هل يؤثر تقرير أمنستي على نضال فلسطينيي 48؟

الأولى: لم يعتد الداخل (مناطق الـ48) أن يساءل حول نضاله، وهو قد استعمل وبشكل ديماغوغي، أحيانا، ذريعة "الخصوصية" لكي يتنصّل من مساءلة فلسطينية وطنيّة ضرورية. بالتالي، كانت تعريفات الوطنيّة في الداخل الفلسطيني

هل يؤثر تقرير أمنستي على نضال فلسطينيي 48؟

ملاحظتان في البدء

الأولى: لم يعتد الداخل (مناطق الـ48) أن يساءل حول نضاله، وهو قد استعمل وبشكل ديماغوغي، أحيانا، ذريعة "الخصوصية" لكي يتنصّل من مساءلة فلسطينية وطنيّة ضرورية. بالتالي، كانت تعريفات الوطنيّة في الداخل الفلسطيني تقع دائما خارج المرجعية الوطنية (المتخيلة) وحتّى خارج النقاش السّياسي غير الرسمي، الأمر الذي جعل الدّاخل في كثير من المواقع والمحطّات الإستراتيجية يتصرّف "بحريّة" لا تحكمها ضوابط وطنيّة. عنوان المقال الذي حدده تحرير ملحق "العربي الجديد" (هل يؤثر تقرير أمنستي على نضال الـ48؟) ما يشبه إعادة النظر في ذلك، وهي أعادة نظر ضروريّة تجعلنا لا نكتفي بخطاب "البقاء والصمود"، وبـ"جذور ضاربة في الأرض"، لأنّ خطاب البقاء والجذور هذا قد يغطّي على دور خطير، فقد فائدة الجذور الضاربة في الأرض إذا كانت الثمار مختفية فيها أيضا؟

الثانية: لماذا يتم طرح سؤال دور الـ48 الآن؟ وقد صدر تقرير من قبل الأمم المتحدة (الأوسكوا) عام 2017 والذي اتهم هو أيضا إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري على جانبي الخط الأخضر. وتزامن صدور التقرير حينها مع وجود القائمة العربية الوحيدة في الكنيست (المشتركة) وفي مرحلة تشريع "قانون القومية"؛ أي في نقطة إستراتيجية أكثر بكثير من الآن، لكن أحدًا لم يسأل الـ48 ما هو فاعل أمام "قانون القومية" الذي يضع الفلسطيني أينما كان كوجود لا سياسي، أي كعدم، ولم يسأله أحد فيما إذا كان سيتسلح بتقرير الأمم المتحدة.

الأسئلة الصحيحة... التقاء الانهيار والأمل

يُسأل السؤال الآن، لأن اللحظة التاريخية لصدور تقرير أمنستي صادفت اعتراف وشعور عميق للفلسطينيين بشكل عام بانهيار مسلمات وفرضيات عملهم السياسي في كل مكان. لقد انهار منطق الحركة الوطنية الفلسطينية وانتهى مسارها إلى أفق مسدود، وباتت الأسئلة التي لم تطرح من قبل ضرورية، بالذات تلك الأسئلة التي تستأنف على عملية سطو مفاهيم وتصورات سياسية مبنية على "موازين القوة"، "الواقعية السياسية"، "التعايش مع الصهيونية"، الاحتكام "لجغرافيات سياسية"، وكل ما يقع تحت خانة أو يبرر عدم مواجهة المشروع الصهيوني بوحدة شعب ووطن ومصير سياسي. وأقول "سطو" وليس "هيمنة"، لأن سطوتها بنيت وعلى جانبي الخط الأخضر، ومن قِبل قيادات استخدمت التخويف وترهيب الشارع الفلسطيني من عواقب الغضب والتمرد والرؤى غير الواقعية، وليس بواسطة تطوير قناعات أو التعبير عن خيارات الشارع الحقيقية. لقد حصل هذا السطو السياسي في الجانب الشرقي من الخط الأخضر بذراع قوى الأمن الفلسطيني؛ وفي الجانب الغربي منه بوعيد سياسي من تبعات "استفزاز الشارع الإسرائيلي" وتحريض "اليسار" الصهيوني. القرار السياسي الفلسطيني المستقل من التبعية ومن الخوف كان ضحية ذلك السطو.

بهذا المعنى، ارتهن "السطر الأخير" (الصورة في الداخل مركبة أكثر، لكن هذا سطرها الأخير منذ سنوات) للسياسة الفلسطينية الرسمية على جانبي الخط الأخضر لسقف الغضب الإسرائيلي، أكثر بكثير مما مثل أماني وتطلعات شعبه. أما إسرائيل، فلم يرضها حتى هذا الارتهان، فقدمت صراحة عبر "قانون القومية" ومن ثم صيغته السياسية "صفقة القرن" معادلاتها للحل: مسافة الصفر ما بين التسوية والتصفية.

مسافة الصفر هذه تعني للفلسطينيين إما الارتهان الكامل أو النضال الكامل. لا وسط. هذه هي الأزمة - الفرصة فلسطينيا باختصار، انعدام الوسط. وهي أزمة لعقلية احترفت المساومات ثم المساومات على المساومات، ثم انتظار جولة المساومات القادمة، كما حال التوصية على غانتس ثم الإصرار عليها حتى حين رفضها، ثم المشاركة في الحكومة الإسرائيلية.

لكن ما يُطرح سؤال ما العمل؟ هو ليس الانهيار وحده، بل هو نقيضه: الأمل. ما يدفع الفلسطيني الآن لطرح أسئلته ولو عبر منابر تعمل بشكل جُزر منفردة بلا جامع سياسي ولا مرجعية واحدة، ما يدفع الفلسطيني إلى الخيال والحلم، ويبعث فيه الروح وممارسة ما تبقى من شعور ضروري بإنسانيته، ما يدفعه للتمرد على ذاته: على أطر آمن بها، وطرق سارها، وقناعات ارتكن لها، هو الأمل وليس اليأس. ازدواجية اليأس والأمل لدى الفلسطينيين الآن، هي ما يُحدث هذا الارتباك على الساحة الفلسطينية؛ فوضى الحواس، وفوضى السياسة، والانتقال من تمردات الشارع ووقوف الشيوخ أمام المستوطنين، ووقوف الشباب الغاضب في وجه الشرطة والجرافات، ووقوفهم الباسم في وجه "التيكتوكات"، إلى تسليم سلطة رام الله فلسطينيين لإسرائيل لتقتلهم أو قتلهم بنفسها، وتعاطف منصور عباس مع مستوطنين قتلة. هذا الجنون بذاته يحتاج إلى شعب بطل للتعاطي معه.

الصمود في الشارع... وفي الخيال

إن فجوات التمرد في الشارع، وحَراكات شبابية وثقافية قاطعة للجغرافيات الفلسطينية تبني وتمارس قدر المستطاع فكرها التحرري وأدوات مواجهتها. مظاهرات تخرج دون انتظار أو توقع ومن فئات غير متوقعة ولا تحسب عادة ضمن القوة السياسية، والتغذية والإسناد من خطاب أكاديمي يتعاطى مع إسرائيل كاستيطان استعماري ويعمم هذا الوعي، ومن تقارير عالمية تصفها بالاستعمار، وأخرى عالمية وإسرائيلية تصفها بالأبرتهايد؛ هي ما يطرح منطق التعاطي مع مسار بديل مناقض جذريا لما كان. هذا البديل لم يُحدد ولم يُبلور كمشروع سياسي بعد، وهو لا يتحدد بقرار ولا بحدث، بل هو مسار طويل وتراكمي ينتج عن عمل متواصل وواضح البوصلة. والحياة لا تعد أدواتها بشكل مسبق، بل هي تنضج بحكم التفاعل مع المرحلة وعدم الاستنكاف عن التحديات. تكثر في هذه المرحلة الأسئلة السياسية الكبرى حول كيفية إعادة بناء شرعية جامعة، وكيفية إعادة بناء المشروع التحرري الجامع، وما هي برامج العمل التي يمكن لها أن تدفع قدمًا بتلك الأجندة، وما هي الأولويات التي ترفعنا لمرحلة إستراتيجية متقدمة. البعض يطرحها كأسئلة فكرية نظرية، وآخرون يرون أن الأسئلة تطرح مع العمل وأن الفعل السياسي هو من ينتج أسئلته وإجاباته.

شعبنا الفلسطيني في وطنه يتخبط أكثر، ويعارك اشتباك الحياة اليومية مع الأسئلة الكبرى بشكل يختلف عن حراكات الشتات، فيما يبدو أن سقوط وهم تجزئة الصراع والقضية والمصير، لا يعني أن الجغرافيات السياسية الفلسطينية المختلفة لم تعد تنتج اجتهادات وتصورات مختلفة، وأنها بدأت تنتج المقاربات نفسها لمفهوم الأزمة الحالية، أو أولويات العمل، أو كيفية الإجابة عن أسئلة المرحلة. بالعكس، ما زالت التجمعات الفلسطينية بافتقاد إطار فلسطيني جامع، تعيش تحديات المرحلة وأسئلتها بطريقتها الخاصة وحتى بمنطقها الخاص، وما زلنا نختلف في مدى أهمية وضرورة البحث في هذه المرحلة تحديدًا عن أجندة عمل فلسطينية جامعة وإطار جامع، أو في أن النضالات والتحدي المستمر سينضج بنفسه شروط الأطر الجامعة.

الداخل (48) في الحوار الوطني المفقود

من يرى الصراع صراعًا وطنيًا، يرى الداخل الفلسطيني جزءًا من هذا المشهد الفلسطيني العام. وهو منطق يتناقض تماما مع منطق "دعه يعمل"، وهو المنطق الذي حوّل "الخصوصية" الفلسطينية داخل الـ48 إلى ذريعة للغرق في منطق وأدوات إسرائيلية، حتى أصبحت خصوصية إسرائيلية أكثر منها خصوصية فلسطينية بكثير، وهو منطق مناقض لمن يرى أن القضية الواحدة تحتاج لفهم ولبوصلة وطنية جامعة.

أما عملية إعادة النظر في بوصلة ومنطق ومفاهيم العمل السياسي لدينا في الداخل، فلن تأت من خلال الأطر السياسية الحزبية. لا القناعات السياسية التي تحكم بعضها ولا التراجع والتغييرات البنيوية والكسل والتراخي الذي حكم بعضها الآخر، يجعلها مرشحة لتغييرات ولإعادات نظر جدية. كما لن تجرؤ لجنة المتابعة الذي يعول عليها "الخارج" الفلسطيني أكثر، على فتح أسئلة كبرى لا تستطيعها الأحزاب على شاكلة: تطوير تصورات سياسية واضحة تعلن الحد بين المشروع وغير المشروع سياسيًا، وتنطلق من مرجعية وطنية فلسطينية متخيلة، مرجعية نستطيع تخيل مفاهيمها حتى بغياب إطار تنظيمي يجسدها، وتأسيس ذلك كرادع سياسي أخلاقي يجعل الدخول في الحكومة الإسرائيلية مثلا خروجًا عن الشرعية السياسية، وعن كافة التنظيمات واللجان والهيئات السياسية الجامعة، أو على شاكلة إعادة بناء حركة وطنية فلسطينية جامعة في الداخل، مكونة من أحزاب وحراكات شعبية وشبابية وثقافية متحررة من قيود تمثيل الكنيست، وتعرف نفسها كجزء من الحركة الوطنية الفلسطينية، وتطرح الإجابة على تحدي مخطط التصفية الذي طرحته إسرائيل ممثلا بـ"قانون القومية" و"صفقة القرن"، أو قضية تمثيل الفلسطينيين في المسار الفكري على الأقل الذي يدعو إلى إعادة بناء منظمة التحرير، وطرح فلسطينيي الداخل كطرف في النقاش كجزء من الشعب الفلسطيني، بغض النظر عن التصورات النهائية لكيفية تمثيلنا أو دورنا أو علاقتنا مع منظمة التحرير التي ندعو إلى إعادة بنائها.

لقد دعم هذا الأداء السياسي المشلول تنظيرات من خارج الأحزاب احتضنت مفاهيم الواقعية السياسية، وبررت الأداء السياسي للأحزاب وللخط المهيمن داخل القائمة المشتركة، وحاولت تخفيف الربط بين هذا الأداء وبين الوضع الذي وصل إليه الفلسطينيون، كما حاولت محو التمايزات بين الأحزاب السياسية في الداخل أو تشويهها، وذلك في أحرج أوقات حاجة شعبنا والأحزاب نفسها إلى نقد إستراتيجي، وما زال هذا الخطاب مستمرا بطبيعة الحال.

إن أحد أهم الإسنادات التي تحتاجها المرحلة الحالية هو تعزيز خطاب فكري مساند لمنظور التحرر، يدخل في ذلك التيار الفكري لدراسات الاستعمار الاستيطاني الذي له دور كبير في تطوير رؤى تدفع للتحرر مبنية على فهم إسرائيل، وفهم الصراع كصراع في مواجهة مشروع استعماري، كما تدخل كتابات ودراسات وتحليلات أكاديمية وغير أكاديمية ركزت على دراسة الفعل السياسي للمستعمر، منها من اختار نقد التجربة السياسية للأحزاب وللأطر السياسية التمثيلية من منظور مواجهة المشروع الصهيوني والانخراط في الحراك وفي الرؤية الفلسطينية الجامعة، فانتقدت الأحزاب والمشتركة كرؤية وكإستراتيجية سياسية إسرائيلية خارج المنظور الوطني الفلسطيني، وليس كمجرد "أخطاء" في الأداء، ومنها من انتقد المشاركة في الكنيست من أساسها، ومنها من نظر لمنظور تحرري من خارج الأطر السياسية التقليدية، وركز على أهمية تطوير نضال وفعل سياسي مختلف وضمن أطر وأدوات عمل مختلفة، ونرى مؤخرا منابر فكرية مهمة تحتضن طاقات فكرية شبابية هامة.

يحتاج الداخل في هذه المرحلة إلى حوار فكري وطني عام يناقش دوره من منظور تحرري جامع، مع التأكيد على دور مراكز الأبحاث الفلسطينية في هذه المرحلة في إعادة بناء الوعي التحرري الفلسطيني وترميم الثقة بالذات، وقد تكون المرحلة مناسبة لتطوير منابر فكرية مشتركة ما بين مراكز الأبحاث هذه، وبين المبادرات والمنابر الشبابية والثقافية.

إن القناعة بهذا المسار التحرري البديل الصعب والشاق، والمؤشرات الحية لإمكانيات تطويره، هما شرطان غير كافيين طبعا لاستمراره، كما أنه ليس النتيجة الوحيدة لما يجري حاليا، لكنه الممكن الوحيد إذا لم يشأ الشعب الفلسطيني أن يعلن عن "نهاية التاريخ" من جهته. أحيانا، "الخيارات الراديكالية" هي أكثرها واقعية إن أردنا.


نشر هذا المقال في ملحق "فلسطين" – صحيفة "العربي الجديد" (29 شباط/ فبراير 2022)، وننشره هنا بصيغته الموسعة.

التعليقات