بين الدور الإستراتيجي للداخل وبين نقيضه

لأول مرة يقف الداخل أمام الحقيقة كاملة وساطعة وعارية ومباشرة من دون غطاء ليبرالي أو ديمقراطي أو احتوائي. هذه فرصة لنا لكي نقول أننا أمام حرب على وجودنا تسنها "الدولة"، وأن المواطنة ليست خروجًا عن حالة العداء

بين الدور الإستراتيجي للداخل وبين نقيضه

رسالة إلى شعبنا في وقت الانهيار


يبدو المشهد السياسي في الداخل في هذه المرحلة منفصلًا بشكل إستراتيجي عن شعبه، ففي الوقت الذي تمحو فيه إسرائيل نفسها الخط الأخضر بسردية استعمارية واضحة ومفصلة، وفي الوقت الذي تتوالى انهيارات ما يمثل الكيانية الفلسطينية ومبرر وجودها: قضيتها العادلة؛ يبدو الداخل في انفصال مستكين لمصير آخر يحكمه ويتحكم فيه سياسيًا وذهنيًا. ويبدو توجيه أي سؤال لنا حول دورنا الحقيقي في نظر بعضنا تهديدًا لـ"خصوصية" لم تعد هامشًا يُفرض علينا بقدر ما أصبحت قناعة سياسة. والهامش كقناعة سياسية، يختلف كثيرًا عن الهامش كبنية سياسية تستطيع المناورة داخلها وتحديها. الهامش كقناعة سياسية هي أن ترى كل ما يدور حولك من منطلق تذويت موقعك كـ"شأن إسرائيلي داخلي"، وليس جزءًا من شعب أوسع وكجزء من نضال لا تحدده حدود المواطنة ولا ينطلق منها ولا من سرديتها السياسية. أي حالة من "المواطنة الطبيعية" التي لا تناضل سوى من أجل تحسين ظروفها.

وتبدو سهولة إخراجنا من مشهد الانهيار ومن سؤال الانهيار مذهلة، إذ لا يتم إدراك الانهيار الفلسطيني العام كانهيار للخاص أيضًا، ولا يجري التعامل مع سؤال ما العمل الذي ينشغل فيه شعبنا في كافة أماكن تواجده، كسؤال مطروح عليها أو كسؤال نستطيع المساهمة فيه.

وقد لا ينبع سبب إعفاء شعبنا من سؤال دورنا ومساهمتنا في النضال الفلسطيني العام، من تسليمه بأننا اخترنا الانفصال عن شعبنا طوعًا، إنما من حقيقة عدم قدرتنا على تخطي خصوصية سياق المواطنة المفروضة علينا (أي ليس بسبب الهامش كمشروع سياسي، إنما بسبب الهامش كواقع مفروض)، أي من قناعة أن المواطنة الاستعمارية – المفهوم الذي طورته أريج صباغ ونديم روحانا، وتزداد مرجعيته كمفهوم تحليلي يفسر طبيعة مواطنتنا - لا تتحمل نضالًا حقيقيًا ضدها، يتشابك بشكل عضوي مع النضال الأوسع لشعبنا الفلسطيني.

فرضية العمل هذه تبدو شديدة التناقض مع لحظة الكسر التي قام بها مشروع "دولة المواطنين" لمفهوم "المواطنة الطبيعية". ما يهمنا هنا من مشروع "دولة المواطنين"، هو ليس الحل السياسي الذي يطرحه، فقد ضربت المرحلة الحالية كافة التصورات السياسية وأظهرت الحاجة لإعادة بلورة مشروع وطني جامع على أساس وحدة الشعب ووحدة الأرض. ما يهمنا هو مفهوم المواطنة الذي تعرضه، ووظيفة المشروع الإستراتيجية في توفير منطق أخلاقي وتاريخي وسياسي لرفض شرعية الدولة اليهودية حتى ضمن سياق المواطنة الإسرائيلية ومحدودياتها القانونية.

لقد عرض مشروع "دولة المواطنين" مفهوم مواطنة مستحيلة، ليس لأنه غير مدرك لاستحالتها، بل لأنه يدرك أن في استحالتها تكمن وظيفتها، أي أن الديناميكية الكامنة في رفضها من قبل الدولة اليهودية وارتطامها بالحائط من جهة، وفي تحدينا المستمر في حملها، تكمن حمايتنا من حالة المواطنة الاستعمارية كحالة قهرية تذوت دونية وانكفاء صاحب الوطن عن مكانته التاريخية، وعن شعوره بالتفوق الأخلاقي. إنها صخرة سيزيف لكن زيوس لا يريد عقابنا، بل يريد حمايتنا من إغواء الاستكانة لقاع الجبل.

لا يستمد خطاب المواطنة المستحيلة، لا شرعيته ولا منطقه السياسي ولا منطلقاته الأخلاقية ولا قوته العاطفية ولا قدراته التعبوية، من كوننا مواطنين بل من كوننا أصحاب وطن (في البحث المشار إليه يذكر الباحثان أنه في الوقت الذي لا تستخدم فيه أدبيات التجمع المواطنة الاستعمارية كمصطلح، إلا أنها تستعمله كمفهوم). وهنا تكمن وظيفته في حمايتنا من إغواء الاستكانة لخطاب "المواطنة الطبيعية"، التي تستمد شرعيتها من منطق الحيز الإسرائيلي، والتي لا تقرأ جوهر الصراع أو تقرأه من موقع "إسرائيلي معارض"، وليس من موقع فلسطيني.

لقد هيمن هذا الخطاب التحرري على الفهم السياسي في الداخل وشكل سطوة أخلاقية في العقد الأول بعد الانتفاضة الثانية، وبفضلها دخل الفلسطينيون المشهد الوطني لشعبهم، لكنها عادت وتراجعت بعد حصار ثلاثي شكلت إسرائيل ضلعًا واحدًا منه، وعادت المفاهيم القديمة التي هيمنت قبل اتفاقيات أوسلو لتتصدر المشهد وتقوده.

الأسرلة الجديدة: توسع إمكانية خطاب "وطني" غير فلسطيني

لكن بما أن التاريخ لا يعود إلى الوراء، فلم نرجع تمامًا لما كان قبل أوسلو، كما لم ترجع إسرائيل إليه تمامًا. ما يظهر الآن هو مزيج من "احتواء إسرائيلي" أكثر تعقيدًا، مقابل مطالبات "وطنية" لكنها ليست فلسطينية! حالة "وطنية" ما، غير فلسطينية، تستطيع إسرائيل هضمها؛ وغير إسرائيلية بحيث نستطيع نحن هضمها.

ففي الوقت الذي اكتشفت فيه إسرائيل بعد الانتفاضة الثانية أننا لم نتحول إلى "عرب إسرائيل"، وأننا ما زلنا معرضين في المفارق الهامّة أن نتصرف كفلسطينيين، بالتالي تنازلت عن الشق الأول، لكن ليس الثاني. لقد اقتنعت الدولة بأننا لن نصبح "عرب إسرائيل" أبدًا، فبدأت في التنازل عن المفهوم الضيق للولاء، بحيث يتحمل سلوكًا لا صهيونيًا، شرط ألا يكون سلوكًا متحديًا للصهيونية.

بمعنى أنه رغم تغول الجانب العنيف في الدولة، إلا أن توسع جانبها الاحتوائي (رغم قوانين الولاء ورغم هجمة يمينية موازية للاحتواء) مكن من تطوير خطاب "مصلحة وطنية" منعزل عن سياق الصراع الفلسطيني وعن سرديته السياسية والتاريخية، حيث التعامل مع هذا الجانب الاحتوائي تحديدًا يكمن معظم الخلاف السياسي في الداخل. إن جانب المواطنة الاحتوائي وليس العنيف هو الذي يمنح الغطاء لطرح أفق التعايش الوهمي مع المشروع الصهيوني، أو أفق "المواطنة الطبيعية" في ظل الصهيونية.

محو الهامش بين الدولة والمشروع الصهيوني فرصة لاكتشاف الدور الإستراتيجي الممكن للداخل

رغم المناورة المحنكة للدولة بين جانبها العنيف وجانبها الاحتوائي، ونصائح تحسين الوضع الاقتصادي للداخل، ما يشبه الموازي لفكرة "السلام الاقتصادي"، إلا أن الدولة رأت في التغيرات الداخلية والإقليمية والدولية الفرصة الملائمة لقول الحقيقة كاملة: طرح الطموح الصهيوني كاملًا، وتشريعه كحقيقة منجزة على شكل "قانون القومية".

لأول مرة يقف الداخل أمام الحقيقة كاملة وساطعة وعارية ومباشرة من دون غطاء ليبرالي أو ديمقراطي أو احتوائي. هذه فرصة لنا لكي نقول أننا أمام حرب على وجودنا تشنها "الدولة"، وأن المواطنة ليست خروجًا عن حالة العداء: نحن أعداء باعتراف الدولة وبسلوكها تجاهنا كتهديد إستراتيجي. لأول مرة تعترف اسرائيل أن ليس نضال الفلسطينيين هو ما يشكل تهديدًا لوجودها، بل مجرد وجودهم السياسي هو تهديد لوجودها، وأنها لا تميز بين وجودها وبين مشروعها الصهيوني.

محو المسافة صراحة بين الدولة وبين المشروع الصهيوني، هي دعوة مثالية لمحو المسافة بين الفلسطيني في الداخل وبين سرديته التاريخية طارحًا خطاب المواطنة الاستعمارية كخطاب يكشف حقيقة المواطنة التي يحياها، ويبدو شعبنا في صراعه الآن لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني وفي التراجع عن نهج أوسلو الكارثي في أمس الحاجة لخطاب يكشف طبيعة إسرائيل، وفي أمس الحاجة لأكفأ اللاعبين لتلك المهمة، أي "مواطنيها". (ونهج أوسلو ما زال مستمرًا حتى الآن؛ تقديرات الجيش الإسرائيلي الأخيرة كما تقديرات المخابرات، بأن التنسيق الأمني المستمر هو أحد أركان السيطرة على الوضع حتى بعد الإعلان عن "صفقة القرن". ما جدوى سؤال ما العمل والسلطة تسيطر على الوضع لصالح إسرائيل؟)

بالتالي، لم يعد الوضع الفلسطيني يسمح أن يبقى النقاش حول طبيعة علاقتنا كـ"مواطنين" مع إسرائيل، وحول طبيعة خطاب وممارسة المواطنة، نقاشًا داخليًا؛ ولم تعد المراوحة بين خطاب "المواطنة الطبيعية" وخطاب "المواطنة الاستعمارية" تصلح أن تكون موضوعًا للحسم الداخلي، وللصراع على المعنى والقوة السياسية في الداخل فقط. أي أن شعبنا لا يستطيع أن يرى الصراع القائم حاليًا على معنى المواطنة في الداخل على أنه صراع يخص الداخل فقط، بل هو صراع له وزن إستراتيجي في حساب احتمالات النجاح لما يجري على الساحة الفلسطينية الآن، من محاولات حماية واسترجاع ذاتنا كشعب ونضالنا كنضال من أجل الحرية والتحرر.

جانب آخر من دورنا الإستراتيجي يكمُن في ما فرضه سياق المواطنة علينا، من التعاطي أكثر من غيرنا مع سؤال المكانة السياسية لليهود في فلسطين، إذ لا يستطيع مسار بلورة المشروع الوطني الفلسطيني تجنب هذا السؤال، حتى قبل الوصول إلى مرحلة طرح حلول سياسية عينية. وقد تكون هذه الجزئية الآن، والتي كثيرًا ما يتم تجنبها، أكثر إلحاحًا والأكثر قدرة على إظهار ليس فقط الطابع التحرري العادل لمشروعنا، لكن أيضًا طابعه المستند إلى طرح التشابك بين العدالة وبين تنازلاتها التاريخية.

التعليقات