جمال عبد الناصر.. المُستهدف المُزمن للنزعة الثأرية في خطاب الإسلامية

ينبغي أن نؤكد أمرًا بات بديهيًا، وهو أن تعدد المشاريع والتصورات والمرجعيات، هو نتاج طبيعي لزمن لم يعد فيه الإسلام الوعاء التاريخي للحضارة الإنسانية الصاعدة، كما كان في فترة انطلاقته التدشينية، وأن تلك الاختلافات تمثل مشاريع نهضوية اجتهادية ترمي

جمال عبد الناصر.. المُستهدف المُزمن للنزعة الثأرية في خطاب الإسلامية

قد لا تكفي قوانين السياسة وعلم النفس الاجتماعي لتحليل "عقدة ناصر" الكأداء في الخطاب الإخواني بوجه عام، والإسلامي المحلي منه على وجه الخصوص. ولفهم هذه العقدة سيحتاج الباحث عونًا من حقول معرفية أخرى... كي ينفذ من قشرتها الصلبة إلى نواتها الحقيقية. خمسون عامًا مرت على وفاة عبد الناصر، لكنها لا تحتسب إلا يومًا واحدًا في عداد الزمن الموازي لدى بعض المشايخ، والتي لم تزل تحرق البخور وتقرع الطبول وتحشد الأتباع، جيلا بعد جيل، وترجمه بكافة منظومات اللعن من فوق المنابر ومن تحتها وفي كل المحافل. ورغم أن الإسلاميين يعيبون على الطائفة الشيعية ممارسة طقوس البكاء واللطم والذم في عملية تمثلهم واستحضارهم لنكبة الإمام الحسين التي جرت فصولها في حقبة يزيد بن معاوية، ويوظفونها بدهاء في صولاتهم المذهبية باعتبارها سلوكًا مستهجنًا وغير سوي، نجدهم أنفسهم، وعلى الأقل من الناحية الرمزية، يمارسون طقوسًا متشابهة تواكب سيرة ومحنة سيد قطب في الحقبة الناصرية. وما دمنا نتحدث عن السلوك الغريب واللاعقلاني، فالواقع ينبئنا، على الأقل، أن الشيعة تستثمر ذكرى مقتل الحسين عنصرًا روحيًا شديد الأثر في شحذ الهمم وتوحيد صفوف أبنائها، فيما يستخدم التيار الإسلامي المهيمن محنة سيد قطب معولًا لتعميق الفرقة وإهدار فرص التلاقي بين أجنحة حركة النهضة القومية والإسلامية في المجتمعات السنية، وهو التيار الذي ينصب نفسه حارسًا أوحد على أسوار قلعة أهل السنة والجماعة، ووصيًا حصريًا على فهم دينهم وأولوياتهم وتحديد وجهة مسيرتهم.

لسنا نطالب بإقصاء موضوعة إعدام سيد قطب عن طاولة النقد والمناقشات والمراجعات، لكننا نعتقد أن المسؤولية التاريخية والوطنية، وخاصة في ظل راهننا المتهاوي والتعيس، تقتضي التعامل بحكمة وحذر مع مسألة مهمة وخلافية جرت أحداثها قبل أكثر من خمسين عامًا، وأن يتصدى لها أصحاب الرأي من المثقفين والمختصين بكثير من التحليل والدراية ووضوح الاستنتاجات... لا أن تحولها الإسلامية لحملة ثأرية جماهيرية مزمنة ومتوارثة، واشتباك شعبوي قبلي مفارق للزمن ومنطق الصالح العام، وحيث يرمي بحجره الصغير قبل الكبير والمدسوس قبل الشريف في بئر مسيرتنا الجامعة، فتقضي على أية فرصة للتقارب وبناء جسور التثاقف والتلاحم. هذا الخطاب الأصولي المزدوج، والذي يمتاز بمنهجية انتقائية تختلق الأعذار وتتوسل التبرير لأحداث دموية وسياسية كبرى غيرت وجه الإسلام معتقدًا ومجتمعًا، نجده من جهة أولى، يطالب الناس ألا يمعنوا النظر والتفكر في الفتن التاريخية تلك نظرًا لأثرها التدميري على الوعي الجمعي للأمة... لكنه يبدو مفتونًا، بلا هوادة، في نبش فتن العصر الحديث، وملاحقة ناصر والتيارات القومية والوطنية وتقزيم ومسخ مساهماتهم الحاسمة في حماية وعي الأمة وصيانة كرامتها، من ناحية أخرى.

لا شك عندي أن أية محاولة جدية لفهم الجذور العميقة لهذا السلوك المستغرب، لا يمكن لها إلا أن تحيلنا إلى جذر معتقدي أساسي راسخ يتلخص بإنكار بعض قادة الإسلامية لكل المرجعيات الفكرية الحديثة، واعتبارها مجرد أدوات التفافية لحرف الناس عن سبيل الهداية، وتهديم الأخلاق والفضيلة التي جاء بها إسلامنا الحنيف، ونوعًا، أو لنقل عتبة ضرورية للشرك بوحدانية الله... وهو عين السبب الذي أفضى للمصادمة الكبرى بين التيار القومي والإسلامي في الحقبة الناصرية وما تلاها. فالعقل السلفي يرسم صورة متخيلة شديدة النقاء للمجتمع الإسلامي الأول، تكاد تخلو من كل أشكال الصراعات الاجتماعية والسياسية والتناقضات الفكرية، ولهذا يتحاشى تسجيل أي نقد جدي لذاك التاريخ، وإن فعل، فإنه حتمًا سيرده لتفسيرات لا تسمن ولا تغني عن جوع، وغالبًا ما تنسبها لعوامل خارجية تتضمن طعنًا حتى في صحة الحدث التاريخي المحقق علميًا (تزييف مستشرقين، عداء للإسلام... إلخ)، وفي الحالات الفضلى يردون الأسباب لخطأ إنساني لا يستوجب البناء عليه. لكننا اليوم نعلم أن المجتمع الإسلامي الأول لم يكن متربعًا فوق قوانين الواقع الحياتي، أو حصينا بوجه الصراعات السياسية والفكرية أو حتى من الاحتراب الدموي، بيد أن جميع أطراف الصراع وقتها كانت تستظل بعباءة الفكر الديني السائد، وتسبح في فضاء مرجعي واجتماعي واحد، حيث تستمد شرعية الاختلاف من خلال عمليات تأويل للنص القرآني المقدس وأخبار السيرة النبوية الشريفة، وهكذا فإن أدوات الصراع الأيدولوجية (الفقه والمجادلة الفكرية) كانت هي المتغير الوحيد في المشهد المرجعي العام. لهذا عينه، فإن العقل السلفي، والذي يعتمد في بنيانه المعرفي على الاستحضار والتكرار والتقليد، سيستمر في إفراز المضادات الفقهية اللاعقلانية في مواجهة الظواهر والمفاهيم الاجتماعية التي تولدت في السياق التاريخي اللاحق، ما دامت تلك المفاهيم طارئة وتفتقر لسند قطعي أو قياسي في التراث الفقهي لأسلافنا. هذا الاستلاب الزماني تحديدا هو الذي وقف وراء استمرار تلك النزعة الصدامية تجاه القومية الناصرية حينذاك، والتي اعتبرت ظاهرة تعدد المرجعيات نوعًا من الشرك بالله، والأحزاب غير الإسلامية مجرد طواغيت وأصنام ينبغي تحطيمها.

غير أن المتابع المتأني لخطاب حركة الإخوان المسلمين في مصر وشبيهاتها في العالم العربي، وعلى مدى العقود الأخيرة، لا بد له أن يتحقق من حدوث انزياح جوهري عن النهج الذي أرسى قواعده مفكرها الأبرز سيد قطب، والذي اتصف بالراديكالية الثورية على نحو لم تعهده الحركات الإسلامية الحديثة. بهذا المعنى، فإن آراء سيد قطب حول مفهوم "الحاكمية" المتضمنة في نظرية الدولة والحكم ومن ضمنها وسائل وأساليب النضال، لا يمكن اعتبارها إلا استثناء عارضًا في تاريخ النشاط السياسي الإسلامي، وليست سوى اجتهادات فردية سادت في حقبة محددة اتسمت بالقمع الشديد من جهة، وتأثرت بالمناخ الثوري العالمي الذي قادته الأحزاب الاشتراكية والحركات الثورية. من هنا، فإن مفهوم "الطليعة الصدامية" التي تضطلع بمهام قيادة وتحريك المجتمع نحو الثورة، فضلًا عن تبني العنف الثوري للاستيلاء على السلطة في سبيل تحقيق دولة العدل والإسلام... ما هي إلا مفاهيم مرادفة من الناحية الإجرائية لما كان متبنى في الفكر الثوري الاشتراكي، ولا علاقة لها بالموروث الفقهي الإسلامي السني في مسألة الدين ونظام الحكم. لقد جاءت الممارسات الإخوانية اللاحقة في هذا المستوى لتؤكد تراجع هذه المفاهيم، بل واختفائها من صدر مشروعهم السياسي لصالح فكرة التغيير الدعوي والإصلاحي في المجتمع والسلطة، لدرجة أن كثيرًا من المفكرين الإسلاميين الكبار والمحسوبين على هذا التيار، سجلوا نقدًا عميقًا واعتراضات واضحة على المنزع الثوري الراديكالي والذي تميزت به أطروحات سيد قطب، حيث كان أوضحها سلسلة المقالات التي كتبها الشيخ يوسف القرضاوي والتي أعلنت انسحابها وتنصلها الحازم من آرائه ومواقفه المتعلقة بنظرية الحاكمية ورفض تعدد المرجعيات الفكرية.

مع ذلك، ما زال خطاب الإسلامية في الداخل، بمجمله، ينهل فقهه السياسي من النبع "الإخواني" صافيًا كما تفجر في المرحلة الناصرية - القطبية، دون أن تُجري عليه أي إصلاح أو تطوير أو ملائمة لخصوصية المكان والزمان، مما يوحي وكأنها تسبح حالمة في مجالها السياسي كشأنها في القضايا الاجتماعية والفقهية... فتمضي وكأنها غير معنية بحقيقة تجاوز الكثير من المفكرين الإسلاميين النافذين لعقدة "الصدام الكبير" تلك، وباتوا يتعاطون مع المشروع القومي بعقلية التكامل، واعتباره مقدمة واجبة لتحقق المشروع الإسلامي نفسه. وبدلًا عن ذلك، نجدها تتبنى الوجه الأكثر تشددًا وصدامية، والذي تلونت به تلك المرحلة الاستثنائية من حياة الحركة الإخوانية.

إنه لمن المؤسف حقًا، وبعد مشوارنا الكفاحي المشترك والطويل، أن يستمر بعض قادتها في معاداة عبثية للمشروع القومي، ورمزه الأبرز جمال عبد الناصر، على نحو تجعل المراقب يعيش لحظات عنيفة من الصدمة، لكنها بالأكيد ليست بعنف ذخيرة الأوصاف التي يطلقونها باتجاهه، ولا بقسوة الشتائم التي يرجمونه بها بمناسبة وبغير مناسبة. ومن حقنا أن نتساءل كذلك: كيف سيتصرفون لو أن قادة الأحزاب الوطنية ونشطائها قررت أن تتحدث وتكتب بالأسلوب ذاته والوتيرة نفسها ضد الفكر الإسلامي وتنظيماته وقياداته، بدءًا من الشيخ حسن البنا وسيد قطب وصولًا للشيخ القرضاوي، وهم يعرفون أنها مهمة بسيطة وتكاد تكون متاحة للجميع؟

نهاية، ينبغي أن نؤكد أمرًا بات بديهيًا، وهو أن تعدد المشاريع والتصورات والمرجعيات، هو نتاج طبيعي لزمن لم يعد فيه الإسلام الوعاء التاريخي للحضارة الإنسانية الصاعدة، كما كان في فترة انطلاقته التدشينية، وأن تلك الاختلافات تمثل مشاريع نهضوية اجتهادية ترمي جميعها لإخراج مجتمعاتنا من الهوامش وحالة اللافعل المهينة. عليه، فلا خيار أمامنا إلا بالاعتراف المتبادل لحق الآخر بالاختلاف والاجتهاد، ومقارعة تصوراته بالحجة والبرهان، بعيدًا عن عقلية الإلغاء والقطيعة. ما زلنا على قناعتنا أن تلك التجربة المريرة ينبغي أن تطوى صفحاتها، بعد الاستفادة من دروسها بأخطائها وأدوارها التاريخية المشرقة والملهمة، وأن ينطلق جهدنا، بدلًا من استحضار زمن "المصادمة الكبرى" إلى تأسيس وتعميق شروط "المصالحة الكبرى" في خطابنا، بكل ما يفترضه هذا المسعى العقلاني من استحقاقات.

التعليقات