عقد أفول النيوليبرالية؟

المهم بالنسبة لنا أن الشعوب، وتحديدًا العربية، "عادت إلى التاريخ"، وأن أكثر النماذج الاقتصادية تطورًا باتت موضع شك جدي. صحيح، كان هذا عقدًا مليئًا بالدماء والآلام، لكنه يدشن عقدًا جديدًا نتمنى أن يكون مليئًا بالآمال.

عقد أفول النيوليبرالية؟

ثورة يناير في الإسكندرية وبوستر حملة "احتلوا وول ستريت"

يتباهى منظرو النيوليبرالية بالتجربة التشيلية على أنها أكدت صدق نظرياتهم عن اقتصاد السوق الحر وارتفاع النمو الاقتصادي، لتصبح أقوى اقتصاديات أميركا اللاتينية. لكن هذا العام شكل صفعة كبيرة لأولئك، بعدما شهدت البلاد احتجاجات شعبية غير مسبوقة ضد السياسات الاقتصادية، بعد قرار الحكومة التشيلية رفع أسعار تذاكر السفر في القطارات بنسبة ثلاثة في المئة. ورفع المتظاهرون شعار "النيوليبرالية ولدت في تشيلي، وستموت في تشيلي".

وكانت تشيلي حقل تجارب للأب الروحي للنيوليبرالية، ميلتون فريدمان، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، بعد الانقلاب العسكري الذي نفذه أوغستو بينوشيه على الرئيس الاشتراكي سلفادور أليندي. وأصبحت التجربة التشيلية نموذجًا للدول النامية بأن اقتصاد السوق الحر والخصخصة يعززان اقتصاد الدول ويحقق نموًا مرتفعًا نسبيًا، لدرجة أن تشيلي أصبحت عضوًا في منظمة OECD، ويجري غالبا مقارنة "معجزة اقتصادها" بنجاح الاقتصاد الإسرائيلي في العقود الأخيرة، الذي مر بإصلاحات نيوليبرالية منذ أواسط الثمانينيات. لكن الحقيقة تظهر أن تشيلي رغم اقتصادها القوي، تتصدر إلى جانب جنوب أفريقيا وكوستاريكا قائمة الدول التي تعاني من اللامساواة ضمن دول منظمة OECD. التجربة النيوليبرالية حققت إنجازات اقتصادية بالفعل، ولكن للأثرياء الذين ازدادوا ثراءً فيما الفقراء ازدادوا فقرًا.

وكانت إحدى ادعاءات النيوليبرالية أن اقتصاد السوق الحر والمنافسة هو الضمان للنظام الديمقراطي، وأن الاشتراكية ستؤدي إلى أنظمة شمولية كما حدث في الجزء الشرقي من أوروبا. وللمفارقة، فإن أول تجربة لتطبيق النيوليبرالية خارج الولايات المتحدة كانت في ظل حكم عسكري دموي في تشيلي، وخلافًا لادعاءات منظري النيولبرالية فإنها لم تسهم بلبرلة أو دمقرطة سياسية في تشيلي بل بالعكس، ومزجت بين الحكم العسكري الدموي وأصحاب الثروات وحولت تشيلي إلى دولة تابعة.

ومن التأثيرات السلبية الجدية للنيوليبرالية على الديمقراطية، تقديس حكم الخبراء، وذلك بحجة أن الساسة المنتخبين ديمقراطيًا لا يمكنهم تحديد السياسات الاقتصادية، أولا لأنهم ليسوا خبراء في الاقتصاد؛ وثانيًا، تحركهم دوافع سياسية انتخابية مثل التعهدات للناخبين في الحملات الانتخابية. لذا دعا منظرو النيبوليبرالية إلى إعلاء شأن التكنوقراط وتحجيم دور السياسيين المنتخبين ديمقراطيًا. وهذا ما حصل في أكثر من دولة.

وأزمة النيوليبرالية في تشيلي ليست الأولى، فقد سبقها تدخل حكومي أميركي في ظل إدارة باراك أوباما لمنع انهيار البنوك وبورصة وول ستريت في العام 2008، فيما خسر الآلاف أو ربما عشرات الآلاف منازلهم بعد الأزمة المالية الكبيرة، وهو على عكس ما تدعو إليه النيوليبرالية بتقليص تدخل الدولة بالاقتصاد إلى حدوده الدنيا. كما لم تعزز النيوليبرالية من ديمقراطية أميركا، بل أفرزت الأزمة المالية خطابًا شعبويًا يمينيا يعادي مؤسسات الدولة الديمقراطية، وتوج دونالد ترامب رئيسًا لأقوى دولة في العالم. ففي الواقع إذًا، لم تعزز النيوليبرالية الديمقراطية في الدول التي طبقت فيها، بل بالعكس، فقد خلقت نظام حكم التكنوقراط، أو حكم الخبراء، الذي جعل المواطن يشعر بأن لا قيمة له في تحديد توجهات الحكم بسبب هيمنة الخبراء، أي انعدام "الإرادة الشعبية".

ولم تقتصر التأثيرات السلبية للنيوليبرالية على الداخل – داخل الدولة، بل تحولت إلى ديانة عالمية تتستر بنظريات "علمية" مدعومة من أصحاب ثروات ضخمة مثل فورد، الذي موّل أبحاث ونشاط منظري النيوليبرالية في جامعة شيكاغو وعلى رأسهم فريدمان. وهذا يؤكد في الحقيقة أن التسمية هي محاولة للالتفاف على الرأسمالية سيئة الصيت والسمعة بعد الحرب العالمية الثانية، و"زركشتها" بطروحات عن دمقرطة أنظمة الحكم، وتطوير آليات إدارة السوق.  

والنيوليبرالية ليست فقط أنها لم تعزز الديمقراطية، بل حولت الثورة المعلوماتية التكنولوجيا إلى خط إنتاج عبودية حديثة، على شكل مصانع وورش تصنيع في الدول النامية وفي مقدمتها الصين الشيوعية، التي تحولت إلى مركز تصنيع عالمي في خدمة الشركات الغربية التكنولوجية العابرة للقارات. كما عززت من سيطرة وهيمنة شركات التكنولوجيا مثل غوغل وفيسبوك على قطاعات واسعة من الاقتصاد، مثل الميديا والإعلانات، والأخطر أنها حولتها إلى نظام مراقبة وضبط عالمي، بات كل شخص في الكون معرض للاختراق والتجسس والاعتداء على خصوصيته. وهذه كلها معادية للديمقراطية والحريات.

فهذا العقد كشف أبشع ما في النيبولبرالية: حكم خبراء – تكنوقراط يقزم المواطن ويلغي عمليًا حيوية العملية الديمقراطية؛ أنظمة مراقبة متطورة واحتكار للمعلومات والميديا؛ عبودية حديثة تتجاوز الإدمان على الاستهلاك؛ حروب أهلية في الدول النامية واضطرابات سياسية كبرى.

ولم يتأخر تأثير النيوليبرالية السلبي بالظهور في انهيار أنظمة عالمثالثية، وتحديدًا في العالم العربي مع بداية انتفاضات الربيع العربي. فهذه الانتفاضات في جانب رئيسي منها كانت انعكاسا أو ردة فعل على "إصلاحات نيوليبرالية" قامت بها دول عربية منذ أواسط الثمانينات، لكن لم ترافقها دمقرطة حقيقية لنظام الحكم. واقتصرت الإصلاحات على خصخصة أملاك الدولة ونقلها إلى القطاع الخاص، الذي لم يكن خاصًا في الواقع، بل انتقلت الملكية لمقربين من الحكم. هذا ما حدث في مصر وسورية عشية اندلاع الانتفاضات الشعبية فيها.

فقد أصبحت هذه الدول رهينة لمؤسسات نيوليبرالية عالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد، وباتت تعتاش على القروض الضخمة، اليونان ولبنان ومصر مثلا، وأصبح جهاز الدولة منفوخًا وغير قادر على استيعاب الارتفاع المتزايد في البطالة. فبسبب الفساد، لم تزد الخصخصة من مدخولات الدولة، ولم تؤد إلى إصلاحات عميقة في القطاع العام، فنتج نظاما اقتصاديا مشوها وهجينا يعجز عن مواجهة الأزمات الاقتصادية وارتفاع نسب البطالة بموازاة ارتفاع نسب الشباب الخريجين من الجامعات، الذين يعجز القطاع الخاص عن استيعابهم.

هكذا بدأ العقد المنصرم. انتفاضات شعبية في دول عربية محركها الأساسي سوء الأوضاع الاقتصادية الذي رافقه تقليص الحريات السياسية وانعدام الأفق لأي حل. فلم تشهد الدول العربية دمقرطة بالحكم في موازاة لبرلة الاقتصاد، بل العكس، لبرلة اقتصادية وتضييق على الحريات (سورية نموذج واضح وموثق في مؤلفات عزمي بشارة عن الثورة السورية، وجمال باروت عن الاقتصاد السوري عشية الثورة).

لذا، الانتفاضات أو الثورات العربية جاءت في سياق أزمة النظام العالمي، إذ لحقتها بعد فترة وجيزة احتجاجات "احتلوا وول ستريت" الأميركية وأزمة مديونية اليونان والإضرابات الشعبية الضخمة، وحتى الاحتجاجات الشعبية في إسرائيل التي رفعت شعارًا شبيها لشعار الانتفاضات العربية، وهو "الشعب يريد العدالة الاجتماعية"، وهي احتجاجات على غلاء المعيشة واحتكار رأس المال في دولة تملك اقتصادًا صناعيًا وتكنولوجيا متطورًا، وفيها حريات سياسية وتبادل للسلطة. ومن الملفت أن الرئيس التشيلي الحالي يتبنى خطابًا شبيهًا للخطاب الإسرائيلي الذي يعتبرها "واحة في صحراء". فهو استخدم المصطلح ذاته في توصيف اقتصاد بلاده مقارنة مع باقي دول أميركا اللاتينية.

من المجازفة الجزم بنعي أو الحديث عن أفول النيوليبرالية، أو نعت العقد المنصرم بعقد أفول النيوليبرالية، لكن من المؤكد أن آثارها السلبية والعميقة أسقطت أنظمة ولم تعزز الديمقراطية في العالم، بل بالعكس دفعت لصعود اليمين الشعبوي المعادي لمؤسسات الدولة الديمقراطية ولحكم التكنوقراط.

المهم بالنسبة لنا أن الشعوب، وتحديدًا العربية، "عادت إلى التاريخ"، وأن أكثر النماذج الاقتصادية تطورًا باتت موضع شك جدي. صحيح، كان هذا عقدًا مليئًا بالدماء والآلام، لكنه يدشن عقدًا جديدًا نتمنى أن يكون مليئًا بالآمال.


الصور: ثورة يناير في الإسكندرية وبوستر حملة "احتلوا وول ستريت"

التعليقات