ثورة يناير: إلهام وعبر

مثل كل عام، "يحتفى" بذكرى ثورة يناير المصرية بالكثير من الرومانسية واستذكار "الأمل" الذي دبته في وعي ووجدان العرب، الذين شهدوا حدثا تاريخيا طال انتظاره ببث حي. ولا بأس في ذلك، ولكنه لا يكفي لأنه لا يتجاوز العاطفة والحنين

ثورة يناير: إلهام وعبر

مثل كل عام، "يحتفى" بذكرى ثورة 25 يناير المصرية بالكثير من الرومانسية واستذكار "الأمل" الذي دبته في وعي ووجدان العرب، الذين شهدوا حدثا تاريخيا طال انتظاره ببث حي. ولا بأس في ذلك، ولكنه لا يكفي لأنه لا يتجاوز العاطفة والحنين، ولا يقدم مراجعة عقلانية لهذه التجربة التاريخية الهامة والمفصلية في تاريخ العرب. فإذا كانت ثورة يناير إلهاما، فما هي العبر؟

المطلوب هو المراجعة والاستفادة من عِبَر ثورة 25 يناير السياسية والحزبية، لا على مستوى مصر فحسب، بل على مستوى العمل السياسي في كل العالم العربي، بما في ذلك ههنا في الداخل. والمراجعة والاستفادة لا تكونان بسبّ الاستبداد أو العسكر أو الدولة العميقة (وهو مصطلح إشكالي لا مكان هنا لتناوله)، بل من خلال مراجعة دور القوى التي أطلقت الثورة ودور الأحزاب التقليدية فيها وموقفها منها، إذ تبيّن لاحقا أن عوامل إحباط الثورة، في جزء كبير منها، هي عوامل ذاتية، أبرزها التعويل على القوات المسلحة من قبل نخب قوى يسارية وناصرية وليبرالية لمواجهة خصم سياسي هي جماعة الإخوان.

ويمكن العودة في هذه المراجعة إلى مقال د. عمرو الشوبكي في صحيفة "المصري اليوم"، بعنوان "مصر ليست تونس"، الذي نشره يوم 16\1\2011، أي قبل أيّام من اندلاع ثورة يناير وبعد أيام من تنحي الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، وهو يعبر بشكل دقيق عن مواقف النخب الأكاديمية والإعلامية والسياسية، بما فيها المعارضة و"التقدمية" من إمكانيات الثورة، وحاول الإجابة فيه عن سؤال لماذا لن تحصل ثورة في مصر على غرار ثورة تونس بالقول "تونس بلد مجتمعها صحي ونظامها مستبد سياسيا، ومصر تعاني من استبداد سياسي أقل ولكن مجتمعها خرب، وصار يحتاج إلى معجزات لإصلاحه... تونس احتجت لأن مجتمعها ظل في حالة صحية، وبها تعليم عام ربما هو الأفضل في العالم العربي، واتحاد تونسي للشغل يدافع عن مصالح العمال من خلال مؤسسة احترمت المبادئ النقابية والمهنية حتى لو جاء على قمتها قادة يؤيدون الحزب الحاكم، أما في مصر فنحن أمام مصلحة حكومية فاشلة اسمها الاتحاد العام لعمال مصر، وتصفية للعمل المؤسسي والنقابي فأصبحت العشوائية هي السائدة، وتركت تجربة الضرائب العقارية ودار الخدمات النقابية المهنيتين المحترمتين وحدهما ’ونحن هنا قاعدون’".

لم يتردد الكاتب الأكاديمي من إطلاق تعميمات غير علمية على مجتمعه، إذ يقول إنه "مجتمع خرب". وفي الحقيقة، فإن الأسباب التي يعددها الكاتب لنفي احتمالات الثورة في مصر، هي أسباب كافية جدا للثورة. فإذا كان المجتمع "خربانا" وحاله سيئًا مقارنة بدولة عالمثالثية مثل تونس، فإن ذلك، بحدّ ذاته، سببٌ كافٍ للثورة.

وهذا التفكير هيمن، كما ذكرت، على مواقف النخب بما فيها المعارضة، التي ترى أن الثورة مستحيلة لأن "الشعب خرب"، لكن السبب الحقيقي (لاستحالة الثورة) موجود في لاوعي هذه الأحزاب والحركات، التي ترى أن إشارة الثورة لا بد أن تنطلق من عندها، لأنها ترى نفسها وصية على الثورة وتنظر إلى الشعب من برج معزول وتراه كتلا بشرية فقيرة وغير واعية.

و"الأوصياء على الثورة"، وتحديدا الأحزاب اليسارية والناصرية التقليدية، لم يدركوا بسبب تفكيرهم النمطي بأن هناك قوى غير حزبية وغير منظمة تتحرك بشكل مواز لتنظيم حدث احتجاجي كبير على تعذيب قوات الأمن لمعتقلين وعلى الانتخابات المزورة في العام 2010.

وفي كتاب عزمي بشارة "ثورة مصر" الصادر بمجلدين عن المركز العربي (الطبعة الأولى، بيروت، أيار/ مايو 2016)، تظهر مواقف القوى الحزبية التقليدية والنخب من الدعوات لمظاهرات 25 يناير، ومن بينها البيان الذي أصدره رئيس حزب التجمع اليساري، رفعت السيد، يوم 21 يناير، دعا فيه إلى رفض المشاركة في المظاهرات بزعم أنها تتزامن مع عيد الشرطة. وتظهر عقلية الوصاية الثورية، ببيان أصدره نائب رئيس الحزب الناصري، سامح عاشور، رافضا المشاركة بالاحتجاجات لأن "الحزب لا بد أن يكون صاحب المبادرة في مثل هذه الوقفات الاحتجاجية ولا ينصاع وراء وقفات احتجاجية لا يعرف منظموها الحقيقيون"، فيما نفت حركة الإخوان المسلمين أن تكون هي المنظمة لهذه الاحتجاجات وأتاحت حرية قرار المشاركة من عدمها لكوادرها "واللي عايز يشارك يشارك"، علما أن الإخوان كانوا يخشون من أن تستغل هذه الاحتجاجات لتصعيد القمع ضدها، لكنها لم تنكفئ على نفسها وتقلل من شأن منظمي الاحتجاجات، الذين كانت من ضمنهم كوادر طلابية وشبابية من الإخوان، ولاحقًا، عشيّة 25 يناير، استبدل الإخوان موقفهم وقرروا المشاركة الرمزية على مستوى القيادة ببعض الوقفات وتركوا الخيار مفتوحا للكوادر. أما السلفيون المدعومون من النظام بشكل غير مباشر، فقد اتخذوا موقفا رافضا للاحتجاجات.

وفي موازاة هذه النفسية النخبوية التي تشعر بالوصاية على الثورة والشارع، يلفت بشارة إلى تطمينات بثتها جماعات "الألتراس" من مشجعي الأهلي عبر شريط مصور بأن "فصيلا" قادرا على حماية المتظاهرين، استنادا إلى خبرتهم في مواجهة قوات الشرطة وحقدهم الكبير عليها.

وعلى الرغم من الموقف المحافظ لقيادات الأحزاب والنخب المذكورة، فإن شبابها كانوا على خلاف معها وقرر جزء كبير منهم المشاركة في اليوم الأول من الاحتجاجات، وكانوا جزءا مركزيا من منظميها، الذين اعتمدوا على وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك للتواصل فيما بينهم، وكان التواصل فعلا بين جهات مجهولة لم تكشف هويتها الحقيقية مثل وائل غنيم، "أدمين" صفحة خالد سعيد، الذي بادر للاتصال بشباب الإخوان و6 إبريل وحملة البرادعي وغيرها لتنظيم الاحتجاجات.

وخلاصة هذا العرض، أن القوى السياسية، الحزبية تحديدا، والنخب يفقدها "انغماسها" الكبير في "الواقع" و"قراءتها الموضوعية" لظرف الشارع وعدم جهوزيته "الثورية"، وشعورها بـ"المسؤولية الوطنية"، القدرة على إدراك التحركات الجوفية السياسية والاجتماعية، إلى درجة تصبح معزولة عن الواقع والناس، وذلك ربما أيضا بسبب سنوات طويلة من الملاحقة السياسية. وبما أن الناس والشارع لا ينتظرون تعليمات من الأحزاب التقليدية للانتفاض والثورة، فإن قوى شابة من داخل هذه الأحزاب وخارجها، تقدم بديلا سياسيا عمليا لمواجهة الوضع "الخرب" الذي وصل إليه المجتمع.

لكن المأساة، أن أمراض هذه القيادات تسللت إلى الأوساط الشابة الثائرة، فسرعان ما دبت الخلافات بينها حول من أطلق الثورة. والثورة المصرية مثل كل ثورة بالعالم، لم تطلقها جهة عينية محددة، بل هي تراكم ظروف موضوعية ومبادرات من عدة اتجاهات تلتقي في لحظة ثورية لا يملك أي طرف حق الادعاء بأنه صاحبها. وقد ساهمت هذه الصراعات الشبابية وانعدام التنظيم السياسي إلى جانب عوامل أخرى في وصول مصر إلى ما هي عليه اليوم، دون التقليل من الدور المركزي لقمع قوى الأمن وتحالفات قوى فترة حكم مبارك والثورة المضادة الداخلية والخارجية لوأد الثورة.

لكن المؤكد، أن الثورة أزاحت أو أنهت تلك الكيانات الحزبية والنخب التي احتكرت الوصاية على الثورة، لأن قيادات تلك الأحزاب لم تدرك اللحظة التاريخية بل تبنت مواقف محافظة أوصلتها للتحالف مع العسكر لمواجهة خصومها السياسيين، ولمواجهة أول تجربة ديمقراطية في مصر.

الثورة ليست علوما دقيقة، إذ يلفت بشارة لمقالة أستاذ الاقتصاد المصري، جلال أمين، عشية الثورة، الذي خلص إلى أن "الذي يحسم الأمر في النهاية ليس هو حاصل جمع وطرح، ولكن أمورًا نفسية يصعب قياسها، كقوة الشعور بالغضب، ودرجة عناد أصحاب السلطة، ناهيك عن مدى تأييد قوى خارجية للمتمردين في الداخل".

نزل جمهور الأهلي والزمالك والقوى الشبابية من الأحزاب وخارجها، من مدرجات المتفرجين بالملاعب ليصنعوا التاريخ، فيما بقي قادة تلك الأحزاب "الأوصياء على الثورة" والنخب أصحاب نظرية "المجتمع الخرب" جالسين على مدرجات مسرح التاريخ.

توزيع شباب ثورة يناير حسب المهن (من كتاب "ثورة مصر" - المجلد الأول)


 

التعليقات