن "انقلهم عندك إلى النقب واقضي على الجماعات المسلّحة".

تدمير وتهجير على قدم وساق ثمّ توجيه إصبع المسؤوليّة إلى يحيى السنوار كما صرّح قائد الأركان الإسرائيليّ هرتسي هليفي، وكأنّ القضيّة الفلسطينيّة واللاجئين في قطاع غزّة ولدت في أكتوبر 2023، أو ولدت مع ولادة حماس الّتي تأسّست عام 1987 كمقاومة شعبيّة، كانت غير مسلّحة في بداياتها.

"الحضارة في مواجهة الهمجيّة"، غطاء لتنفيذ عقيدة التهجير من قطاع غزّة، ثمّ سكّان الضفّة الغربيّة، من خلال إطلاق يد المستوطنين مدعومين من الجيش لتحويل حياتهم إلى جحيم لحثّهم على هجرة وطنهم.

تجاهلت حكومات إسرائيل المتعاقبة قرارات الشرعيّة الدوليّة مدعومة من أعتى القوى العالميّة، قوى التحضّر الّتي تقودها أميركا الّتي دمّرت العراق، وقتلت حوالي مليون إنسان باسم "الحضارة في مواجهة الهمجيّة".

استهترت حكومات إسرائيل بقرارات الأمم المتّحدة سابقًا ولاحقًا بالقرار الّذي صدر قبل أيّام قليلة، الّذي بادرت له 22 دولة عربيّة، وأيّدته 120 دولة، والداعي إلى وقف إطلاق النار كهدنة إنسانيّة، فوصف سفير إسرائيل جلعاد أردان هذا القرار بأنّه "يوم شائن لهذه الهيئة الّتي لم تعد تتمتّع بأيّ شرعيّة"! ثمّ يردّون على كلّ اقتراح يدعو لإتاحة دخول مساعدات إنسانيّة وتجنّب قتل المدنيّين بمزيد من الغارات على المباني السكنيّة والتهديد بقصف مستشفيات، بعد مجزرة قصف المعمدانيّ.

ما زال لدى نتنياهو وحكومته أمل في تحقيق الحلم القديم بتهجير سكّان قطاع غزّة إلى سيناء، وهذه المرّة تدعمه أمريكا بكامل جبروتها وقوّتها، والشعب في قطاع غزّة يعلنها الشهادة ولا التهجير، وهو ما يجري على أرض الواقع في كلّ لحظة.

إنّها حرب على الشعب الفلسطينيّ، على حقّه في تقرير مصيره بما يتوافق مع قرارات دوليّة لم تلتزم بها إسرائيل، بل هي حرب على حقّه في الحياة.

اتّخذت حكومة إسرائيل من أسر مدنيّين، وقتلهم في السابع من أكتوبر الجاري غطاء لتنفيذ حرب إبادة وتهجير لسكّان قطاع غزّة، وها هي حكومته ترفض استقبال المدّعي العامّ في المحكمة الجنائيّة الدوليّة.

لقد استغلّ نتنياهو أسر ومقتل مدنيّين بما فيهم كبار في السنّ وأطفال ليحقّق حلمه، فدعا العالم إلى دعشنة حماس،

لينضمّ إليه وبسرعة كلّ أولئك المصابين بالإسلاموفوبيا، ومنهم عرب ومسلمون يتّخذون من محاربة الإرهاب غطاء لقمع معارضيهم وللتواطؤ مع الاحتلال دون اعتبار لحقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره.

كلّ من لديه ذرّة من الإنسانيّة يدرك أن قتل المدنيّين أو أسرهم، وخصوصًا الأطفال والنساء والمسنّين، هو عمل مرفوض، من أيّ طرف كان، فالغاية الشريفة تتحقّق بالوسيلة الشريفة مهما بلغ المعتدي والمحتلّ في ظلمه وبطشه.

وآخر من يحقّ له التحدّث في الأخلاق هو من يحتلّ أرض الآخرين واغتصاب حقوقهم، هو أعلى درجات الإرهاب، وهو المؤسّس الأوّل للإرهاب.

بعد مقتل حوالي عشرة آلاف من المدنيّين الفلسطينيّين أكثر من نصفهم من الأطفال، لم تحرّك الحضارة ساكنًا، وما زالت تؤيّد استمرار حرب الإبادة، وبحياء شديد وفقط كضريبة كلاميّة يهمسون ما همس به وزير خارجيّة بريطانيا، جيمس كليفري "نتوقّع من إسرائيل الالتزام بقوانين الحرب"، يعني هو يتوقّع، ولكنّه حتّى الآن لم ير جرائم الحرب. الحضارة صارت تعني بالضبط عكس معناها، فمن يميّز بين دم طفل وطفل وإنسان ما زال بعيدًا جدًّا عن ما يمكن أن يسمّى أولى خطوات في الحضارة.

نكبة جديدة ارتكبت وترتكب بحقّ الشعب الفلسطينيّ وبحقّ الإنسانيّة تحت رعاية "الحضارة في مواجهة الهجميّة".

لقد جلبت سياسات رفض الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينيّ كوارث على شعوب المنطقة كلّها منذ النكبة الأولى إلى اليوم، واستمرار جرائم الحرب الجارية حاليًّا الّتي قد يعتبرها البعض حسمًا للصراع، هي في الواقع المخزون الجديد من العداء والحروب للأجيال القادمة.

التعليقات