27/08/2008 - 10:09

جحيم القوقاز وفرسانه الثلاثة../ فيصل جلول

جحيم القوقاز وفرسانه الثلاثة../ فيصل جلول

أيقظ الصراع الدائر في اوسيتيا الجنوبية بين روسيا وجورجيا “شياطين” الحرب الباردة التي يفترض انها انطوت مع ختام القرن العشرين على انتصار كاسح للمعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الامريكية وعلى هزيمة قاضية للمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي المنحل.

وكعادتها لا ترجع “الشياطين” تلقائيا إذ ثمة من يستدعيها ويمهد المسرح الضروري لرجوعها، والواضح ان جورج بوش وميخائيل ساكاشفيلي وفلاديمير بوتين أوقدوا اللهب في جنوب القوقاز ولكل منهم حساباته الخاصة.

الأول رسالي يقود “محور الخير” ضد “محور الشر” بـ”تكليف إلهي” كما أوحى ذات يوم، دفعته مهامه الخلاصية الى احتلال افغانستان والعراق وتغطية حرب لبنان عام 2006 في سياق تغيير الشرق الاوسط بالحديد والنار. ومن غير المستبعد ان يكون قد سمع من الأذن نفسها أصواتاً “سماوية” تدعوه لترسيم علامات الانتصار الغربي في الحرب الباردة على حدود روسيا (عاصمة محور شر سابق مهزوم وكامن) تارة عبر نشر الديمقراطية، وثانية عبر ضم جيران موسكو الى الحلف الاطلسي والاتحاد الاوروبي، وثالثة عبر نشر الدرع الصاروخية في تشيخيا وبولندا على بعد أمتار من الجيب الروسي في كالينغراد، ورابعة عبر إخضاع ما تبقى من يوغوسلافيا السابقة ورعاية استقلال إقليم كوسوفو، ومن ثم بناء قاعدة عسكرية مركزية في البلقان، وأخيراً من خلال العبث بالجمر الكامن تحت الرماد في جنوب القوقاز.

والرجل الثاني في مأساة القوقاز هو ميخائيل ساكاشفيلي فتى “المعجزة” الديمقراطية الجيورجية الأغر الذي حمل ذات يوم وردة “الحرية” الحمراء على رأس تظاهرة اقتحمت برلمان تبليسي وأطاحت ادوارد شيفارنادزه وزير الخارجية السوفييتي الاخير الذي وقع وثائق استسلام الحرب الباردة وتوهم كما غورباتشوف أن الغرب سيكافئه بالحفاظ على ماء وجهه رئيساً محلياً آمناً.

وعلى الرغم من حداثة سنه وتجربته في الحكم فقد ادرك ساكاشفيلي أنه لا يدين ببقائه السياسي لصناديق الاقتراع وانما لمن جاء به من “معهد تأهيل الديمقراطية وحقوق الانسان” في بلجيكا لذا أهمل اعتصام عشرات الآلاف من المتظاهرين امام برلمان بلاده احتجاجا على سياسته، واطاح وزيرة خارجيته السابقة ومنافسته البارزة على رئاسة الدولة، واقفل إذاعتين محليتين انتقدتا سياسته الخارجية المتهورة، وضرب عرض الحائط برسائل التحذير الروسية، واستقبل متفاخراً وحدات عسكرية “اسرائيلية” وأمريكية، واجرى مناورات عسكرية للسيطرة على اوسيتيا وابخازيا الجيبين المحميين مباشرة من روسيا عبر اتفاق ثنائي مع جورجيا، ومن ثم شن حملة عسكرية على أوسيتيا الجنوبية فاجأت بوتين المنهمك في اولمبياد بكين وميدفيديف الذي كان يمضي عطلته الصيفية على شواطئ سوشي.

وإذا كان صحيحاً أن ساكاشفيلي يحتفظ بين كتفيه برأس ملتهب، فالصحيح أيضاً أنه ما كان ليجرؤ على إشعال النار في جنوب القوقاز من دون اتفاق مسبق مع الادارة الامريكية، إلى حد أن ضباطاً امريكيين كانوا يصوبون نيران المدافع الجيورجية الموجهة نحو القوات الروسية بحسب خبراء فرنسيين تحدثوا لإحدى الصحف الباريسية.

والراجح أن الأغراض الامريكية من الحرب الخاطفة في اوسيتيا تنطوي على إضعاف خصوم الرئيس الجورجي عبر تغليب المسألة الوطنية (وحدة أراضي جورجيا) على القضايا الداخلية الشائكة، واختبار حجم ونوع رد الفعل الروسي بعد الإهانة التي أصابت موسكو في قضية كوسوفو، والضغط على الاوروبيين الذين رفضوا ضم جورجيا وأوكرانيا للحلف الاطلسي، وتخويف الدول الشرقية الخارجة من جوف الاتحاد السوفييتي وحملها على طلب الحماية الاطلسية والنهوض مجددًا ضد الكرملين وبالتالي نشر الدرع الصاروخية الامريكية في بولندا وتشيخيا بسهولة فائقة، وأخيراً ممارسة ضغوط مباشرة على الكرملين لاستنزاف طاقاته المكتسبة حديثا دفاعا عن حدود روسيا بدلا من التمدد مجددا في الشرق الاوسط وإفريقيا وكوبا في امريكا اللاتينية. ولعل هذه الاغراض ما كانت جميعها تحت سيطرة وادراك ساكاشفيلي عندما اشعل فتيل حرب القوقاز بل ربما لم يعبأ المعنيون برأيه عندما طلبوا منه اطلاق النار.

الرجل الثالث في حرب القوقاز هو فلاديمير بوتين الناهض ببلاده من خرائب الحرب الباردة والمنتصر بالحديد والنار في حرب الشيشان، والفائز على خصومه عبر فوائض اسعار النفط والغاز التي وفرت له الاحتياط النقدي الثالث في العالم بعد الصين واليابان، والعائد ببلاده رويداً رويداً الى المسرح الدولي مستفيدا من فشل الادارة الامريكية الذريع في الحرب على ما يسمى الارهاب وفي الحروب الخاسرة في العراق وافغانستان ولبنان، ناهيك عن الازمات المستعصية على الإرادة الغربية في دارفور والصومال وزيمبابوي وبيروت وبيونغ يانغ وطهران.. الخ.

لقد أدرك بوتين بعد الصفعة الغربية التي تلقاها في اقليم كوسوفو ان صدقية بلاده على المسرح الدولي قد تعرضت لانتكاسة قوية، وأن أحدا لا يثق ولا يراهن على “قوة عظمى” لا تفلح في الرد على إهانة كتلك التي أصابتها في البلقان.

ولعله بدأ منذ ذلك الحين بتحضير المسرح للرد في اوسيتيا الجنوبية وابخازيا أي في الملعب المحمي من الغرب عموما ومن الولايات المتحدة الامريكية بخاصة، وذلك عبر تصريحات علنية ومؤيدة بقوة لاستقلال الاقليمين (على غرار استقلال كوسوفو) ومن خلال مناورات عسكرية على الحدود الجورجية، وعبر توثيق التعاون مع خصوم الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي في تبليسي للاطاحة به ومع المعارضة الاوكرانية القوية للاطاحة بحليفه وصديقه المترنح فيكتور يوتشنكو.

والراجح ان الادارة الامريكية التي تعي مخاطر اللعبة الروسية في جنوب القوقاز على مجمل نتائج الحرب الباردة في أوروبا وعلى امدادات الطاقة للسوق الاوروبية لم تمنح بوتين الوقت الكافي لتحضير مسرح العمليات كما يشتهي، فكانت السباقة عبر الرئيس الجورجي المتهور الى اشعال النار في القوقاز وبالتالي زج حلفائها الاوروبيين في اختبار للقوة ينطوي بالضرورة على غالب ومغلوب. ذلك هو جحيم البلقان وأولئك هم فرسانه الثلاثة.
"الخليج"

التعليقات