لغة الحرب: أن تملك لغتك

يجب علينا تبني خطاب واحد، وسردية واحدة، يكون فيها المُخاطَب، سواء كان فلسطينيًا في غزة، أو فلسطينيًا عمومًا، أو عربيًا، أو مسلمًا، أو متابعًا غربيًا، يتلقى اللغة نفسها، لغةَ صاحب الحق في الدفاع عن نفسه، بدون إملاءات، وبدون مصطلحات اعتذارية

لغة الحرب: أن تملك لغتك

(Getty Images)

تعود آلة الاستعمار الاستيطاني بقوتها الغاشمة على الفلسطينيين في قطاع غزّة بعد عامٍ وشهرين، تقريبًا، على آخر حربٍ ساحقة ضدّه. تتعالى في هذه الفترات أصوات الوعي المقاوم الساعية إلى "تعليم" الناس كيف يتحدثون وينشرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتبيّن لهم المسموحات والمحظورات، وقد تتباين مستويات دقة التعليمات المنشورة، إذ يكون بعضها صحيحًا، ولكن يكون بعضها الآخر واقعًا في فخ الآلة الإعلامية الصهيونية والتي تحاول تدجين طريقة طرح الفلسطيني لسرديّته، كي لا يُغضِب المُجتمع الدولي. رأينا في هبة أيَّار الماضية أن القوة الإعلامية تنبع من تجاهل كافة تعليمات الموضوعية، وعبر التحدث بلسان الشعب، أي عبر التخلص من كافة الإملاءات الخارجية والمتأثرة بالتجاذبات السياسية للمؤسسات الرسمية والأحزاب، والتي يجب عليها أن تحسب مئة حساب، قبل إصدار خطابٍ للعالم.

الرأي العامّ

ما يُميز الرأي العام الفلسطيني، والرأي العام العربي، والرأي العام العالمي، أن الحديث معه وإليه لا يستوجب تلك الدرجة من الصَّوابية السياسية، بل يتطلب القوة في انتزاع الحق، دون خوفٍ أو تراجعٍ أو ترددٍ. فلو سألنا أي فلسطيني في شوارع غزة أو رام الله أو في الأراضي المحتلة عام 1948 أو حتى الفلسطينيين في كافة أماكن شتاتهم عن رغبتهم بشأن فلسطين، فالكل سيجيب بأنه يريد تحريرها. هذا النوع من الخطاب قادر على توحيد الصوت الفلسطيني، خصوصًا أنه يشملهم جميعًا، ويعطيهم ذلك الشعور بأن ما يحصل يُهمهم، وليس خاصًا بغزة أو بالضّفة أو القدس أو أي مكان على وجه التحديد.

ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن كل طُرق تناول العدوان على غزة يجب أن تشير إلى سياق القضية الفلسطينية كاملًا، وأننا نواجه آلة الاستعمار الاستيطاني، الذي يحاول تهجير الفلسطينيين في مسافر يطا وفي أحياء القدس، والذي يعتقل الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويتجاهلهم في مناطق 48، والذي يسمح بتواصل النكبة في كل أرجاء فلسطين، ويمنع اللاجئين من العودة إلى بلادهم، فعند السؤال عن ماذا يريد الفلسطينيون الآن، تكون الإجابة واحدة في كل الأوقات والأماكن: يريدون تحرير فلسطين من المُستعمِر الصهيوني.

العدوان... على من؟

بدأت إسرائيل عدوانها على غزة عن نيّة مُبيّتة، وكانت الآلة الإعلامية قد جُهزت كاملة لها، وأخذت تنشر بأن عداونها موجّه ضد الجهاد الإسلامي دون غيرها، وأنَّها لا تستهدف أهل غزة. وعلينا أن نكون حذرين جميعًا لئلّا نقع في استخدام فخِّ لغة الخطاب الإسرائيلي، فهو بوصفهِ هذا للجهاد الإسلامي، وتمييزه الفاصل لها عن حماس أو عن أهل غزة، يحاول أن يقول للعالم إن حركات المقاومة الفلسطينية ليست جزءًا من نسيج المُجتمع الفلسطيني في غزة والضفة، وإن ثمة فرقا بين الناس وبين حركات المقاومة.

جانب من قصف الاحتلال في غزّة (gettyimages)

في هذا السياق، ينبغي لنا أن نشير إلى كافة قوى المقاومة على أنها مقاومة فلسطينية، وعلى الرغم من أنها مُسلحة، إلا أنها مقاومة شعبية، خصوصًا أن أبناء هذه الحركات والفصائل، جزء لا يتجزأ من نسيج المُجتمع الغزّيّ والفلسطينيّ، وهم يضحّون بحياتهم وبتجاربهم وبكل ما يملكون لأجل قضية فلسطين التي يؤمنون بإمكانية تحريرها. علينا أن نكون مُعينًا لهم، وأن نستخدم لغة موحَّدة في الإعلام المحلي والإقليمي والدولي، لغة تشير إلى أن العداون ليس موجهًا ضد حركة الجهاد الإسلامي، وإنما ضد الشعب الفلسطيني، لأن التفرُّد بحركة واحدة يُسَهِّل شيطنتها، خصوصًا لوجود كلمة "الإسلامي" فيها، والتي تسمح لآلة الإعلام الصهيوني بتشويهها تحت مُسميات الإرهاب. الإرهاب الوحيد هو إرهاب دولة الاستعمار الاستيطاني. كل حركات المقاومة الفلسطينية حركات شعبية، وأبناؤها من الشعب نفسه، يعيشون بيننا، ولا نعرف عن كثير منهم شيئًا. لأنهم لا يريدون فضلًا ولا مدحًا. آمنوا وانتموا لقضية تحرير أراضيهم المُحتلّة، وعلينا أن نكون لهم سندًا ودعمًا.

ولا يجب أن ننجرَّ إطلاقًا إلى مُعسكر الاحتلال، أو أن نضع أنفسنا في المحل الدفاعي والتبريري إعلاميًا، بل يجب أن نعيد الحوار إلى أصله دائمًا، فلا يمكن أن تكون حجة الإعلام الصهيونيّ باستخدام "المقاومة" للمدنيين كدروع بشرية، صحيحة، إلا في سياق فصل الاثنين عن بعضهما.

يتجاوز عدد سكان قطاع غزة مليوني نسمة، وكله مكتظّ بالسكان، وكل سكانه مقاومون، وكل مقاومتها منها. عدوان إسرائيل ليس موجَّهًا ضد أحدٍ بعينهِ، بل إنه ضدّ الوجود الفلسطيني أينما كان.

من بدأ العدوان؟

منذ بداية العدوان لدولة الاستعمار الاستيطاني في الخامس من آب/ أغسطس الجاري، أخذت قنوات الإعلام الفلسطينية والعربية على التأكيد بأن إسرائيل هي من بدأت العدوان هذه المرة، وأرى في الأمر خطأ كبيرا، إذ إنه يُجرّم الفلسطيني في حال كان هو من بدأ بالدفاع عن نفسه. العدوان على غزة ليس ضد غزة فقط. يعيش في غزة أكثر من مليون لاجئ من كافة أنحاء فلسطين، وهؤلاء يرتبطون بتاريخ قراهم المهجّرة ومدنهم، ويرعِب الأمر هذا دولة إسرائيل، لأنه يعني وجود أناس يحلمون ويعملون لأجل عودتهم.

"تجاهل تام أو شبه تام للرجال" الضحايا (gettyimages)

كل ما يفعله الفلسطيني مُبرَّر في سياق حرب تحرّره من الاستعمار الاستيطاني، كما تحررت دول كثيرة قبله، فهو يمارس حقّه الطبيعي في الدفاع عن مقدراته وعن حقه في الحياة في أرضه بسلام وأمان. غزة هي فلسطين وفلسطين هي غزة والضفة ومناطق 48، والشتات الفلسطيني في العالم العربي والعالم. كلها قضية واحدة في سياق حرب. الحصار على غزة حرب. منع الأدوية والتكنولوجيا حرب. عذاب الفلسطيني في المطارات الدولية حرب. لا يهم من بدأ. هذه حرب تحرر وطني. كل الأدوات والسبل متاحة.

من العدو؟

في أوقات العدوان وفي غير أوقات العدوان، المسؤول الأول عن كل ما يحصل في فلسطين هي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فلو أُصيبت إصبع قدمك وأنت تعمل مهاجرًا في دولة أوروبية، فالمسؤول هو إسرائيل، لأنها شرّدتك من خيرات بلدك، ودفعتك للهجرة بحثًا عن حياة رغيدة. كل الفساد في المؤسسات الفلسطينية سببه إسرائيل. كل الاستبداد حولنا سببه إسرائيل.

هل يرتقي هذا لنظرية المؤامرة؟ لا إطلاقًا، في أوقات مواجهة العدوان الحالي، والعدوان المستمر، علينا توجيه أسهمنا نحو المسؤول الحقيقي والذي يضيّق على قدرات الناس في غزة مثلًا في تحقيق أسباب سعادتهم، وتحقيق حقهم في حياة سهلة مثلهم مثل شعوب العالم الأخرى.

من وقفة مساندة لغزة في حيفا ("عرب 48")

غزة والضفة ومناطق 48، وكل الأراضي تحت الاستعمار الاستيطاني، وهذا يجعلها في حالة اشتباك مُستمرّ مع السلطات الإسرائيلية وسياساتها وقوانينها وقمعها وخططها، وبالتالي، لا يجب أن يكون أفق توقعنا لأن تكون الحياة فيها سهلة ورغيدة، وإلا فسنقع في فخّ كيِّ الوعي الذي تقوده المؤسسة الصهيونية، محاوِلةً إخبار الفلسطينيين، كذبًا، أن بإمكانهم تحقيق "السعادة"، إذا ما تخلوا عن مقاومتهم، ولكننا نعلم أن معكرتنا معهم، حرفيًا، معركة وجود، وعليهِ، يجب أن يكون توقعنا مواجهة واشتباكا مُستمرا مع العدو الرئيسي والأساسي، وهي دولة إسرائيل، وكل من يدعمها.

جندرة الحرب

في كل سياقات الحُروب والنزاعات والاستعمار، دائمًا ما تتم الإشارة الأولى إلى صُور النساء والأطفال على أنهم الضحايا، ويكون هذا في تجاهل تام أو شبه تام للرجال منهم. في الآونة الأخيرة مثلًا، مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ضجّت المواقع الإخبارية الأميركية والأوروبية ومواقع عربية كثيرة، بصورٍ للنساء الأفغانيات في السبعينيات أو لصور المحال التجارية أو لقصص عن النساءِ بوصفهن ضحايا لما يحصل هناك، وتحوُّل الجميع إلى فُرسانٍ وأبطال يريدون إنقاذهنّ.

وفي الحروب المُتكررة على قِطاع غزّة، عادةً ما تتم الإشارة إلى عدد الشهداء، مع تركيز كبير على عدد النساء والأطفال، وهو ما قد يعني أنهن الضحايا فقط، وأن الرجال ليسوا ضحايا لهذا الفعل البربري القاتل. قد تكون هذه الإشارة محاولة من الصحافيين أو المحلّلين لجلب التعاطف، ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الفعل ليس بريئًا. وقد ظهر استخدام هذا المصطلح لأول مرة على يد سينثيا إنلو عام 1990، لتوظيف الخطاب الجندري من أجل تبرير حرب الخليج الأولى.

وها قد شهدنا الحرب الروسية في أوكرانيا قبل أشهر، وعلى الرغم من الاشتباك بين الطرفين، لا يوجد في الإعلام العربي أو الغربي أي محاولة لجندرة الحرب على أوكرانيا، حيث كل الشعب هناك يكون ضحية وصاحب حق في المقاومة، وعلينا أن نكون أكثر وعيًا في استخدامنا وتوظيفنا لمصطلحات المقاومة، بحيث نُعلن أن كافة أبناء فلسطين مقاومون، وكلهم مدنيون، وكلهم ضحايا، دون تفريق لا على أسس جندريّ أو حزبيّ أو سياسيّ أو غيرها، فالتمييز بيننا وبينهم، أننا كلنا فلسطينيون، مقابل الكل الإسرائيلي.

(gettyimages)

وأقتبس هنا من مقالة لمايا مكداشي من ترجمتي عبر موقع "جدلية"، بعنوان "ألا يكون الرَّجل الفلسطيني ضحيّة؟ جَندرة الحُروب الإسرائيلية على غزّة": "علينا الآن أن نكون أكثر وعيًا في توظيف هذا المفهوم عند الحديث عن غزة بشكل خاص وفلسطين بشكل عام. يُحقق هذا المفهوم عدة أغراض خطابية، أبرزها: جمع النساء والأطفال في مجموعة لا يمكن تمييزها ويجمعها ’تشابه’ النوع الاجتماعي (الجندر) والجنس، وإعادة إنتاج جسد الذكر الفلسطيني (وجسد الذكر العربي بشكل عام) ليكون بالوضع طبيعي جسدًا خطيرًا. وعليهِ، فإن وصف الفلسطينيين الذكور (يشمل الأولاد من سن الخامسة عشرة وما فوق، وأحيانًا يبدأ من سن الثالثة عشرة) على أنهم ’مدنيون’؛ يكون وصفًا حذرًا ومحسوبًا".

وانطلاقًا من هذا، يعيش الكل الفلسطيني، من الرجال والنساء والأطفال، ضمن بنية تحتية خطابية ومادية تحددهم وتحجزهم وتعزلهم وتحتلهم وتفرقهم وتحرمهم من حقوقهم، وتعيق تنميتهم، وتضعهم تحت الحصار، وتشن حربًا عليهم، بدون محاسبة أو عقاب. لم تعُد هذه الممارسات اليومية تصدمنا. ربما لم يعد الأمر مفاجئًا، نظرًا لتطبيع الموت البطيء والإبادة الجماعية والعنف البنيوي والتبعية التي تعيشها يوميًا محميات الأميركيين الأصليين أو الأراضي الأسترالية الأصلية. حقيقة الأمر أن تطبيع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي هو الذي يُنتج الحرب اليوم على اللاجئين الذين يعيشون في سجن مفتوح في غزة، باعتبارها "حدثًا" منفصلًا ومدانًا.

خِتامًا

في مواجهة دولة الاستعمار الاستيطاني وآلته الإعلامية القبيحة والعاملة والمؤثرة على كافة مستويات التأثير، يجب علينا تبني خطاب واحد، وسردية واحدة، يكون فيها المُخاطَب، سواء كان فلسطينيًا في غزة، أو فلسطينيًا عمومًا، أو عربيًا، أو مسلمًا، أو متابعًا غربيًا، يتلقى اللغة نفسها، لغةَ صاحب الحق في الدفاع عن نفسه، بدون إملاءات، وبدون مصطلحات اعتذارية، وبدون وقوعٍ في مصطلحات المُستعمر الأبيض. في هذا الوقت، علينا جميعًا أن ننطق بلسانٍ واحدٍ؛ عدوّنا إسرائيل، وهدفنا مجابهة دولة الاستعمار الاستيطانيّ وإلغاؤه، وتحرير كامل تراب فلسطين، وعودة اللاجئين، ومحاكمة المجرمين، وتحيا فلسطين عربية حُرة.


* كاتب ومترجِم من غزّة.

التعليقات