مرة أخرى، ملاحظات عن الخطاب المبتور

إزاء ذلك، لا بد من البحث عن وكلاء التغيير الحقيقيين على الساحة. وهؤلاء ليسوا القوى السياسية التقليدية الحالية، خصوصًا وأن غالبية الكوادر هجرتها، إما يأسًا أو بحثا عن راحة شخصية، أو نتيجة الانغماس بهموم الحياة الفردية والعائلية التي بات تدبيرها

مرة أخرى، ملاحظات عن الخطاب المبتور

من اللد في أيار/مايو الماضي (أ ب)

كأحد مؤسسي حزب التجمّع الوطني الديمقراطي، الذي أطلقناه بعد صدمة اتفاقيات أوسلو عام 1995، لم يأخذني الوهم، وإن كنت آمل، بأن يساهم سياسيو الأحزاب الأخرى في تطوير الخطاب السياسي والثقافي الذي جاء به هذا الحزب، بل على الأقل عدم التعرض له بالتشكيك واللاجدوى، وبكل التجربة النضالية للقوى الحزبية الوطنية والتقدمية، وهو برنامج التجمع وهو الحد الأدنى الممكن، في اعتقادي، في السياق الذي تبلور فيه.

كثيرون – أنا من بينهم - ساخطون من كون هؤلاء نزلوا حتى بخطابهم وبرنامجهم المتواضع إلى حضيض اللغة (السياسية) والممارسة، والتحلل كليا من قيم السياسة الوطنية. والأخطر أنهم يقومون بحملات إعلامية منهجية وممارسة انحرافية لإعادة تزييف الوعي، وتقويض تاريخ نضالي خاضه الوطنيون، ليس فقط منذ تأسيس التجمع، بل منذ الخمسينيات.

نحن في الحركات الوطنية التي أسست التجمع لم نستسلم لمرحلة الانهيار الوطني التي توّجها وعمّقها اتفاق أوسلو، وفكّرنا طويلا كيف نتجاوز ذلك، ونحافظ على الجمرة الوطنية والأخلاقية، وعدم الوقوع في مستنقع الانحراف من خلال معادلة سياسية ذكية.

وفي سياق عملية بناء هذا المشروع، مثلا، علّقنا أو امتنعنا في خطابات الحزب الرسمية اليومية (وأُشدّد على كلمة علّقنا، وليس تخلّينا) عن استخدام المقولات السياسية، التي ميّزت المرحلة الثورية التي سبقت التوقيع على أوسلو، مثل "تحرير فلسطين من الكيان الاستعماري الصهيوني"، و"مقاطعة المؤسسات الصهيونية" مثل الكنيست، وذلك أن تلك المرحلة الناشئة البائسة تطلبت مقاربة مختلفة وعدّة مصطلحات ومفاهيم مختلفة تقرّبك من عامة الناس، وتحقّق الهدف بصورة غير مباشرة وعلى المدى البعيد. والدافع هو الرغبة في تحقيق هدفين من عدة أهداف؛ الأول، الاعتراض على ما بدأت تفرزه اتفاقية أوسلو من ردة وانكسار في صفوف فلسطينيي الداخل، وذلك من خلال رفع مستوى الخطاب الذي كان سائدًا بين عرب الداخل، وتحديدًا أحزاب الكنيست القديمة، عبر إعادة تعريف مفهوم المساواة أو المواطنة الديمقراطية كخطاب نقيض للدولة اليهودية وللمواطنة الكولونيالية التي فرضتها إسرائيل علينا بعد النكبة، واعتمدنا لذلك شعار "دولة المواطنين"؛ والثاني، تنظيم المجتمع الفلسطيني في الداخل وإقامة المؤسسات الفلسطينية المنتخبة، وفي مقدّمتها لجنة المتابعة العليا كمرجعية وطنية جامعة، التي لم تتغير بنيتها الأساسية منذ تأسيسيها أوائل الثمانينيّات، بهدف توطيد وترسيخ الهوية الثقافية الوطنية لهذا الجزء من شعب فلسطين، وجعله عصيًّا على الإذابة والتفتت. بعضنا، حركة أبناء البلد تحديدًا، والتي كانت كلها بقياداتها وكوادرها جزءا من عملية إطلاق التجمع، أطلق على هذا البرنامج (أي دولة المواطنين وتنظيم المجتمع الفلسطيني قوميا، إنهاء الاحتلال في الضفة والقطاع، وعودة اللاجئين) مشروعا اعتراضيا. والتفّ حول هذا الحزب ومشروعه مئات المثقفين، وعشرات آلاف المؤيدين خلال أقل من ثلاث سنوات بعد إطلاقه.

لم يكن الهدف الأول، أي دولة المواطنين والمساواة الكاملة واقعيًا من حيث إمكانية تحقيقه، وكنّا ندرك ذلك تمامًا. فقد كتب عزمي بشارة في "بيان قومي ديمقراطي" الذي صدر عشية المؤتمر الثاني للحزب عام 1999، أننا "لسنا سذّجًا لنعتقد أن إسرائيل ستصبح دولة المواطنين، طالما تعلن نفسها دولة يهودية"، إنما هو برنامج كفاحي لمجابهة الصهيونية التي تصالح معها اتفاق أوسلو الذي تخلى عنّا، لنبقى تحت رحمة هذه الأيديولوجية العنصرية والاستعمارية، ناهيك عن تهميش قضية اللاجئين، جوهر القضية الفلسطينية.

بالإمكان أن يجتهد البعض من جهة وأن يُنظّر بعضٌ آخر، سواء من اليسار أو اليمين، بمعزل عن سياقات المرحلة، ويستخلص بخفة وبطريقة تجريدية، أن هذا التوجه يصب في صالح الأسرلة في نهاية المطاف، وهذا غير صحيح. وتسمع من بعض العرب المنخرطين في حكومة الأبرتهايد اليوم مقولات من هذا النوع عن الحزب الشيوعي - الجبهة وحزب التجمع، بصورة سطحية وديماغوغية، ودون حتى رؤية ما يميز كلًا من الحزبين عن الآخر، في التوجه الرؤيوي والبرنامج. كل ذلك يندرج ضمن محاولات المنخرطين في حكومة الأبرتهايد تسويغ النهج الجديد - القديم، المدمر سياسيا وأخلاقيا، وهو ترجمة أوسلوية داخل الخط الأخضر بامتياز.

"الخطاب السياسي المبتور ودراسات أخرى" هو كتاب عزمي بشارة، وهو عبارة عن مقالات كتبها تباعا في المرحلة المبكرة لإطلاق حزب التجمع، والذي جاء في سياق جهود التأطير النظري والفكري للمشروع الجديد، ونشرت في جريدة الحزب – "فصل المقال"، التي عملتُ فيها رئيسًا للتحرير لمدة عام قبل انتخابي أمينا عاما للحزب عام 1997. كان مشروع التجمع وبرنامجه السياسي نتاج عمل جماعي، شارك فيه ممثلون عن عدد من الحركات والمجموعات الوطنية، مثل حركة أبناء البلد وميثاق المساواة وجزء من الحركة التقدمية، وكذلك شخصيات مستقلة، وعقدت مداولات استمرت لأكثر من عام ونصف. ولكن بشارة، أستاذ الفلسفة حينها في جامعة بيرزيت، خلال الانتفاضة الأولى والناشط منذ بواكير شبابه، والمثقف العضوي، المستقيل من الحزب الشيوعي على خلفية تبنيه لأفكار تحررية حديثة، مختلفة؛ مثل القومية الديمقراطية، واليسارية الجديدة، كان الشخص الأقدر والمؤثر الأكبر وأكثر المجتهدين في كيفية تطوير مشروع الحزب الجديد. وأذكر تمامًا، كيف أنه رغم كونه عضو كنيست وحيدًا عن التجمع في السنوات القليلة الأولى، لم يتأخر في العمل الميداني، الوطني والحزبي، والنضالات الشعبية، وفي المجادلات والنقاشات مع الناس والطلاب والمثقفين، التي كانت تتطور وتتّسع بفعل تأثير المشروع الجديد. كان يعود ويكتب عن هذا الواقع، ويحاول تطوير تأطير نظري لهذا المشروع، في إطار ما يُعتبر جدلية النظرية والواقع. وكان يواجه أسئلة صعبة، من خارج التجمع ومن داخله، وكنت أنا وإياه، نتعارض أحيانا بروح رفاقية، خاصة وأنّ كلا منا جاء من خلفية فكرية وسياسية مختلفة، وكان علينا، جميعا، أي مؤسسي الحزب، أن نقطع فترة زمنية معقولة لنصل إلى لغة مشتركة، ونبقي على ما نختلف عليه "للزمن" أو لمرحلة لاحقة. كانت مرحلة فكرية غنية جدًا لي وللكثيرين، وتحديدًا الشباب وطلاب الجامعات، وتعرّفنا على أفكار جديدة مهمّة.

وكتاب "الخطاب السياسي المبتور" النقدي كان نتاج هذا التفاعل بين الفكرة والواقع المركب، الذي أُجبرنا في الداخل على العيش والنضال فيه.

شكّل كتاب "الخطاب السياسي المبتور" الصادر عام 1998، وكذلك كتاب "طروحات في النهضة المعاقة" الصادر عام 2003، مساهمة معرفية هامة في تحليل واقع فلسطينيي الداخل، بالتوازي مع مساهمته الميدانية الشخصية، ومن خلال العمل الحزبي الجماعي. انتقد بشارة في هذين الكتابين الخطاب المشوه المتأسرل، الذي ظهر وتطور في صفوف فلسطينيي 48، كما تعرّض بالنقد للمقولات البحثية الإسرائيلية والتي تأثر بها أكاديميون عرب، التي تتناول واقع التمييز، ونهضتهم المعاقة، بالنظر إليهم كحالة تمييز عادية، بمعزل عن الحالة الاستعمارية التي تعرضوا ويتعرضون لها يوميا.

في مقالة "حيفا المدينة والميناء"، يرى بشارة أن غياب المدينة الفلسطينية في الداخل الذي قطع المشروع الصهيوني الطريق على حداثتها، هو مدخل لفهم ظواهر أخرى متصلة، ومحل نقاش طويل، مثل تعطيل بلورة الهوية الفلسطينية المستمرة، والعوائق أمامها. إذ كتب أنّ "غياب المدينة يعني غياب المركز الثقافي الموحد، غياب الجامعة، والمكتبة الوطنية، والمسرح القومي، ودار النشر الوطنية، ومقاهي المثقفين، غياب المجتمع الفردي، والطبقة الوسطى المبلورة حول مطامح سياسية، ومشروع سياسي قومي. غياب المدينة يعني غياب المجتمع المدني."

وجاء في مكان آخر في الكتاب، في إطار تفسير الخلفية الاجتماعية والسياسية والتاريخية لسلوك الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، والتي يجهلها أو لا يدركها الكثيرون في الخارج والداخل: "يدفع الواقع المادي الاقتصادي والواقع الحقوقي في إسرائيل، والنضالات الطبيعية المترتبة عنها جميعا باتجاه الأسرلة. ولو تم الاستسلام لهذا الواقع، لكانت الغلبة حتما للشق الإسرائيلي من التناقض، حتى على حلبة معركة المساواة، فقد تتأسرل معركة المساواة ذاتها، فتتحول إلى مطلب الاندماج على هامش الدولة العبرية".

ويُلخص الحلّ المطلوب في ظل غياب المدينة في إقامة حركة وطنية جامعة بدأناها بمشروع التجمع، الذي كان في حينه قد بدأ يتجاوز مرحلة الانطلاق، ويصعد نجمُه في سماء الفعل السياسي والشعبي؛ ويحدّد بشارة الجواب: "إن الإمكانية الوحيدة في الواقع الإسرائيلي، لإحداث التحول في هذا المسار هي (الإمكانية) القادمة من مجال الفعل السياسي والثقافي، الذي يحاول أن يواجه إسقاطات الواقع على الهوية السياسية والثقافية المشوهة، بالنضال من أجل الهيمنة الثقافية لمشروع سياسي قومي ديمقراطي". أي ليس المقصود أن يظلَّ المشروعُ حزبيًّا، بل أن يتطوّر ويصبح جزءا من الكل الوطني، الحزبي والحركي والشعبي.

لكننا للأسف، عجزنا عن تحقيق هذا الهدف الكبير رغم الإنجازات الكبيرة والنوعية التي تحققت حتى عام 2015، عام تشكيل القائمة المشتركة، والتي كان للتجمع دور رائد في تشكيلها، سبقتها سنوات طويلة من التنظير لها والسعي لإقامتها، غير أن المتنفذين فيها من الأحزاب الأخرى، حرّفوها عن مسارها وقضوا على الأمل بوحدة وطنية واسعة. لا يمكن تجاهل تلك المرحلة، مرحلة إنتاج حركة وفكر سياسي حديث.

تُسهّل حالة الضعف السياسي والفكري والانحسار الشعبي لبعض الأحزاب، والانحلال الوطني لأحزاب أخرى، وهي الحالة السياسية الرثّة التي تشهدها ساحتنا الوطنية، تجاهل هذه المرحلة المهمّة والتعتيم عليها من قبل الأحزاب وبعض أكاديمييها، أو جهلها من قبل الأجيال الجديدة باستثناء أكاديميين شباب يتناولون هذه المرحلة بموضوعية وبعقلانية وانفتاح، وبروح نقدية نزيهة، سلبا وإيجابا. ونلاحظ تعاطيا مختلفا عند أكاديميين آخرين، إما بالتجاهل الكامل أو من خلال موقف يفتقر للموضوعية والنزاهة، وذلك ينبع من عدة أسباب، إما أيديولوجية، أو فئوية حزبية، أو حساسيات شخصية. ومع ذلك، لا يكف بعض طلائع الجيل الجديد، غير المتأثرة بالأفكار المسبقة، عن توجيه الأسئلة، منذ استقالتي من مؤسسات الحزب القيادية، عن دور التجمع ودور بشارة في التأسيس في مواجهة مرحلة ما بعد أوسلو. ومن واجبنا أن نقدّم لهؤلاء، ومن مصدر مباشر، المعلومات الدقيقة وتقييمنا لتلك المرحلة التي لعبت فيها نخب يعتدّ بها من شعبنا، داخل الخط الأخضر، في ملء فراغ كان يمكن، من دونه، أن يكون مدمرا على الصعيد الوطني.

لقد أشاع حزب التجمع فكرا سياسيا حديثا مؤثّرا، كان موجودا في المرحلة السابقة على تأسيسه على نطاق ضيق جدا، وتحديدًا بين حلقة ضيّقة من الأكاديميين والنشطاء المهتمين بالفكر والأيديولوجيا، وأشاع هذا الفكر وعزّزه في الوعي العام. هو فكر تحدي الجوهر اليهودي العنصري للكيان الإسرائيلي والنظام الصهيوني، واستدعاء الديمقراطية الحديثة المتصادمة مع الصهيونية، وما نتج عن ذلك من فعل سياسي وشعبي رائد. وهذا ما أقلق الإسرائيليين، وفسر حملة التحريض والملاحقة الطويلة لعزمي بشارة ولحزب التجمع. إذ جاء على لسان رئيس جهاز "الشاباك" السابق، عامي أيالون، أثناء محاكمة بشارة عام 2001، أن بشارة تمكّن من نقل خطاب رفض يهودية الدولة من الهامش إلى المركز، وعلى هذا يجب محاكمته. ولم يكن ممكنا أن يتم ذلك بطبيعة الحال، إلا من خلال بناء حزب جماهيري كبير حوّل الفكرة إلى فعل سياسي وفي الميدان. حتى وثائق التصور المستقبلي، رغم نواقصها المهمة، والتي اعتبرها الرأي العام الإسرائيلي، الرسمي والشعبي، مرحلة أخرى من التطرف العربي ضد إسرائيل، بل "خطرًا على الدولة"، لم تكن لتظهر لولا قيام حزبٍ يحمل برنامجًا يتحدى بنية وجوهر الدولة اليهودية والنظام الصهيوني المسيطر على البلاد، ويطرح رؤية لتنظيم المجتمع الفلسطيني المحتل منذ عام 1948.

يُذكر أنّ إحدى أهمّ هذه الوثائق صدرت عن اللجنة القطرية للسلطات المحلية العربية، وشارك في صياغتها حوالي 40 باحثا وأكاديميا، وطُرحت على جدول أعمال لجنة المتابعة العليا لمناقشتها بين عامي 2006 و2007، غير أنه لم يجر تبنيها بسبب عدم توفر إجماع على مضمونها، وكان لكل حزب أسبابه. وهذه الوثائق، التي رأينا فيها آنذاك خطوةً هامة، غير أنه في رأيي تجاوزتها الأحداث، وتحتاج لإعادة صياغة بحيث تقتصر الرؤية المطروحة لمستقبل الفلسطينيين في الداخل، ويجب تطويرها إلى رؤية تحرّرية شاملة تبنى على كون إسرائيل نظام أبارتهايد كولونيالي، وأن كل الشعب الفلسطيني هو شعب واحد، ليس تاريخيا وثقافيا فحسب، بل سياسيا، أي مصيره واحد يتمثل في التحرر من هذا النظام عبر انخراط الكل في معركة تحررية مستمرة، تقود إلى حل ديمقراطي يعيش فيه الفلسطينيون واليهود في مساواة تامة، على أنقاض الصهيونية والاستعمار والفصل العنصري.

كان علينا في حزب التجمع أن نخوض غمار هذا الخيار، منذ سنوات، نراجع مرة أخرى كيفية وصولنا إلى الحالة الراهنة، والقصورات التي ارتكبناها ونطوّر برنامجنا والمضامين الثورية الكامنة فيه، ليساهم في بناء مشروع وطني، ويكبح المنحرفين والمغالين في الانحراف، وتعيد الناس إلى السياسة.

علينا أن نسأل لماذا لم نستأنف النقاش السياسي والتحوّلات في الصراع، الذي بدأ منذ 15 عاما، أي عندما أعلن عزمي بشارة من على منصة المؤتمر العام للحزب، وعلى خلفية استكمال إعادة اجتياح مناطق السلطة الفلسطينية، واعتماد عقيدة دايتون، والذي قضى على وهم أوسلو، قائلا: حان الوقت لفتح النقاش على فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين. ما كان يعني تجميع مصادر قوة الشعب الفلسطيني، والعودة إلى اعتماد المصطلحات والمفاهيم السياسية التحررية الأصيلة، في مقاربة الصراع في فلسطين، والحل الشامل في فلسطين، من منظار الأبرتهايد والإطار الاستيطاني الكولونيالي، بعيدا عن المرحلية التي تحوّلت لدى الحركة الفلسطينية إلى ثابته ونهائية. وكتبتُ بعد فترة قصيرة (عام 2009) ورقة طويلة شخصية تحولت إلى كتيب عن ضرورة قيادة الحزب لهذا التحول، دون أن يجري تبنيها من قبل الحزب. شمل الكتيّب شرحًا لفكرة الدولة الواحدة، من خلال العودة إلى تاريخ الفكرة فلسطينيا، والتعريج على تجربة جنوب أفريقيا الملهمة. كما أنّ واقعنا وكيفية تطوير تجربتنا الوطنية والبنائية حظيا بنصف الكتيّب، وتحديدًا عن خطة إعادة بناء لجنة المتابعة، كطريق لتقوية هذا الجزء من شعبنا، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وليكون قادرا أولا على الدفاع عن ذاته وحاضره وحقوقه اليومية والجماعية؛ وثانيا، ليكون قادرا على لعب دور في التحرّر الفلسطيني الشامل، أو وصولًا للدولة الواحدة.

تراجع الحزب الذي كان يمكنه فرملة الانحراف، وعجز عن تطوير ذاته في مواجهة ملاحقة وضغوط المؤسسة الصهيونية، التي لم تتوقف، ولم يعد التجمع ذلك الحزب الذي يثابر على تحدي يهودية الدولة، أو الذي يثابر بلا كلل على جعل تنظيم المجتمع الفلسطيني في الداخل قوميًا وديمقراطيًا وانتخاب لجنة المتابعة جزءا من الخطاب الثقافي والسياسي العام، ويبقيه على أجندة الجميع. فهل يستطيع وحده القيام بدور معتبر، بعد كل ما جرى في صفوفه، ومن ملاحقة صهيونية، وما يجري على الساحة السياسية منذ عام 2015، من تدمير القائمة المشتركة، وحظر الحركة الإسلامية الشمالية؟

ليس لدى عرب الداخل اليوم أي مركز سياسي وطني جامع، وليس بمقدور أي حزب القيام بذلك لوحده، بل أشك بقدرة الأحزاب مجتمعة على التصدي لهذه المهمة التاريخية طالما هي على هذه الحالة من التشتت والخلاف. إن الخراب الذي نتج عن ذلك كله كبير جدًا، وقد تكون آثاره بعيدة المدى. في كل الأحوال، يحتاج إصلاحه وقتًا، وحتى عندما ينشأ وكيل تغيير مؤهل.

طرأت تحولات اجتماعية وسياسية وأيديولوجية عميقة وخطيرة في الساحة الفلسطينية داخل الخط الأخضر في العقد ونصف العقد الأخير. وقد ضاعت الفرصة لتشييد تجربة سياسية وطنية رائدة، كما حصل في الداخل بعد أوسلو وردًا عليه، بمعزل عن الوضع الفلسطيني العام المأزوم، وفي ظل العداء الصهيوني المستشري والمتعاظم، وتعاظم النزعة الفردانية الناتجة عن تحوّلات عالمية. ومن الفرص الذهبية التي أضاعوها كانت تكوين القائمة المشتركة، التي تم تدميرها، وهبة أيار الماضي الوحدوية المجيدة، التي أخفقت القيادات في استثمارها.

إزاء ذلك، لا بد من البحث عن وكلاء التغيير الحقيقيين على الساحة. وهؤلاء ليسوا القوى السياسية التقليدية الحالية، خصوصًا وأن غالبية الكوادر هجرتها، إما يأسًا أو بحثا عن راحة شخصية، أو نتيجة الانغماس بهموم الحياة الفردية والعائلية التي بات تدبيرها عملية شاقة في هذا الزمن. لكن، بالتأكيد، هناك فئات من خلفيات مختلفة لا تكل عن العمل والعطاء.

ربّما يمتلك بعض العناصر العقلانية والنزيهة في هذه الأحزاب، بما فيها التجمع، الأُهلية لتحريك المياه الراكدة، ولكن لن تحدث نقلة حقيقية إلا بالانفتاح على ما يجري خارج هذه الأحزاب من مبادرات جماعية وفردية، شبابية وغير شبابية رائدة، تسعى إلى إعادة تـأطير الواقع والصراع. والمدخل لعملية التغيير على طرفي الخط الأخضر. ومعضلة هذه المبادرات الكثيرة، ليس فقط على صعيد فلسطينيي الداخل بل في كل الساحة الفلسطينية، هو العجز أو عدم توفر الإرادة أو القدرة على التشبيك، وتوفير ديمومة في العمل وصولا إلى تشكيل قوة شعبية تتحول إلى فاعل سياسي مؤثر؛ يؤثر ويبني ويؤسس. وفي اعتقادي هذا الفاعل السياسي الشعبي قادم، ولكن السؤال كم من الخسارة سنظلّ نتكبّد حتى نصل إلى ذلك. المقصود، أنه يمكن من خلال امتلاك الإرادة اختصار الزمن، وتحقيق الأهداف المرحلية على طريق تحقيق الهدف النهائي.

التعليقات