"بوّابة أقسى من السجن"، أو "حكاية معبر رفح"

"عاجل: فتح معبر رفح"، ربّما هذا الخبر أكثر ما يشغل اهتمام الإنسان في قطاع غزّة؛ فالقطاع يعيش منذ إحدى عشرة سنة في حالة حصار مستمرّة، وربّما يكون المكان الوحيد في العالم الّذي يعاني فيه الغزّيّ تقييدَ حرّيّات الحركة والتنقّل

معانةٌ كبيرة للغزيين في معبر رفح (أ ب أ)

"عاجل: فتح معبر رفح"، ربّما هذا الخبر أكثر ما يشغل اهتمام الإنسان في قطاع غزّة؛ فالقطاع يعيش منذ إحدى عشرة سنة في حالة حصار مستمرّة، وربّما يكون المكان الوحيد في العالم الّذي يعاني فيه الغزّيّ تقييدَ حرّيّات الحركة والتنقّل، بهذا الشكل المذلّ، سواء داخل فلسطين المحتلّة أو خارجها.

لماذا لم تُحلّ الأزمة؟

ولهذا المجهول المسمّى غزّة بوّابتا خروج: معبر بيت حانون "إيرز"، ومعبر رفح البرّيّ، الأوّل تحت السيطرة الإسرائيليّة، وحتّى يسافر المرء من خلاله؛ يحتاج إلى وقت طويل بذريعة الفحص الأمنيّ، الّذي قد تصل مدّته مئة يوم، إلى أن يصدر تصريح المرور الإسرائيليّ، هذا بعد أن يؤمّن واسطة في الشؤون المدنيّة التابعة للسلطة الفلسطينيّة، تيسّر له الأمر. أمّا المعبر الآخر الّذي شُيِّد بعد الاتّفاق المصريّ الإسرائيليّ للسلام سنة 1979، فخضع للسيطرة الإسرائيليّة، لكن بعد الانسحاب الإسرائيليّ من قطاع غزّة عام 2005، نُقلت إدارة المعبر إلى السلطة الفلسطينيّة بإشراف أوروبّيّ -وفق اتّفاقيّة المعابر عام 2005- وقد أُغلق المعبر تمامًا، بعد سيطرة حركة "حماس" على القطاع، في أحداث الانقسام الفلسطينيّ عام 2007، وأُعيد افتتاحه بعد الثورة المصريّة عام 2011، ستّ ساعات يوميًّا، أمّا بعد الانقلاب العسكريّ في مصر عام 2013، حتّى اليوم، فالصفة العامّة للمعبر الإغلاق، إلّا في الأيّام الاستثنائيّة الّتي يُفتح بها بعد ضغوط من جهات محلّيّة أو دوليّة.

وكانت مأساة المعبر مبرَّرة من الجانب المصريّ، بسيطرة "حماس" على الجهة الفلسطينيّة من المعبر. لكن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، سلّمت حركة "حماس" إدارة المعابر لحكومة الوفاق الوطنيّ الفلسطينيّ؛ فلماذا لم تُحلّ الأزمة؟ وفي أيّار (مايو) 2018، أعلن الرئيس المصريّ عبد الفتاح السيسي استمرارَ فتح معبر رفح البرّيّ، وما زال المعبر يعمل إلى اليوم ... فهل بهذا القرار؛ أصبح المواطن الغزّيّ يمارس حقّه في التنقّل، ويتمكّن من السفر كباقي البشر في العالم؟ وهل المعبر مفتوح بصورة حقيقيّة؟ وإن كان كذلك؛ فلِمَ لا يتمكّن الناس من السفر؟

بورصة التنسيق

تجربة سفر الإنسان الغزّيّ تختلف عن أيّ تجربة أخرى، حتّى صارت كلمة "سفر" مجرّد حلم، ولا سيّما لجيل التسعينات، الّذي لم تحظَ غالبيّته بفرصة السفر. الإنسان العاديّ في العالم، حينما ينوي السفر، يُعِدّ حقيبته ويذهب إلى المطار الأقرب إليه، وإذا استدعى الأمر، يكون قد قدّم لتأشيرة البلد المتّجه إليه، والأمر برمّته لا يستغرق كثيرًا من الوقت، سوى الإجراءات الروتينيّة للسفر، أمّا في غزّة، فعليك إمّا أن تدفع مبلغًا كبيرًا (تنسيق)، وإمّا أن تنتظر مدّة - قد تصل السنة تقريبًا - حتّى يُعلَن اسمك في كشوفات سفر وزارة الداخليّة التابعة لحركة "حماس"، وقد يُعلَن اسمك بعد أن تكون تأشيرتك قد انتهت مدّتها، أو خسرت منحتك الدراسيّة، أو فاتك المؤتمر الّذي أردت السفر من أجله، وليس غريبًا أن تجد اسمك في أحد الكشوفات، بعد سنة أو شهر من تاريخ مغادرتك، كما حدث معي.

عندما قرّرت السفر وأصدقائي، كان الأمر أشبه بقصص التهريب وقطْع الحدود، فحتّى نسافر عن طريق تسجيل الكشوفات؛ سننتظر وقتًا طويلًا، ولن يفلح الأمر؛ لذا فالحلّ في دفع مبلغ تنسيق... وكنّا نبحث عن منسّق ونراقب الأسعار، مثلما يقف الناس على شاشات "البورصة"؛ فالسعر في اللحظة ليس كما في سابقتها. غادرتُ يوم 11 أيّار (مايو) 2018، ودفعت مبلغ تنسيق 1200$ لأحد المكاتب، وفي اليوم التالي صار المبلغ الدارج 1600$، وثمّة مَن يدفع مبالغ تصل 4000$ عن الشخص الواحد، مثلًا: أعرف شخصًا ينتمي إلى "حماس"، وجرّب السفر مرّات عدّة بطريقة التنسيق، حتّى وصل المبلغ الّذي دفعه 3000$، لكن بلا جدوى؛ فالمخابرات المصريّة ترفض السماح له بالمرور، حتّى عرض عليه أحدهم أن يحلّ له المشكلة، من خلال ضابط مصريّ مقابل عشرة آلاف دولار!

والتنسيق - باختصار - مبلغ يدفعه المسافر رشوةً؛ مقابل السماح له بالسفر، كما كانت القافلات في زمان مضى، تقدّم شيئًا من بضاعتها لقُطّاع الطرق؛ ليتسنّى لها المرور، وتذهب الحصّة الكبرى من المبلغ لضبّاط المخابرات المصريّة، والجزء الأقلّ للشخص الّذي يتواصل معهم من غزّة.

ظروف المعبر قاسية على الكبار والصغار (أ ب أ)

كيف يجري التنسيق؟

قبل سنوات، كانت مسألة التنسيق تجري بالسرّ، مثل بيع المخدّرات، لكن الآن - بعدما انكشفت الأمور، وبان المستفيدون من الأمر - أصبح الأمر يجري مشاعًا، من خلال مكاتب السفريّات في غزّة، أو عبر الإعلانات على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بعلم حكومة "حماس" في غزّة وموافقتها؛ الأمر الّذي يثير سؤالًا أيضًا!

يُترَك مبلغ التنسيق عند مكتب أعمال صرافة معروف، وبعد أن يوضع ختم الخروج على جواز السفر، يتّصل المسافر بالمكتب ليتسلّم الأخير المبلغ. ثمّة جهتان رئيسيّتان يكون التنسيق من خلالهما: جهاز المخابرات الحربيّة والمخابرات العامّة المصريّة. أمّا من ناحية إجرائيّة، فثمّة تنسيق عامّ، وتنسيق الصالة المصريّة، الأوّل يتكفّل بكلّ شيء، ويمنح مدّة شهر إقامةً في مصر، حتّى لو لم يكن ثمّة مسوّغ للسفر - كتحويلة طبّيّة أو تأشيرة سفر لبلد آخر - فالسفر لغرض السياحة رفاهية غير مسموح بها للمواطن الغزّيّ. أمّا الآخر فهو الّذي يكون سعره أقلّ؛ لأنّ المسافر يكون قد قطع نصف الطريق، ووصل الصالة المصريّة في الجهة الأخرى من المعبر؛ وذلك إمّا من خلال أن يكون اسمه قد ظهر في الكشوفات، وإمّا بدفع مبلغ لشخص يعمل في داخليّة "حماس"؛ لتقديم اسمه وإدراجه في كشف المسافرين.

وفي المتوسّط، يسافر قرابة الستّين شخصًا بطريقة التنسيق يوميًّا، ولو دفع كلّ واحد 1500$، وبحساب بسيط، لكان إجماليّ اليوم 90 ألف دولار أمريكيّ؛ أي أكثر من مليون ونصف مليون جنيه مصريّ - غير الأيّام العديدة، الّتي قد يصل عدد المسافرين فيها بطريقة التنسيق 200 شخص - ناهيك عن أنّ السلطات المصريّة ترفض استقبال أيّ مسافرين عاديّين، ما لم يجرِ إدخال باص التنسيقات أوّلًا؛ ولك أن تستخدم الحاسبة على مهلك؛ لترى إجماليّ المبالغ الناتجة عن هذه التجارة، خلال الشهور الّتي يعمل فيها معبر رفح!

الصالة المصريّة: بورتريه لسجن غزّة

سُجّلت أطول رحلة طيران في العالم، بنحو 18 ساعة - لمسافة 9032 ميلًا - بين أوكلاند النيوزيلنديّة والدوحة القطريّة، لكنّ سفر 216 ميلًا، من غزّة إلى القاهرة، يستغرق ثلاثة أيّام!

في يوم سفرنا، ذهبنا إلى "صالة أبو يوسف النجّار" في خانيونس، عند الثامنة صباحًا، حيث تجري عمليّة فرز الأسماء، ما بين كشوفات وتنسيقات، ومن هناك تقلّنا الباصات إلى معبر رفح.

تستغرق الإجراءات في الصالة الفلسطينيّة حوالي ساعة، ثمّ نتّجه إلى الصالة المصريّة، ونسلّم جوازات السفر، وكنّا قد دخلنا الصالة المصريّة - وهي صالة انتظار المغادرين - عند العاشرة صباحًا، وما إن يدخل المسافرون، حتّى يهرع كلّ واحد لحجز مكانه؛ لأنّه سيقضي هنا 24 ساعة على الأقلّ، وخلال هذا الوقت كلّه، لا يفعل المرء شيئًا غير الانتظار، وسبّ الوضع الفلسطينيّ والذلّ، بينما يرى الناس يفترشون البلاط كأعقاب السجائر، ومشهد كبار السنّ حين يصرخ بهم جنديّ مصريّ في غرف التحقيق... وكأنّ على الفلسطينيّ أن يتجرّع مرارة الإحدى عشرة سنة من الحصار مرّة واحدة؛ حتّى لا يفكّر في الرجوع أبدًا.

عند السادسة مساءً، في اليوم اللاحق - أي بعد 30 ساعة داخل الصالة - بدأ الضابط بالنداء على أسمائنا، ورمي الجوازات في الهواء، ويلتقط كلّ مسافر جوازه عن الأرض ويمضي، وثمّة مَن ينتظر كلّ هذا الوقت، ثمّ يُرفض دخوله إلى الأراضي المصريّة.

(أ ب أ)

الطريق إلى القاهرة

من المفترض ألّا تستغرق الرحلة ستّ ساعات، لكن بسبب الحواجز تطول الطريق، وقد تستغرق ثلاثة أيّام. في طريق العودة، يصل عدد الحواجز العسكريّة أحد عشر حاجزًا، ويُفتَّش المسافر وحقائبه في كلّ حاجز، ولو كان لا يبعد عن الآخر سوى كيلومتر واحد، ومع ذلك تُنزَّل الحقائب وتُفتَّش مرّة أخرى، ويصادَر ما يحلو للجنود، من هواتف وعطور وساعات وسجائر. ومن الحواجز الّتي لا ينساها الغزّيّ "حاجز المعديّة"، و"حاجز الريسة"، وكلّ منهما يُعرَف لدى الجنود المصريّين باسم "حاجز الغزازوة".

هل تعلم الحكومة المصريّة بكلّ هذا الفساد؟... أم تتعمّد إذلال الغزّيّ بطرق شتّى؟

مع الأسف، ما زال سوء الحظّ يلازم الفلسطينيّ الّذي يعيش في غزّة؛ فهو يتجرّع المعاناة حتّى عندما يحاول الهرب أو النجاة؛ وعلى العالم أن يعرف هذه الحقائق الّتي لا مراء فيها، حتّى لا يُعتقَد أنّه بمجرّد إعلان فتح معبر رفح؛ فقد أُزيل الحصار عن قطاع غزّة، وأنّ الغزّيّ - إلى اليوم - ما اعتُرف به إنسانًا، لا في الداخل، ولا في الخارج.

التعليقات