31/12/2023 - 18:55

ضوء من آخر النفق...

تغطرس نتنياهو في خطابه في الأمم المتّحدة قبل عمليّة السابع من أكتوبر بأسابيع قليلة، وتعمّد تجاهل أيّ ذكر لكيان أو وجود فلسطينيّ في خريطته للشرق الأوسط الجديد، وبشر لتحالف إسرائيل مع الدكتاتوريّات العربيّة...

ضوء من آخر النفق...

نفق في قطاع غزّة (Getty)

"لقد خضنا حربًا عسكريّة؛ خاض خصومنا معركة سياسيّة. سعينا للاستنزاف الجسديّ. كان خصومنا يهدفون إلى إنهاكنا النفسيّ. وفي هذه العمليّة فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسيّة لحرب العصابات: إنّ حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر. والجيش التقليديّ يخسر إذا لم ينتصر".

هنري كسنجر، "مفاوضات فيتنام"، كانون الثاني/ يناير 1969، مقالة في مجلّة "فورين أفيرز"

الضيف والسنوار وتهديدهما المباشر لإسرائيل

يوم 14 كانون الأوّل/ ديسمبر من العام 2022، حذّر يحيى السنوار الحكومة الإسرائيليّة في احتفال بمرور 35 عامًا على تأسيس حركة حماس غزّة، من عدم إتمام صفقة تبادل أسرى. وقال إنّ "حماس أدارت في الفترة الماضية جولات تفاوض سرّيّة مع الاحتلال حول ملفّ الأسرى"، وأمهل إسرائيل "وقتًا محدودًا لإتمام صفقة تبادل الأسرى، وإلّا سنغلقها للأبد"، وأضاف أنّ الحركة "ستجد طريقة أخرى لتحرير الأسرى الفلسطينيّين".

وقال القائد العامّ لكتائب عزّ الدين القسّام، محمّد الضيف، في كلمة مسجّلة في الاحتفال إنّ القيادة الإسرائيليّة فشلت -وهي في قمّة قوّتها- "في استئصال الشعب الفلسطينيّ وطمس هويّته"، وأضاف أنّ القيادة الإسرائيليّة الحاليّة "هي أعجز وأجبن" من أن تنجح حيث فشلت القيادة المؤسّسة لإسرائيل، داعيًا إلى أن "تتوحّد كلّ الرايات، وتلتئم كلّ الجبهات، وتفتح كلّ الساحات لتحرير فلسطين لهدف واحد وغاية كبيرة مقدّسة، وهي تحرير فلسطين".

في سياق الحديث عن محمّد الضيف، لا بدّ ولو لمرّة من العودة إلى كلمته المسجّلة في صباح السابع من أكتوبر، الّذي وضع فيها سياق العمليّة بأنّ إسرائيل لا تلتزم بالقانون الدوليّ والقرارات الدوليّة، وشدّد على مركزيّة قضيّة الأسرى، وأنّ أحد أهداف العمليّة هو العودة للثورة والتحرير، ولإنهاء الاحتلال الأخير في العالم، كما قال.

شرق أوسط جديد

يوم 22 أيلول/ سبتمبر الماضي، أي قبل أسابيع قليلة من عمليّة السابع من أكتوبر، خاطب بنيامين نتنياهو الهيئة العامّة للأمم المتّحدة، وقال "إنّنا على عتبة اتّفاقيّة سلام تاريخيّة مع السعوديّة"، وأنّه "يجب ألا نعطي الفلسطينيّين حقّ النقض على اتّفاقيّات السلام مع الدول العربيّة".

في الخطاب ذاته، عرض نتنياهو صورة لما أسماه "الشرق الأوسط الجديد"، شاطبًا الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 منها، أي الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة المحتلّتين، وقال إنّ "الممرّ الواصل بين الهند وأوروبا، يمثّل تحوّلًا تاريخيًّا بالنسبة إلى بلادي"، وإنّ "إسرائيل كانت بلدًا معزولًا عن محيطها عام 1948، أمّا الآن؛ فخريطة الشرق الأوسط ستتغيّر تمامًا بالنسبة لنا"، وأنّه "سنبني ممرًّا جديدًا من السلّم والرفاه بين آسيا وأوروبا، مرورًا بالإمارات والأردنّ".

تغطرس نتنياهو في خطابه في الأمم المتّحدة قبل عمليّة السابع من أكتوبر بأسابيع قليلة، وتعمّد تجاهل أيّ ذكر لكيان أو وجود فلسطينيّ في خريطته للشرق الأوسط الجديد، وبشر لتحالف إسرائيل مع الدكتاتوريّات العربيّة.

قيل مرّة في حملة انتخابيّة لليكود إنّ "نتنياهو جيّد لليهود". هل يكرّرونها؟ أستبعد.

الحوت والطوفان

"نظريّتان" تحاولان تفسير عمليّة السابع من أكتوبر؛ الأولى، مثل رواية "العجوز والبحر" لإرنست همنجواي، تقول إنّ كتائب القسّام أرادت صيد سمكة فاصطادت حوتًا، أي أنّها حقّقت نجاحًا لم تخطّط له أو توقّعته؛ والثانية، أنّ حجم العمليّة كان مخطّطًا، فالموضوع ليس الحوت، بل الطوفان. ما بعد الطوفان ليس كما قبله على الإطلاق، وأنّ العمليّة هي عمليّة إستراتيجيّة تسقط الحصار عن القطاع، وتزيل ثقل إدارة أكبر مخيّم لاجئين في العالم، أو في التاريخ عن ظهر القسّام، وتعيد إسرائيل إلى حجمها في المنطقة العربيّة، وتعيد النضال الفلسطينيّ إلى صفته الأولويّة، كتحرّر وطنيّ وليس مجرّد فصائل مقاومة في قطاع ضيّق ومحاصر، وسلطة سياسيّة (ليست سياديّة) في أرض محتلّة.

والأرجح، يقولون في غزّة، إنّ السابع من أكتوبر سيحوّل حماس من حركة دعويّة في تأسيسها لها ذراع مقاوم، إلى حركة تحرّر أو تحرير، وإنّ عمليّة السابع من أكتوبر كانت أكبر عمليّة مقاومة مسلّحة، أي أنّ العمل المسلّح بلغ ذروته وبذلك سيتغيّر شكله، وكذلك خطاب الحركة السياسيّ.

حقيقة، بدأ ذلك بالحصول في أيّار/ مايو 2021، عندما أطلقت القسّام صواريخ باتّجاه القدس، بعدما هدّدت إسرائيل بذلك إذا لم توقف اعتداءاتها على الأقصى، وبذلك وسّعت دورها و"مناطق نفوذها، من كتائب مقاومة تدافع عن القطاع، إلى ما هو أوسع، الدفاع عن القدس والأقصى. وهذا منطق يقول إنّ حصر المقاومة وهمومها في القطاع ينفي بالنسبة إليها مسألة التحرير. صحيح أنّ القطاع اعتبر مرّة "منطقة محرّرة" بعد الانسحاب الإسرائيليّ، لكنّ حصاره اشتدّ وبات خانقًا، وإسقاط الحصار ولو بالأثمان الإنسانيّة الكبيرة وبخسارة حماس "للحكم" في القطاع، يعني الانتقال من مستوى المقاومة إلى مستوى آخر، أو مرحلة أخرى طويلة نسبيًّا، ولكنّها ليست بعيدة، وهي مرحلة التحرير، بحسب منطق أصحاب الانتقال من المقاومة إلى التحرير.

السياسيّ والعسكريّ... غصن الزيتون والبندقيّة

منطق وحسابات العسكريّ تختلف عن منطق وحسابات السياسيّ. يختلفان لكن يتقاطعان. يكمّل أحدهما الآخر. يمهّد الأوّل للثاني. يبني الثاني الأوّل. لكن في الثورات وحركات التحرّر قد تختلط الأمور، وهذا خطير، خصوصًا إذا ما كانت التضحيات جسيمة.

معضلة فلسطينيّة عبّر عنها ياسر عرفات، حيث قال أمام الهيئة العامّة للأمم المتّحدة مرّة (13 تشرين الثاني 1974): "جئت إليكم وأنا أحمل غصن زيتون في يدي، وفي اليد الأخرى أحمل بندقيّة الثائر، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي".

المشكلة أو المعضلة عندما يحمل الشخص ذاته غصن الزيتون وبندقيّة الثائر، سيضطرّ إلى أن يسقط أحدهما في مرحلة ما، خصوصًا إذا ما قرّر الانتقال من زعيم شعب ثائر إلى رئيس دولة، لكن في ذاك الزمان كان يصحّ ذلك، في زمن الحرب الباردة وحركات التحرّر الوطنيّ.

تجري في غزّة صياغة جديدة لهذه المعادلة المعضلة، ولا نعرف ماذا سينتج منها، ولا يجوز التخمين والتقدير في وقت الحرب والناس تقتل؛ لكن تجري هذه الأيّام مقارنة بين الأداء العسكريّ والأداء السياسيّ، ليس على صعيد حركة حماس تحديدًا، بل فلسطينيًّا عمومًا.

في أوّل سطر في هذا المقال، قال كسنجر في اقتباسه عن حرب فيتنام: "لقد خضنا حربًا عسكريّة؛ خاض خصومنا معركة سياسيّة...".

اقرأ/ي أيضًا | نفق غزّة

إسرائيليًّا، يخضع العسكريّ للسياسيّ، والمستوى العسكريّ يطالب هذه الأيّام المستوى السياسيّ بأفق سياسيّ. يقول لا يمكن الحديث عن نصر عسكريّ دون أفق سياسيّ. استنفدنا الأهداف. لم يبق حجر على حجر في غزّة.

كما أطال العمى الاستخباريّ الإسرائيليّ في غزّة أمد الحرب، فإنّ العمى السياسيّ يطيلها أيضًا.

التعليقات