08/03/2008 - 10:13

القمة مكان ومكانة../ د.عصام نعمان*

القمة مكان ومكانة../ د.عصام نعمان*
ما من قمة كانت مثار جدل كالقمة المقبلة. إنها أول قمة عربية تعقد في دمشق، فمن الطبيعي أن تهتم بها سوريا كثيراً وأن تحرص على انعقادها في زمانها ومكانها. لكن، هل من المنطقي أن تضع دولة عربية أو أكثر شروطاً لحضورها؟

لا جدال أن في وسع كل دولة عربية طلب إضافة بند أو أكثر إلى جدول أعمال القمة، كما من الطبيعي دعوة كل الدول العربية للمشاركة في القمة بصرف النظر عمّن يمثلها فيها. لكن، هل يعقل طلب إرجاء انعقاد قمة دورية تَحَددَ مكانها وزمانها سلفاً بدعوى انتظار جلاء مسألة الصراع على السلطة في دولة عضو لتقرير الجهة أو المسؤول الذي سيمثلها؟

لقد أثير الكثير من الشروط والتحفظات في معرض الإعداد لقمة دمشق لكن أمكن، على ما يبدو، تجاوز معظمها على نحوٍ بات انعقادها في زمانها ومكانها أمراً محسوماً. وما كانت الشروط والتحفظات المشار إليها لتثير كل الجدل الذي حصل لولا الظروف والتحديات الصعبة التي تعيشها المنطقة في هذه الآونة، ولولا تدخلات الإدارة الأمريكية في شؤونها. فالولايات المتحدة لاعب إقليمي قديم وقوي في المنطقة بسببٍ من مصالحها واستثماراتها وقواعدها العسكرية فيها، وقد تعاظم دورها وتأثيرها ونشاطها بعد احتلالها أفغانستان والعراق واعتمادها خطة معلنة لتسوية الصراع بين “إسرائيل” والفلسطينيين.

غير أن كل هذه العوامل والمسائل لا يبرر اعتبار بعض العرب القمة مجرد مكان، وأن يكون لخصائص المكان وظروفه دور مقرر وحاسم في انعقادها أو إرجائها. القمة ليست مكاناً وحسب أو مجرد تعبير عنه وفيض منه بل هي، بالدرجة الأولى، تعبير عن مكانة وتجسيد لرفعة ونشدان تفعيل لمستوى عالٍ من التفكير والتدبير. ولعل أحداً لا يجادل في أن ما يتهدد العرب في هذه الآونة من أخطار وتحديات يستوجب توظيف أوفر الجهود وأفعلها لمواجهتها على أعلى مستوى ممكن من المكان والمكانة معاً. فهل تكشّفت مداولات اجتماع وزراء الخارجية في القاهرة عن توجهات على مستوى التحديات والآمال؟

لنأخذ قضيتي فلسطين ولبنان عينتين للدرس والتقرير.

في قضية فلسطين خرج وزراء الخارجية بقرار خطير وطريف في آن واحد: التهديد بسحب مبادرة السلام العربية (النص الحرفي: “لا يمكن ان تظلّ قائمة”) إذا لم تتجاوب معها “إسرائيل” بجدية. مبعث الخطورة عدمُ توفر بديل سلمي من المبادرة اليتيمة، فهل يعني ذلك الخروج بعدها إلى الحرب؟ وهل ثمة خيار جدي عند العرب اسمه الذهاب إلى الحرب؟ أما مبعث الطرافة فهو التهديد بسحب مبادرةٍ غير موجودة، أو لا تعترف “إسرائيل” بوجودها، وعدم وضع مهلة زمنية تتجاوب خلالها “إسرائيل” مع الفلسطينيين تحت طائلة “معاقبتها” بسحب مبادرةٍ لم تكترث لها يوماً.

إن المرء ليحار في تفسير الموقف الباهت الذي اتخذه وزراء الخارجية العرب مما ترتكبه “إسرائيل” من مجازر في قطاع غزة غداة وصول وزيرة خارجية أمريكا إلى “إسرائيل” لشد أزر حكومتها. صحيح أنهم دانوا وسجلوا جرائمها الوحشية “كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لاتخاذ الإجراءات اللازمة إزاءها”، إلا أنهم لم يتخذوا أياً من “الإجراءات اللازمة إزاءها”! إلى متى أجلوا اتخاذ هذه الإجراءات؟ إلى ما بعد تدمير غزة وتهجير سكانها؟ أم أنهم يعتبرون التلويح باعتبار مبادرة السلام العربية “غير قائمة” كافياً بحد ذاته لردع “إسرائيل” عن الاستمرار في ارتكاب جرائمها الوحشية؟

يتبرع بعض وسائل الإعلام العربي بالإجابة عن هذه الأسئلة بالجملة: جرى ترحيل الخلافات والقضايا الحساسة كلها إلى مؤتمر القمة حيث سيقوم الملوك والرؤساء بدرسها وبتها.

في قضية لبنان يتكرر الموقف نفسه تقريباً. فقد أكد وزراء الخارجية على المبادرة العربية التي كانوا أقروها وتمسكوا بها في اجتماعين سابقين وأضافوا إليها بنداً جديداً هو “العمل على وضع العلاقات السورية اللبنانية على المسار الصحيح وبما يحقق مصالح البلدين”، وتكليف الأمين العام البدء بالعمل على تحقيق ذلك. جيد، لكن عمرو موسى كان باشر منذ أشهر تنفيذ مهمته المكلف بها تحديداً، فماذا يمكنه أن يفعل وينجز في الأسابيع الثلاثة التي تفصل الملوك والرؤساء عن موعد انعقاد القمة؟

لئن جاءت قرارات وزراء الخارجية إنشائية وبلا أسنان، فإن الموضوعية تقضي بعدم تحميلهم كامل المسؤولية عما يرزح تحته النظام الرسمي العربي من أثقال وأزمات. ذلك أن تعقيدات الأوضاع في الأقطار العربية المأزومة وسوء تدبير المسؤولين فيها لا يوفر للقادة العرب عموماً هامشاً واسعاً من حرية الحركة ومن إمكانية تقديم حلول أو تسهيلات وازنة لها حيال الأزمات القائمة.

في فلسطين أساء المسؤولون جميعاً إلى وطنهم وقضيتهم بتصديع الوحدة الوطنية والانزلاق إلى صراع محموم على سلطة لا وجود ملموساً لها في ظل الاحتلال “الإسرائيلي”. ورغم المجازر الوحشية التي ترتكبها “إسرائيل” في قطاع عزة، فقد عجز الرئيس محمود عباس عن التزام موقفه المبدئي بقطع المفاوضات والاتصالات مع “إسرائيل” في ظل هجومها الوحشي على غزة. هذا الوضع يطرح بدوره مشكلة أخرى بالغة الخطورة هي وطأة التدخل الأمريكي في الشؤون الإقليمية وانحيازها الفاجر لمصلحة “إسرائيل”.

في لبنان أساء المسؤولون جميعاً إلى وطنهم وقضيتهم بتصديع الوحدة الوطنية والانزلاق إلى صراع محموم على سلطة واهية في نظام متآكل أصبح خطراً على كيان البلد نفسه. ورغم تفجير العصبيات الطائفية والمذهبية وتحوّل البلد ساحة لصراعات إقليمية، ورغم حضور عمارة بحرية أمريكية إلى تخوم المياه الإقليمية اللبنانية لنصرة فريق لبناني على آخر، ورغم كل المساعي الحميدة التي بذلها عمرو موسى باسم جامعة الدول العربية، فقد عجز أركان الطبقة السياسية القابضة في لبنان عن التوصل إلى أسس مبدئية لتسوية نزاعاتهم الفظة على سلطة مجوّفة.

إذ يجد بعض القادة العرب في الأوضاع الداخلية المتردية في الأقطار المأزومة عذراً لمحدودية ما يقترحونه من تدابير علاجية وتسويات ظرفية، فإن مقتضيات المسؤولية القومية لا تبرئ معظمهم من تقصير واضح في هذا المجال. ذلك ان الصعوبات التي تكتنف الأوضاع الداخلية العربية من جهة والتدخلات الأمريكية المنافية للحقوق والمصالح الوطنية والقومية من جهة أخرى لا تحول دون اتخاذ القادة العرب، كلهم أو بعضهم، مواقف سياسية فاعلة تتسم بميزتين: الأولى، البراءة من المصلحة القطرية أو من شبهة الرضوخ للضغوط الأمريكية، والثانية، إيثار المصلحة الوطنية العليا للقطر العربي المأزوم بعيداً من الانحياز لطرف من أطراف الصراع الداخلي على السلطة والنفوذ.

إن تشخيصاً موضوعياً للأزمات الراهنة المستفحلة في فلسطين ولبنان والعراق يؤكد أن السبب الرئيسي الطاغي في كلٍ منها هو انكسار الوحدة الوطنية تحت وطأة تدخلات خارجية وضغوط محلية. من هنا فإن المعالجة الصحيحة للداء المستفحل تكون بالكشف عن التشخيص الصحيح والمباشرة بعلاج جذري اسمه ترميم الوحدة الوطنية وتصليبها بجميع الوسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتاحة. ولعل أفضل وسائل العلاج وافعلها إقناع الأطراف الداخليين المتصارعين على إقامة حكومة وطنية جامعة ومستقلة تكون لها مهمة واحدة محددة هي التوافق على قانون ديمقراطي عادل للانتخاب وإجراء انتخابات حرة نزيهة على أساسه تحت رقابة منظمات عالمية غير حكومية تعنى بحقوق الإنسان والديمقراطية، وبالتعاون مع وسائل الإعلام من شتى الجنسيات والمشارب والانتماءات. بذلك تصنع شعوب الأقطار المأزومة حلولاً لأزماتها وتسويات تاريخية لها بإرادتها ومن صنع أيديها.

باعتماد القادة العرب مثل هذه المقاربة في معالجتهم للأزمات المحتدمة في أقطار عربية شقيقة وصديقة، يبرئون ذمتهم القومية تجاه أمتهم وتجاه الإنسانية ويسهمون، قدر طاقتهم، في الجهود الرامية لمواجهة الأزمات والتحديات التي تعصف بالعرب حاضراً ومستقبلاً.

هل كثير عليهم وفوق طاقتهم اعتماد المقاربة المار ذكرها؟ هل فات الأوان لدرسها واعتمادها في قمتهم القادمة، البالغة الأهمية بمكانها ومكانتها، في تاريخ العرب المعاصر؟
"الخليج"

التعليقات