أولوية السياسة

يبدأ الإيمان بالسياسة من الإيمان بقدرة الفرد على تغيير مصيره وعدم التسليم بالواقع، بغض النظر عن الجواب على السؤال التاريخي من يسبق من، هل تسبق الحرية الوعي الفردي أم العكس

أولوية السياسة

في أن السياسة هي أولوية، وهي تجسر الهوة بين القيم الأخلاقية والواقع، مثلما تجسر الثقافة الهوة بين الأفكار والناس، ومن دون سياسة يتحول العمل من أجل تحقيق الحرية والمساواة أو العدالة إلى تخصص، بحيث تبحث المرأة بقضايا المرأة، والعربي بقضايا العرب، والشاعر بقضايا الأدب، لدرجة أن تختلط الذات بالموضوع، وتتحول القضية التي يجري النضال من أجلها إلى هوية وتخصص ونمط حياة، أو إلى ترف ونجومية.
 
تحولت السياسة في العقود الأخيرة في ظل النيوليبرالية وهيمنة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي إلى شتيمة، وكأنها شيء مقزز يجب تجنب ذكره، وتراجعت السياسة إلى تخصصات وجمعيات وصناديق تمويل، على حساب الحزب والحركة السياسية والمقال السياسي.

وإذا كانت السياسة في السابق تتطلب تضحية وشجاعة والكثير من الوقت، فقد باتت في يومنا مجرد أداة جوفاء خالية من المضامين والمواقف المبدئية والأخلاق، وقد تفرعت إلى اتجاهين، أولا النجومية الضحلة أو التخصص المتخصص بذاته.

وإذا كانت السياسة في السابق تعني النضال ونكران الذات والعمل الجماعي وتستدعي جهدا كبيرا، فقد تحولت اليوم إلى نجومية لا تستدعي جهدا ولا رصيدا حقيقيا، بل إلى ميزانية للعلاقات العامة والترويج.

لكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، حتى جرى خصخصة السياسية إلى جمعيات وجماعات ضغط وتخصصات أكاديمية. فمثلا تحولت قضايا المرأة النضالية إلى تخصصات أكاديمية وكأنها علم بحد ذاته. وإذا كان الفقر في السابق في صلب النضالات السياسية، فقد تحول اليوم إلى جمعيات خيرية وإحصائيات وأرقام يتلاعب بها الخبراء بـ"الاقتصاد".

ومع تأزم السياسة وفشلها في حل الأزمات العميقة للمجتمعات وتراجع شعبية العمل السياسي التقليدي، جرى الإمعان في التخصصات من جهة والشعبوية من جهة ثانية؛ التكنوقراط من جهة ونجوم السياسة الشعبوية (اليمين) من جهة أخرى.

كيف يكون التخلص من ذلك واستعادة أولوية السياسية؟ توجهت القوى اليسارية والليبرالية إلى التمترس خلف مؤسسات المجتمع المدني لمواجهة فشلها السياسي، وعجز خطابها عن التواصل مع الناس. وتمترسها هذا زادها بعدًا عن الناس وواقعهم، بل تحول إلى تخصص متعال على الناس وواقعهم، وصار السؤال لماذا يميل الناس إلى تأييد من يقومون بإفقارهم بسياسات اقتصادية نيولبرالية؟ لماذا يصوت الفقراء لليمين؟ بدلا من التساؤل ماذا قدمنا نحن لهؤلاء الناس؟ قدمنا لهم خبراء أغنياء بالفقر، يناقشون الفقر في مؤتمرات أشبه بنوادي الأصدقاء بدلا من النضال بالشارع، أي غادرنا السياسة وتركناها للـ"خبراء" والتكنوقراط، وإذا ناضلنا يتحول نضالنا إلى عبء عليهم لأنه نضال فلكلوري يحاول استعادة ماض ثوري مجيد متخيل، لم يكن قائما في يوم من الأيام كما هو متخيل، وهو نضال غير مؤسس له فكريا وعقائديا، بل هو حالة نوستالجية لا تتجاوز شعاراته أبيات أغاني الشيخ إمام ومحمد فؤاد نجم، أي أنه حالة رومانسية غير مؤسس لها بعمق على أرض الواقع ولا بالفكر. أو في حالات أخرى يكون محاولة استنساخ تجارب نضالية غربية لها خصوصيتها وواقعها وناسها.

يبدأ الإيمان بالسياسة من الإيمان بقدرة الفرد على تغيير مصيره وعدم التسليم بالواقع أي اللاحتمية، بغض النظر عن الجواب على السؤال التاريخي من يسبق من، هل تسبق الحرية الوعي الفردي أم العكس؛ فإذا كنت ممن يعتقدون أن الحرية تسبق الوعي الفردي فيعني أن النضال من أجل الحرية هو سياسي بالدرجة الأولى

هذا هو حال السياسة اليوم، تركت للاختصاص والاحتراف والتفرغ الحزبي والحركي الذي تحول لجماعات مصالح هدفها المحافظة على الوضع القائم بدلا من الاجتهاد الفكري والميداني والانفتاح على الناس والأجيال الناشئة.

ما العمل إزاء هذا الواقع؟ أولا عدم تعالي النخب على العمل السياسي المباشر (بعض هذه النخب لا تتردد في خوض السياسة من باب الانتخابات العائلية المحلية مثلا)؛ ثانيا أن تحسم الحركات السياسية والحزبية أمرها. هل تريد أن تكون حركات صغيرة أشبه بنوادي أصحاب الهوايات النادرة، أم حركة سياسية جماهيرية منفتحة على المجتمع، أي أحزاب فاعلة بالمجتمع، أم حركة شعبية واسعة غير عقائدية تتسع لكل التيارات والألوان؟

من دون ذلك، سيبقى العمل السياسي ومجتمعنا عموما مشوها، لأن لا مجتمع من دون أحزاب وعمل سياسي منظم وصحافة سياسية. ولا يمكن النضال من أجل حقوق الأقليات أو حقوق المرأة مثلا من دون سياسة، ولا يمكن النضال من أجل البيئة من دون سياسة، ولا النضال من أجل العدالة الاجتماعية من دون سياسة، ولا يمكن إنتاج ثقافة وطنية من دون سياسة. 

العزوف عن السياسة هو هروب من مواجهة الواقع يلامس حدود العدمية، وكأن الناس أو الفرد لا قدرة لهم على تحديد مصيرهم. يبدأ الإيمان بالسياسة من الإيمان بقدرة الفرد على تغيير مصيره وعدم التسليم بالواقع أي اللاحتمية، بغض النظر عن الجواب على السؤال التاريخي من يسبق من، هل تسبق الحرية الوعي الفردي أم العكس؛ فإذا كنت ممن يعتقدون أن الحرية تسبق الوعي الفردي فيعني أن النضال من أجل الحرية هو سياسي بالدرجة الأولى، وإذا كنت ممن يعتقدون بأسبقية الوعي الفردي، فإن تغيير هذا الوعي وسياقه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي يعني أولا وقبل كل شيء السياسة.

مهما كان التخصص "النضالي" علميا ومستقلا، فإنه يبقى محدود المفعول من دون سياسي. وأحد أسباب تراجع الديمقراطية الليبرالية الخطير في عالمنا اليوم هو عزوف الناس عن السياسة والمشاركة السياسية، وتسليمها لاختصاصيين وخبراء.

لنعد الأولوية للسياسة.

اقرأ/ي أيضًا | مقاعد وعقائد

التعليقات