08/04/2024 - 11:47

في وداع وليد دقّة: في الحرّيّة والسجن والشهادة

ها هو الموت يفرّق بيننا مجدّدًا تاركًا لنا من أثره أسطورة الصمود والعزّة والكرامة وسيرة الأسير الفلسطينيّ المثقّف والدارس القائد، والّتي ستحفظها وتتناقلها الأجيال، وكذلك يترك لنا من لحمه ودمه ميلاد ابنة الأربع سنوات...

في وداع وليد دقّة: في الحرّيّة والسجن والشهادة

(الشهيد وليد دقّة)

التقيته أوّل مرّة بعد أسابيع قليلة من انتخابي لعضويّة الكنيست في آذار 2013. كنت أنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر؛ حيث إنّ من الميزات القليلة لأن تكون عضوًا في البرلمان هو الحقّ في زيارة الأسرى السياسيّين بعد إجراء الترتيبات اللازمة.

كان وليد في سجن هداريم، وفي اليوم نفسه زرته وزرت معه مروان برغوثي وكريم يونس. بعد دقائق قليلة كنّا نتحدّث بانفتاح وصراحة وانسجام كامل وكأنّنا نعرف بعضنا عن قرب لسنوات عديدة. أذكر جيّدًا أنّه في طريق العودة لمع خاطر ببالي لم يغادرني منذ تلك الساعة وحتّى الآن، بالرغم من التقلّبات الّتي مررنا بها، والّتي أودت بي لكي ألتقيه لاحقًا داخل السجن أسيرًا سياسيًّا مثله.

راودني ذلك الإحساس اليقينيّ الّذي يستولي على الإنسان، ويتحوّل إلى قناعة راسخة بدون تفسير، بأنّني قد اكتسبت للتوّ صديقًا ورفيقًا سيحلّ عندي بمنزلة سامية، وستكون علاقتي به راسخة تمزج بين القناعات والقيم الوطنيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة العالية وبين الأفكار الإنسانيّة المتنوّرة.

زرته مرّات عديدة في السجن، وخلال أربع سنوات عندما كان يحظى بإمكانيّة الحديث تلفونيًّا كان يتّصل ونتحدّث لساعات طوال سواء في القضايا السياسيّة العامّة أو قضايا الأسرى وحقوقهم، وكان يعرف جيّدًا أن يستغلّ وجودي في الكنيست لإثارة ومتابعة المواضيع ذات الشأن، وكان كذلك ينقل لي قضايا شخصيّة للمتابعة لأسرى معيّنين، وكذلك لأفراد من أسرهم بحاجة لمساعدة في الخارج.

في إحدى هذه المحادثات، اتّصل وليد، وكان معي في السيّارة بعض الرفاق منهم عوض عبد الفتّاح وعزالدين بدران ومستشاري المحاميان خالد تيتي وطارق خطيب، وقد وضعت وليد على مكبّر الصوت لكي يسمعه ويتحدّث معه الجميع، وقبل أن أعرّفه على من معي، بادر يتحدّث بصوته الأجشّ من أثر التدخين قائلًا: أبو سهيلة، بالأمس كان يومًا تاريخيًّا، حاول أن تتكهّن لماذا، وكان قبل يوم قد جرى انتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتّحدة، بادر وليد قبل أن يخطر ببالي الموضوع قائلًا لا تفكّر أنّ انتخاب ترامب هو الحدث التاريخيّ، وإنّما أنّني رأيت القمر بدرًا في السماء لأوّل مرّة منذ ثلاثين عامًا. وفهمت أنّ هذا الإنجاز والحدث التاريخيّ أتيح لوليد بسبب نقله إلى سجن النقب، وفيه شروط وظروف أفضل من باقي السجون.

لن أدخل هنا في تفاصيل كيف وماذا؟ ولماذا حدث ما حدث في موضوع استغلالي للحصانة البرلمانيّة لإدخال الهواتف الذكيّة إلى داخل السجن، فسيأتي اليوم الّذي أكشف فيه ذلك (وكنت أحسب أن يكون ذلك بعد تحرّر وليد من أسره الطويل والظالم) ولكنّ حرمان الأسرى من التواصل هاتفيًّا مع أسرهم، هو انتهاك للقانون الدوليّ الإنسانيّ، وكذلك لأبسط القيم الإنسانيّة، وهو ما يضاعف من شدّة وقساوة عقوبة السجن المفروضة على الأسير. في الأشهر الأخيرة قبل ذلك، كان وليد يعاني الأمرّين من توقّف والدته عن زيارته بسبب المرض، وهي الّتي كانت مصدرًا لقوّته وصموده وعمودًا أساسيًّا تستند إليه حياته، وعلمت علم اليقين كم يستطيع تلفون ذكيّ واحد أن يجلب من فرح وسعادة واطمئنان لعشرات من الأسرى السياسيّين في القسم.

مرّت ثمانية أشهر منذ أن فارقت وليد في سجن النقب بعد اللحظات الأولى لاكتشاف الكمين الّذي نصب لي في موضوع الهواتف الّتي حاولت إدخالها للسجن يوم الأحد 18\12\2016 وحتّى لقائي به مجدّدًا في قسم رقم أربعة في سجن الجلبوع في 27\7\2017، في هذه الفترة انقلبت حياتي رأسًا على عقب، حيث تعرّضت للاعتقال والحبس المنزليّ وحملة تحريض شعواء ومحاكمة ميدانيّة من قبل المؤسّسة الإسرائيليّة، وخاصّة ماكينتها الإعلاميّة، واستقلّت من البرلمان، وبعد أشهر مضنية من التحقيق والمفاوضات حكم علي بالسجن الفعليّ لمدّة عامين، وفي هذه الفترة تعرّض وليد لإجراءات عقابيّة صارمة من قبل جهاز مديريّة السجون، حيث واجه فيها العزل الانفراديّ لأشهر في الزنازين، وبعدها حملة نقل مكثّفة بين السجون، وهي وسيلة تنكيل وعقاب شديد خاصّة، وهو يعاني من مرض صعب يضطرّه إلى العلاج في المستشفى مرّة في الشهر على الأقلّ.

وها نحن نلتقي مجدّدًا، أسيرين سياسيّين في نفس ظروف السجن القاسية الّتي يواجهها الأسرى الفلسطينيّون. كان لقاء صعبًا يختزن الكثير من المشاعر، ويعجّ بالمفارقات الرمزيّة، والّتي جعلت وليد يعاني الشعور بالذنب، وبأنّه يتحمّل المسؤوليّة عمّا حدث، ودفعته لكي يفكّر ليل نهار في تهوين وتسهيل حياتي داخل السجن.

في البداية جاء من قسمه رقم 5 في سجن الجلبوع لزيارتي، وقضينا عدّة أيّام سويّة ولم نفترق لحظة، ثمّ بعد أسابيع قليلة نجح وليد في الانتقال إلى قسمنا، وعشنا في القسم نفسه لثلاثة أشهر كاملة، كنّا نكتب ونقرأ الواحد للآخر ماذا كتب، وفي هذه الفترة كتب قصّته للأطفال سرّ الزيت. واختارت مديريّة السجون بإجراء تعسّفي أن تنقلنا سويّة إلى سجن رامون في أقصى الجنوب في صحراء النقب، وهكذا تقاسمت معه تجربة أوّل بوسطة، بما فيها العزل في خليّة العزل طيلة الطريق الّتي استمرّت ثلاثين ساعة، بما فيها الانتظار في الزنازين والأقفاص، وكذلك النوم في المعبر. وكانت أكثر اللحظات المشحونة في رحلة العذاب هذه عندما مرّت البوسطة في شارع رقم 6 بموازاة بلدة وليد باقة الغربيّة، فوقفنا مقيّدين باليدين والرجلين، ومن خلال الطاقة الصغيرة في خليّة العزل، شرحت لوليد بعض معالم بلده الّتي لم يرها منذ دخل السجن قبل 32 عامًا.

في سجن رامون في صحراء النقب فرّقوا بيننا، ولم نلتق بعدها، وكنّا منذ تلك اللحظة على موعد للقاء آخر فيه طعم الحرّيّة المشتهاة، ولكن ها هو الموت يفرّق بيننا مجدّدًا تاركًا لنا من أثره أسطورة الصمود والعزّة والكرامة وسيرة الأسير الفلسطينيّ المثقّف والدارس القائد، والّتي ستحفظها وتتناقلها الأجيال، وكذلك يترك لنا من لحمه ودمه ميلاد ابنة الأربع سنوات، ابنته وابنة سناء زوجته ورفيقة دربه. امض يا رفيقي وليد في طريق الشهادة والخلود، وستبقى حنايا القلب منزلك الدائم.

التعليقات