22/07/2005 - 13:49

معنى العروبة / عوض عبد الفتاح

معنى العروبة / عوض عبد الفتاح
على مستوى الواقع السياسي الراهن في المنطقة والعالم، تبدو الفكرة القومية أقرب الى الخيال والوهم، بالضبط مثلما بدا الكثير من الأفكار الكبيرة والطموحة في حقب تاريخية شبيهة بالتي نمرّ بها.

بطبيعة الحال ليست أي فكرة أو أي مشروع قابلاً للتحقق، فالفكرة تحتاج الى منطق، وأن تكون تعبيراً عن حاجة حقيقية للناس تدركها النخب القائدة وتديرها وفق قدرتها على قراءة الواقع المعين. ويمكن القول أن هناك أفكاراً ومشاريع سقطت لأنها غير واقعية ولأنها سارت ضد تيار التاريخ وطبيعة الإنسان. وهناك مشاريع وأفكار أخفقت بسبب تضافر إخفاقات القادة وعوامل خارجية استهدفت المشروع ذاته لأنه يهدد مصالحها.
منذ فترة، وخاصة بعد احتلال العراق، تتعرض الفكرة العروبية الى هجوم شديد من داخلنا، مستندين الى ممارسات حكام مارسوا حكمهم باسم القومية، وهؤلاء الحكام هم أكثر من أساؤوا للفكرة القومية وللطموح العروبي.

إن العروبة ليست نظام حكم، وليست أيديولوجية بل هي انتماء، وهي الوعاء الحضاري الذي ننتمي اليه. هي اللغة والتاريخ والثقافة والجغرافية الواحدة. إن سقوط نظام بفعل الغزو، أو بسبب ممارساته الداخلية القمعية، أو استسلام نظام آخر صعد الى الحكم باسم العروبة، للإدارة الأمريكية واستبدالها بالفكرة الأفريقية، أو تعثر نظام آخر لإخفاقات متراكمة، لا يلغي الواقع الثقافي التاريخي والجغرافي الخاص بالمجموعة البشرية التي تقطن منطقة تمتد من الأطلسي غرباً الى الخليج شرقاً حتى بلاد الشام والرافدين شمالاً، ويعيش فيها حوالي 300 مليون إنسان.

لم تُخفق الفكرة القومية، إنما الرؤية الأيديولوجية لكيفية تحقيق هذه الفكرة هي التي سقطت. أيديولوجية الحزب الواحد والشمولية وسحق المجتمع المدني. وحقوق الفرد - المواطن.

وللموضوعية، يجدر التمييز بين التجربة القومية الناصرية وبين تجارب قومية في دول عربية غير مصر وإن كانت هناك قواسم مشتركة في مجال التعددية والديمقراطية السياسية بشكل خاص، التي غابت ايضاً عن التجربة الناصرية.

لم تكفّ القوى الخارجية يوماً عن معاداتها لمشروع القومية العربية، مشروع توحيد العرب في دولة واحدة حديثة وقوية وتسيطر على مقدراتها. والقوى الخارجية اليوم، مستفيدة من إخفاقات النخب العربية الحاكمة وعجزها، تسعى بكل قواها الى تفكيك البعد الثقافي الباقي، الهوية العربية للمنطقة عبر مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يضم ايضاً اسرائيل، وإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان. وفي مرحلة السقوط والإنهيارات التي نشهدها، وهي مؤقتة، يتهافت المنظرون في الدول العربية ليقدموا مساهماتهم البائسة التي تدعو الى الإستقالة من العروبة والى اللحاق بالليبرالية الأمريكية.

لم تكن فكرة توحيد الأمة العربية في مشروع سياسي التي أشغلت المناضلين والنهضويين العرب منذ أوائل القرن العشرين، حلماً أو وهماً. لقد نشأ هذا الطموح العربي في النهضة والتقدم في فترة القرن التاسع عشر وبدأ بالتبلور في بدايات القرن العشرين، أفاق خلالها العرب والمسلمون على تخلفهم عن الغرب الذي جاءهم مستعمراً معززاً بالآلة الحديثة وطرق الإدارة العصرية والنظام السياسي الحديث.

لقد تابع النهضويون العرب الأوائل، صعود قوة الدول الأوروبية، وتشكل الوحدة الإيطالية والألمانية وظهور حركات قومية أوروبية كثيرة.. حيث تطابقت حدود الدولة السياسية مع حدود اللغة والثقافة والتاريخ.

كما شهدت هذه الفترة، وبتأثير النزعة الإستعمارية للدول الأوروبية، ظهور فكرة المشروع الصهيوني أي المشروع القومي اليهودي، وإقامة دولة قومية صهيونية في فلسطين، ولكنها جاءت مسخاً لفكرة الدول القومية الأوروبية التي قامت في الأساس على اعتبار المواطنة هي العلاقة التي تنظم علاقة الدولة بالفرد وبالجماعة.

إذن كانت تلك حقبة تشكل القوميات والدولة- الأمة باعتبارها الإطار الحديث لتنظيم المجتمع. وهي ايضاً حقبة الصراع الطبقي الذي اشتد مع اشتداد النزعة الرأسمالية وتفاقم الإستغلال للعمال وإفلاس الفلاحين والحرفيين الصغار أمام الوحش الرأسمالي الذي قادته طبقة البرجوازية وظهور قوى ثورية تناضل من أجل إلغاء الإستغلال الطبقي. ولكن الدولة-الأمة الحديثة ليست تعبيراً عن مصالح البرجوازية فقط، بل هي مظهر أيضاً من مظاهر الإجتماع البشري. وهذا ما حاول الماركسيون العرب قوله خطأً في الطموحات لتوحيد الأمة العربية، وكأنها تعبير عن طموح البرجوازية العربية الصغيرة، وليس طموحاً شعبياً عربياً عبرت عنه هذه النخب العربية المتنورة والمتأثرة بأفكار الغرب والمستندة الى المخزون الحضاري العربي الإسلامي.
لم تكن ردة الفعل الأولى على وصول مظاهر الحضارة الأوروبية الى العالم العربي، خاصة في مصر، أثناء حملة نابليون على مصر (1798) سؤال هوية - عربي أم أوروبي، مسلم أو مسيحي. كان السؤال سؤالاً نهضوياً. أي لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب« ولذلك بعد احتكاك العرب بالغرب شهدت بلاد الشام ومصر في القرن التاسع عشر محاولات تحديثية لطرق الإدارة؛ إدارة المؤسسات والنظام السياسي ولإصلاح التعليم، ولكن ظلت البنى الثقافية - المجتمعية بعيدة عن هذه المحاولات. جرت في هذه الفترة محاولات محمد علي باشا، حاكم مصر لتحديث مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر والذي امتد حكمه لأربعة عقود، ولكن تم إجهاض مشروعه من الغرب والدولة العثمانية. وظهر محدثون، مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي، ثم الشيخ جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وبطرس البستاني، ومحمد عبده ورشيد رضا، وفرح أنطون، وزكي الأرسوزي وغيرهم الكثيرون.

لقد وجد هؤلاء أمامهم تركة متخلفة كانت من إرث الدولة العثمانية، التي حكمت العالم العربي لأكثر من أربعة قرون. تسلم الأتراك خلافة الدولة الإسلامية ولكنها لم تحفظ الأمانة. عندما جاءت الغزوة الغربية الجديدة، لم يكن العرب مهيئين للدفاع عنها، وفي مواجهة هذه التركة الثقيلة. ورداً على مطالبتهم باللا مركزية ومنح العرب حكماً ذاتياً أقدمت السلطة التركية على أعمال قمع شديدة ضد العرب المطالبين بالإصلاح. واشتد العداء بعد أن سعت تركيا خاصة بعد صعود حكومة الإتحاد والترقي عام 1908 إلى تتريك العرب بدل أن تسعى هي الى تبني اللغة العربية باعتبار أن أغلبية رعاياها كانت من العرب. إن من يحنّ الى حكم تركيا، باعتبارها كانت دولة الخلافة، عليهم أن يسألوا أنفسهم كيف ساهمت دولة الخلافة بتسليم المنطقة العربية التي كانت تحت حكمها وأمانتها الى الغرب وجرى تقسيمها الى دويلات قطرية لا نزال نعاني حتى اليوم من آثارها المدمرة. وإذا كان بعض العرب مثل الشريف حسين تحالفوا مع الغرب الذي غدرهم في ما بعد، من أجل استقلال العرب عن تركيا، فإنهم فعلوا ذلك بسبب الظلم والتخلف تحت حكم العثمانيين.

لقد كان من حق العرب أن يطالبوا بالإستقلال وأن يبنوا دولتهم العربية الواحدة، ولا زال هذا الحق والمطلب واجباً وشرعياً.
لم تكن ثورة عبد الناصر والضباط الأحرار إلا تتويجاً لمجمل مسيرة الكفاح التي خاضها الشعب المصري والحركة الوطنية المصرية بتياراتها الحداثوية العلمانية والدينية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ضد الإستعمار والتخلف ومن أجل تحرير الإنسان والفلاح المصري من العبودية.

لقد كان لعبد الناصر الدور الأساسي في ربط الوطنية المصرية بالقومية العربية. ويقول دارسو مسيرة عبد الناصر أن الوعي العروبي تغلغل إلى عقل وقلب عبد الناصر وهو في المدرسة الثانوية وكان لدخوله الكلية الحربية ومن ثم مشاركته في حرب فلسطين أثر كبير في بروز وعيه العروبي.

ويقول في كتابه فلسفة الثورة: »ولما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض عربية، وليس انسياقاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس«.

إذاً كانت الفكرة العربية بالنسبة لعبد الناصر حقيقة بديهية وحقيقة تاريخية وخبرة عاشها بنفسه، بين أبناء الأمة العربية. كان ذلك قبل أن يحلل فكرة الأمة العربية تحليلاً نظرياً وينظر في بنيتها وجذورها وتطورها. وكان يرى »أن الأمة العربية تعتز بتراثها الإسلامي وتعتبره من أعظم مصادر طاقتها النضالية وهي في تطلعها الى التقدم ترفض منطق هؤلاء الذين يريدون تصوير روح الإسلام على أنها قيد يشدّ الى الماضي. وهي ترى أن روح الإسلام حافز يدفع الى اقتحام المستقبل على توافق وانسجام كاملين مع مطالب الحرية السياسية والحرية الإجتماعية والثقافية«.

باختصار إن قراءة مشروع عبد الناصر الوحدوي، يعني أنه كان يريد حشد طاقات الأمة، وتحرير الإنسان العربي من الإستعمار والعبودية الداخلية وبناء دولة عربية حديثة، وجرت في فترته الأولى خطوات عظيمة على مستوى مصر من حيث إلغاء النظام الملكي الفاسد، تبنّي مجانية التعليم والإصلاح الزراعي وتأميم شركة قناة السويس. وعلى المستوى العربي، تعميم الفكرة القومية العربية والمساهمة في تنظيف مصر ودول عربية أخرى من الوجود الإستعماري (مصر الجزائر واليمن) وتصديه لحلف بغداد عام 1955. لقد عني مشروعه العروبي ببلورة هوية عربية جامعة كبديل عن الولاء للعشيرة، والطائفة والإقليم.

إن دراسة قصورات الثورة وأسباب إخفاقها لا يقل أهمية عن دراسة إنجازاتها التي يسعى البعض الى طمسها كلياً ليس من أجل بناء مشروع وحدوي حديث، بل من أجل استبدال التوجه العروبي بتوجه آخر يعوق نهوض الأمة. وتجري منذ اكثر من عقد اجتهادات جدية ومراجعات جذرية لهذه التجربة الفريدة.
لا يزال أمام التيار القومي العربي ملفان يتعين عليه أن يحسمهما: الملف الإسلامي أي العلاقة بين العروبة والإسلام والملف الديمقراطي والمواطنة. وبخصوص الملف الأول تجري مؤخراً اجتهادات ومحاولات نظرية وعملية لحل الإعتراض المفتعل بين العروبة والإسلام، ويتحمل المسؤولية الأساسية عن ذلك الإسلام السياسي، وبعض تياراته التكفيرية. كما أن بعض تيارات التوجه القومي ايضاً استخف بعلاقة الإسلام بالعروبة وبالدين كجزء من تكوين المجتمع العربي.

على أية حال فإن حسم الملف الديمقراطي باتجاه عصري هو مفتاح لحل قضايا أساسية يواجهها العالم العربي.

إن التيار القومي العربي داخل منطقة 48، الذي أعاد بناء نفسه تنظيمياً، بفضل مجموعة من المناضلين والحركات والمجموعات السياسية، وأعاد بلورة مشروعه القومي الحديث بفضل الدور المميز للدكتور عزمي بشارة، يحتفل بذكرى هذه الثورة ليس تقديساً للزعيم الراحل عبد الناصر الذي كانت أخطاؤه كبيرة بحجم إنجازاته. إنما تماهٍ مع روح المشروع التحديثي، الذي نعتقد أننا نحن العرب في الداخل، كمجتمع عربي لا تزال المرجعيات الأساسية لديه العشيرة والطائفة مضافاً اليها الأسرلة. ما كان ناقصاً في مشروع العرب الوحدوي، هو الجمع بين المواطنة والهوية القومية. وهذا ما يقوم به التجمع الوطني بين المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل.

إن الإحتفاء بهذه الذكرى هو مساهمة بترسيخ الوعي بالعروبة الديمقراطية وبالإنتماء القومي كبديل عن الولاءات الأصغر. إن ترجمة ذلك يتم عبر إعادة تنظيم العرب في الداخل كمجموعة قومية من حقها ان تدير شؤونها الخاصة وترسم مستقبلها بما يتفق مع تطلعاتها الجماعية وهويتها القومية والوطنية ومطلب المواطنة المتساوية.

التعليقات