من خرافة "التأثير" إلى استرداد الوعي الأول

مهمتنا لا أن نجترّ تجربة السلطة الفلسطينية، بل أن نتعلم من دروسها الكارثية، والمساهمة في اجتراح خطاب وطني ديمقراطي تحرري إنساني، نحمله في طريقنا الطويل نحو التحرر والحرية والمساواة، ويكون هذا الخطاب هو مرجعيتنا، نحن في الداخل، في معاركنا من أجل

من خرافة

تستعر معركة الوعي مجددًا، ولن تتوقف. هذه المرة، وهي ليست الأولى التي تدور داخل صفوفنا، فلسطينيو 48، ولكنها تجري اليوم تحت عنوان جديد - نظرية التأثير. وقد تخفُّ حدتها عندما تُخيّب مؤسسة الأبرتهايد آمال الواهمين من بين ظهرانينا، أي حين يوجه مجرمو الحرب رفسة قاضية للوهم الذي يتوالد بفعل سياسات تفتقد للتوازن، تتبنّاها شخصيات تعتبر النقلة النوعية في الخطاب والسلوك، الذي اجترحه التيار الوطني الديمقراطي أواسط التسعينات، "خطأ" يجب إصلاحه.

وهذا "الخطأ" بنظر هؤلاء، هو تجرؤ مجموعة وطنية كبيرة على رفع سقف مطالب الفلسطينيين وخطابهم السياسي بعد كارثة أوسلو، ما جلب علينا غضبة نظام الأبرتهايد كما يُنّظر المتعلقون بأهداب الجنرال بيني غانتس.

وكما هو معروف، فقد أرادت حكومة الأبرتهايد تلقين فلسطينيي 48 درسًا، من خلال إخضاع هذه المجوعة الوطنية التي نجحت في بناء حزب كبير في زمن قياسي، إخضاعه لمخطط من التحريض والملاحقة والترهيب، وإلى محاولات، لم تتوقف، لشطبه من خوض الانتخابات للكنيست.

ليس سهلاً أن يرتفع الصوت المتمرد على هذه الردة، في ظل التفاف واسع وغير مسبوق حول قائمة انتخابية عربية هي القائمة المشتركة، وهو التفاف صادق ونبيل، يغذيه في الأساس الخوف الذي شكل الوقود الأساسي للحملة الانتخابية. والمشكلة، وهي ليست الوحيدة، أنه في حالات الوحدة الوطنية أو الاستنفار وما يرافقها من عواطف حادة، يختفي النقد الجدي، الموجه إلى سقف هذه الوحدة التي يساهم في صياغتها، في الأساس، من يمسك بدفة القيادة.

ولذلك، فإن الحاجة إلى الصوت الناقد المسؤول والحازم، في هذه الظروف بالذات، يصبح أكثر إلحاحًا، لأن الجماهير عندما تكون في مأزق أو ضائقة حقيقية، تُسلّم بسهولة لخيارات السياسيين الذين يفتقرون لعمود فقري عقائدي، وتُحرّكهم سياسة فن الممكن. وهذه أصبحت ظاهرة عالمية، وحتى محلية.

أنظروا كيف نجح رؤساء بلديات عربية كبيرة في الداخل، من النوع الهزلي، فقط لأنهم رفعوا شعارات شعبوية وتخلوا عن السياسة، إرضاء للمستعمر حتى يزيد حصتهم من الفتات. "خذ ميزانيات، فقط لا تتحدث سياسة، تناسى التاريخ، تناسى موضوع الأرض وقصة شعبك، فأنا أصنع السياسة من أجل اليهود، واليهود فقط ". هذا هو لسان حال قادة إسرائيل.

معركة الوعي في مواجهة التهديد الخارجي ليست مفصولة عن معركة الوعي داخلنا، كمجوعة خاضعة لنظام كولونيالي وعنصري. فقد انتبه مفكرون ثوريون مبكرًا، إلى أن إطلاق المواجهة الأولى ضد المستعمِر مرتبطة بوعي المُستعمَر بأنه مسلوب الحرية، والذي يسلبه إيّاها المستعمر القادم من خارج البلاد. وسبق ذلك حين نادى كارل ماركس العمال بالثورة ضد الاستغلال الرأسمالي الوحشي لأنهم لن يخسروا سوى أغلالهم. بل سبق ذلك الأنبياء الذين قادوا معارك التحرر والبناء والإيمان. ما نريد أن نقوله هو أن بدء التحرك يبدأ من وعي الذات كمجموعة مسلوبة الحرية، ومن ثم فهم طبيعة المستعمر، لتسطيع وضع الرؤية الصحيحة للمستقبل وفي سياقها التاريخي، ولطريقة العمل.

في حالتنا نحن الشعب الفلسطيني، كانت القصة واضحة، منذ بداية الغزو. ولم ولا يختلف فلسطيني واحد على مضمون هذه القصة، بأن الحركة الصهيونية وتجسيدها إسرائيل ليست إلا قصة استعمارية استيطانية كلاسيكية، مثلها مثل الغزوات الاستعمارية التي عرفتها القرون الثلاثة الماضية.

بدأ الاختلاف بعد إقامة إسرائيل، عندما رأى الشيوعيون الفلسطينيون في إطار الحزب الشيوعي الإسرائيلي، أن ما ينطبق على الحركة الصهيونية كحركة استعمارية ما عاد ينطبق على إسرائيل، إذ أصبحت دولة مثل كل الدول، ومع ذلك لا يزالون يرددون البلاغة المستمدة من قاموس الحركة الشيوعية الكلاسيكية، مثل إسرائيل جزء من التحالف الإمبريالي والرجعية، بصورة انتقائية. ما معناه التخلي عن تعريف إسرائيل باعتبارها كيانا كولونياليًا، ونظام فصل عنصري ليس في الماضي فحسب، بل أيضًا في الحاضر.

مع ذلك ظلت الحركة الوطنية الفلسطينية، وبعد أن نهضت مجددًا في أواسط الستينات متمسكةً برواية الصراع، وبتعريفها لإسرائيل المتضمن في الميثاق الوطني الفلسطيني، إلى أن سقطت في أوسلو. ومنذ ذلك الحين، دخل الوعي الفلسطيني في مرحلة جديدة هجينة، فسادت تعريفات ومفردات جديدة. لم يمر وقت طويل حتى تمأسس هذا الوعي في مؤسسات سياسية وإعلامية وثقافية واقتصادية. ولم تتمكن الانتفاضة الثانية العارمة، وبسبب إدارتها الكارثية، من محو هذه المرحلة، بل إن هزيمة الانتفاضة فتحت الباب واسعًا أمام ردة سياسية ووطنية وأخلاقية، لم تعرفها أي من حركات التحرر العالمية. (للموضوعية مهّد لذلك انحراف حركة التحرر المصرية بقيادة السادات، من خلال التوقيع على اتفاقية استسلام مع إسرائيل). كما أخفقت حركة حماس إخفاقا كارثيًا في تقديم البديل، رغم تضحياتها، وباتت جزءًا عضويا من الأزمة الطاحنة التي تضرب الحركة الوطنية الفلسطينية في العمق.

بعد الحرب التي شنتها إسرائيل على المقاومة الفلسطينية في لبنان، وانتهاء وجود المنظمة ومؤسساتها هناك، وتشتتها في المنافي العربية، انتقل ثقل الحركة الوطنية إلى الأرض المحتلة عام 1967، الضفة والقطاع. وفي التاسع من شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 1987، انفجرت انتفاضة شعبية شاملة غير مسلحة عارمة، باتت تُعرّف بالانتفاضة الأولى. ولاحظ المراقبون آنذاك أن النضال الفلسطيني يقوده الآن أبناء الداخل (تحديدًا الضفة والقطاع)، بعد أن قاده لأربعة عقود اللاجئون (أي قيادات الخارج). طبعًا كان تنسيقا كاملا بخصوص الانتفاضة الأولى بين الداخل والخارج، إنما الذي قاده على الأرض هم قيادات الداخل، التي كانت امتدادًا لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن تسرع قيادة الخارج وظروف عربية ودولية سيئة، وخوف القادة من إمكانية أن يتبوأ قياديو الداخل النضال الفلسطيني بديلا عنها، كل ذلك أدى إلى الإقدام على ولوج التسوية في أحطّ مستوياتها، مُتجسّدةً في اتفاق أوسلو.

إذًا، عادت قيادة الخارج بقياداتها التاريخية إلى الإمساك بدفة القيادة. وجاءت قيادة أبو مازن، وبموافقة الإدارة الأميركية في البداية، رئيسًا للوزراء، ليس من أجل مراجعة أوسلو، بل لتطلق مسارًا أكثر خطورة، تمثّل في التبديل الجذري في العقيدة التحررية، والمفاهيم السياسية والأخلاقية. ومهّد لهذا النهج محاصرة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، واغتياله على يد إسرائيل (عن طريق السم).

تخلى أبو مازن عن كل أشكال مقاومة الاحتلال، وحتى المقاومة الشعبية غير المسلحة، التي يتفق على أهميتها اليوم جميع الفصائل والحركات الفلسطينية، ومأسس مقولة أو عقيدة "الحياة مفاوضات"، وأدمن على سياسة الانتظار، أي انتظار نتائج الانتخابات الأميركية والإسرائيلية. ومن نتائج هذه العقيدة، المدعومة والمسنودة سياسيًا وماليًا واقتصاديًا وإعلاميًا، من الدول الغربية المانحة، إحداث تغييرات جذرية في المجتمع الفلسطيني وحياته السياسية، سواء على مستوى السلوك السياسي والاستهلاكي، بديلاً عن حياة شعب واقع تحت الاستعمار ملقىً على عاتقه المقاومة. ما معناه، أن نهج سلطة رام الله، السياسي والاقتصادي، أحدث تشوهات خطيرة في وعي الناس وفي وعي أجزاء كبيرة من النخبة الفلسطينية. كان الهدف، ولا زال، من كل الأطراف، إيصال الشعب الفلسطيني بعد تجريده من الوعي، أو زرع وعي مشوه، ظاهره فلسطيني وباطنه معيشي، إلى مرحلة يكون مهيئًا لقبول تسوية أخرى قاصرة تمامًا عن تحقيق حق تقرير المصير لأي تجمع من تجمعات الشعب الفلسطيني. ويتساءل اليوم البعض، لماذا لا يثور الشعب الفلسطيني، سواء على الاحتلال أو على الطبقة التي تقود السلطة الفلسطينية! وهذا بالضبط ما يراد لفلسطينيي 48.

ولكن يمكن القول، وإن كانت هذه الثورة تأخرت، فإنّ السنوات القليلة الماضية تشهد بذور تمرد، وحراكات متنوعة، معيشية، نسائية، وشبابية، ونقابية، ولا أحد يستطيع التكهن متى ستتجمع الخيوط ونصبح أمام نقلة ثورية حقيقية. نعم، الثورة تأتي فجأة، ولكننها لا تأتي من العدم، بل تسبقها مقدمات وحراكات متفرقة، واجتهادات فكرية ومقاومة ثقافية وغيرها.

لم تكن تلك مقدمة للموضوع، بل هي الموضوع...

لماذا هذه العودة إلى التاريخ؟ أو لماذا نحتاج لكل هذا السرد التاريخي؟ قد يسأل البعض.

بدايةً، لأنّ إسرائيل تعيدنا إلى التاريخ، تعيدنا إلى المربع الأول. هي تعيد تأطير مفهومها للصراع، ولكن من زاوية الأساطير التوراتية، بعد أن كان التيار العمالي في الصهيونية يُغلّب البعد العلماني في التجربة الاستعمارية، وينجح في حملة التضليل. إسرائيل الجديدة تقوم بذلك، ويا للمفارقة، في الوقت الذي تواصل القيادة الفلسطينية التخلي عن التاريخ، وتبدأ من الواقع الذي شكله المستعمر كمنطلق لتسوية سياسية. وبدل أن ننهض ونستعيد التاريخ، نمضي في خروجنا من التاريخ بمحض إرادتنا، من خلال صيغٍ تلفيقية وهجينة.

هذه المدرسة البائسة يجري نقلها من رام الله إلى الأهل داخل الخط الأخضر، إلى من يرى فيهم الخارج، التجمع الفلسطيني الباقي والقادر على لعب دور مهم لصالح القصية الفلسطينية. والتدخل من رام الله لا يأتي بهدف إعادة تشكيل أنفسنا كجماعة قومية، أو بهدف لعب دور محوري في إطلاق مشروع وطني ديمقراطي تحرري، يتواصل مع الهمّ الإستراتيجي للكل الفلسطيني، بل من أجل المساعدة في إنجاح قائد إسرائيلي للوصول إلى الحكم يقبل بالتفاوض مع فريق أوسلو، أي من خلال استخدامنا كجسر يعبر عليه قائد صهيوني، مجرم حرب مطلوب للعدالة الدولية، الذي جل طموحه إعادة إسرائيل "الجميلة والديمقراطية الليبرالية" المتخيلة من زمن مضى. فهل أصبح دورنا، هو أن نقرر من هو القائد الذي سيشن الحرب القادمة على أهلنا في غزة؟

وقبل أن يذهب البعض إلى التسرع والاستنتاج، بأن كل ما تقدم صادر عن متشدد عقائديًا، وليس لذلك علاقة بممارسة السياسة، أذكّر هؤلاء أنني خضت العمل السياسي بكل تعقيداته ومتطلباته، وعرفت البراغماتية ومارستها، إلى جانب رفاقي في حركة "أبناء البلد" أولا، وعلى طول عقدين ونصف مع رفاقي في حزب التجمع الوطني الديمقراطي. نعم، في إطار حركة "أبناء البلد" لم نكن نمارس السياسة بتعقيداتها اليومية، بل كنا نمارس العمل الوطني التوعوي والثقافي في الأساس. ومع ذلك توفر لدينا الوعي والمرونة في مرحلة متأخرة، لنهضم خطورة المرحلة بعد أوسلو، وما يترتب عليها من خطوات مؤثرة في فرملة الانحدار نحو الأسرلة. لقد وضعنا مع المبادرين الآخرين لإقامة حزب التجمع، مصلحة شعبنا في المقدمة، وقبلنا بعد نقاش عسير امتد على طول أكثر من عامين، مشاركة الحزب في انتخابات الكنيست، وبشرط أنه لن يترشح منا أحد. ورأينا في حزب التجمع مرحلة اعتراضية، أي مرحلية، هكذا بالحرف الواحد (هناك للأسف من قيادة الحركة من غيّر لاحقا موقفه من المشاركة).

وللمرة الثانية، أريد أن أفشي سرًا، بأن الجبهة الشعبية تفهمت قرار حركة "أبناء البلد"، لأنها كانت قد بدأت أيضا تتعرف على خصوصية الوضع الفلسطيني داخل المنطقة المحتلة عام 1948.

لقد انطلقت مشاركتنا في الانتخابات من فهمنا الجديد، آنذاك، بتعقيدات الوضع الفلسطيني داخل الخط الأخضر، والذي اقتضى معادلة سياسية جديدة، مناسبة وفعالة للتعامل مع التناقضات الكامنة في المشاركة في الكنيست. واليوم، برأيي، وبعد كل ما وصلت إليه إسرائيل، خصوصًا بعد "قانون القومية"، بات السؤال ملحًا حول جدوى المشاركة في الكنيست.

وأعود إلى تقييمي لمهمة إعادة بناء الحركة الوطنية داخل الخط الأخضر، وبلورتها في حزب سياسي ومشروع سياسي ثقافي منذ العام 1995، بأنه مشروع هام ودشّن مرحلة سياسية بوعي سياسي ثقافي وفكري نوعي، حملته أجيال واسعة من الطلاب والشباب والأكاديميين.

لم تكن مشاركة التجمع في الكنيست بلا ضوابط، وحين كنا نواجه معضلة كنا نجلس ونتداول فيها مطولا، مستندين إلى مرجعية الخطاب الوطني الديمقراطي. وعندما كنا نشعر أننا أخطأنا، كنا نتناقش ونسجل خطأنا. لقد خاض التجربة الأولى وبلورها باسم التجمع، عزمي بشارة، حين كان الممثل الوحيد للتجمع في الكنيست، وذلك من ساحتين؛ الأولى، ساحة الصدام الأيديولوجي من داخل الكنيست والمنابر الإعلامية الإسرائيلية. والثانية، ساحة العمل الشعبي الناعم والصدامي. وبالتوازي، كان الحزب ينمو على الأرض وتقام الفروع في كل بلدة عربية تقريبًا، وفي كل الجامعات الإسرائيلية، وفي غالبية الكليات أيضًا، إضافة إلى منظمات شبابية ونسائية، لتنشأ قيادات شبابية جديدة، العديد منها وصل إلى المراكز القيادية الأولى.

على طول فترة الازدهار هذه، حتى عام 2014، وحتى على طول فترة التراجع التنظيمي ابتداءً من عام 2015، والأزمات، لم يتزحزح الحزب عن خطابه ولم تتشوش هويته. ليس هذا فحسب، بل أنه ابتداءً من عام 2012، ارتفعت وتيرة النقاش حول جدوى استمرار المشاركة في الكنيست، والأهم تطور النقاش حول الحاجة لتطوير برنامج التجمع نحو المناداة صراحة بالدولة الواحدة. لكن هذا النقاش بقي محصورًا في دوائر الجيل الجديد، دون أن يبدي غالبية المؤسسين، للأسف، اهتمامًا بالأمر.

في المقابل، وبعد عام 2016، ازداد التركيز على الكنيست أكثر من أي وقت مضى، وهنا ليست المشكلة الأساسية، بل ترافق ذلك مع تنصل تدريجي من هوية الحزب، وبدأت عمليك تكيف تدريجية واعية مع واقع خطاب ونهج القائمة المشتركة. الأحزاب الأخرى، ومعهم سلطة رام الله، لاحظوا الضعف الداخلي والأهم القابلية للضغط، فزادوا ضغطهم على قيادة الحزب، وكأنهم، أي المتربصون بالحزب، وجدوا في الوضع الجديد فرصة للانتقام من القيادات السابقة، المؤسسة، التي كانت وضعتهم في حالة دفاع عن الذات.

بطبيعة الحال، الأحزاب كلها تمر بمراحل انحسار تنظيمي أو جماهيري، لأخطاء ذاتية أو ظروف موضوعية، أو بسبب الاثنين معًا، وهذه يمكن إصلاحها او إصلاح بعضها، أما أن نهبط بهوية الحزب، لكي نكون مقبولين عند بعض شرائح المجتمع التي ترى في غيرنا عنوانها، فهو ضررٌ إستراتيجي قد لا يمكن إصلاحه. دورنا هو كيف نساهم في رفع وعي الناس، لا في استغلال مأزقهم أو محاباتهم وتضليلهم. علينا احترام وعي الناس لا الاستخفاف بعقولهم.

توحيد المرجعية والعودة إلى الوعي

في مواجهة التردي العام على الساحة الفلسطينية، واستمرار الانقسام وإسقاط خطاب التحرر الوطني وتجزئة الوعي، بعد تجزئة الواقع الجغرافي والديموغرافي، نحتاج إلى استعادة الخطاب، نحتاج إلى العودة للتاريخ. لن نعود إلى التاريخ بنسخة عنصرية إقصائية، كما تفعل الصهيونية بتجسيدها الحالي المتمثل في شقي الخريطة الحزبية الإسرائيلية، الليكود و"كاحول لافان"؛ بل من خلال خطاب ديمقراطي تحرري إنساني ينصف الكل الفلسطيني، ويجيب على المسألة اليهودية التي خلقها الاستعمار الغربي والحركة الصهيونية.

أما في هذه المرحلة التاريخية العصبة، فإن فلسطينيي 48 بإمكانهم لعب دورٍ هام في مواجهة المشروع الإسرائيلي، من خلال إعادة تعريفه على حقيقته، وإعادة تحديد العلاقة مع الشعب الفلسطيني، وإرجاعها إلى أصلها. لكن هذه المهمة لا تتحقق من خلال خرافة التأثير، بل من خلال إعادة تنظيم المجتمع الفلسطيني باعتباره جزءًا من شعب وليس مجرد ناخبين، نُستخدم كأداة لإيصال من هو أفضل لإسرائيل، مقابل إنجازات مدنية يمكن إنجازها من خلال النضال الشعبي المدني. لا يتجاهل ولا يقفز هذا التوجه عن خصوصية واقع فلسطينيي 48، بل العكس تمامًا، ولا هو خطاب أخلاقي تجريدي فوقي، إنما يدعو إلى استثمار هذه الخصوصية ذات الوزن الإستراتيجي، من أجل تحصيل حقوقنا اليومية وتمكيننا كجماعة قومية، ومن انتزاع حقنا في إدارة وتخطيط حياتنا، الثقافية والتعليمية، وكل ما يتعلق بالأرض والتوسع الطبيعي، والتنمية الاقتصادية المنتجة.

هذا ما يُمكّننا من حماية أنفسنا من عنف مؤسسة الأبرتهايد وسياساتها التدميرية. بهذا التوجه وبهذه الإستراتيجية نستطيع أن نُحدث تأثيرًا حقيقيًا، لا من خلال السقوط في تجاذبات قطبي اليمين الإسرائيلي، لأن هذا النهج سيُحدث المزيد من التآكل الوطني والأخلاقي، دون أن نحصل على ما نريد.

مهمتنا لا أن نجترّ تجربة السلطة الفلسطينية، بل أن نتعلم من دروسها الكارثية، والمساهمة في اجتراح خطاب وطني ديمقراطي تحرري إنساني، نحمله في طريقنا الطويل نحو التحرر والحرية والمساواة، ويكون هذا الخطاب هو مرجعيتنا، نحن في الداخل، في معاركنا من أجل حقوقنا اليومية الحياتية الملحة، ومرجعية الشعب الفلسطيني كله، من أجل التحرر وتحقيق العدالة.

التعليقات