10/04/2009 - 08:19

آفباك".. خطة توسع أم انسحاب؟../ جميل مطر*

آفباك

باكستان، وليست إيران، هي بؤرة اهتمام المسؤولين عن الأمن القومي الأمريكي، واهتمام حلف الأطلسي بتشكيله الجديد وطموحاته الواسعة، ويجب أن تكون أحد بؤر اهتمامنا في مصر والعالم العربي. ذلك لأن باكستان دولة فاشلة ليس فقط بمعايير واشنطن، ولكن بكل المعايير التي تقوم عليها الدولة في العالم المعاصر. إذ إنه حين يكون أكثر من نصف مساحة الدولة وسكانها خاضعين لسلطة أخرى غير سلطة الدولة، وحين لا يوجد فيها، أي في باكستان، جهة واحدة معروفة للخارج كما للداخل مسؤولة عن اتخاذ القرار السياسي، وحين تفشل الأحزاب في التعبير عن حاجات الشعب وآرائه، فتلجأ مختلف فئاته إلى الإضراب أو الاحتجاج أو عقد مسيرات كمسيرة القضاة وغيرهم، وحين تضطر الحكومة إلى تقديم تنازل بعد الآخر تحت ضغط شارع غير منضبط أو منظم، عندئذ تكون توفرت معايير كثيرة للحكم على الدولة بالفشل. أما حين يبدأ المثقفون وعقلاء القوم يفكرون في “خطيئة أو خطأ” كانت أو كان السبب في نشأة الدولة، ويفكرون في أن الدولة ما كان يجب أن تقوم أصلاً، هنا يصبح الحديث عن الفشل مجاملة ويصبح توقع الانهيار مسألة وقت لا أكثر.

***
ترددت في الأسابيع الأخيرة عبارات وردت على ألسنة متحدثين أمريكيين تعبر جميعها عن القلق العميق والخوف الشديد من احتمالات تدهور الحالة في باكستان. قيل عن باكستان إنها الدولة الأخطر والأشد “إقلاقاً” في العالم، وفي 27 مارس/آذار الأخير قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إن هذه الحدود (ويعني حدود باكستان مع أفغانستان) هي الآن أخطر مكان في العالم.

وقال مسؤول آخر إن باكستان مثل بركان لو انفجر الآن لغطى رماده وإشعاعاته السامة مساحة واسعة من العالم المحيط بها. وتنبأ دافيد كيلكالين مستشار الجنرال بيترايوس بأن باكستان يمكن أن تنهار بين شهر وستة أشهر. هذا بالإضافة إلى التصعيد المتتالي في أعمال العنف والاغتيال والتفجيرات، وبخاصة تلك التي تستهدف مواقع دينية لطوائف وأقليات، وتلك التي جرت منذ أيام ضد مقرات الأمن في عاصمة مقاطعة البنجاب.

***
أميل إلى رأي القائلين إن الفشل الباكستاني بدأ مع بداية الدولة. لقد أراد مسلمو شبه القارة الهندية الانفصال عن الهند بالمقاطعات الثلاث التي تعيش فيها أغلبية من المسلمين. ووقع الانفصال ومعها حروب إبادة ذهب ضحيتها ملايين البشر، وتبادلت المقاطعات المنفصلة مع مقاطعات الهند المسلمين والهندوس والسيخ وطوائف أخرى. وعندما اقتربت ساعة إعلان الدولة بحث الآباء المؤسسون عن اسم لدولتهم، ولم يجدوا حتى جاءتهم فكرة استعارة الحروف الأولى من أسماء المقاطعات المنفصلة فتكونت من هذه الحروف كلمة باكستان.

وبعد عام من إعلان قيام “الدولة” مات مؤسسها الأعظم محمد علي جناح فتولى الحكم من بعده لياقات علي خان، ونشأت طبقة حاكمة من عسكريين وبيروقراطيين اعتمدوا لكسب الشرعية على اتهام الهند بالسعي لاستعادة المقاطعات الإسلامية لتقع تحت الحكم الهندي، وظل هذا الاتهام قائماً حتى يومنا هذا، وإن أضيف إليه اتهام أمريكا بالتدخل المستمر بشؤون باكستان.

وفي عام 1958 أي قبل مرور عشر سنوات على إعلان الاستقلال قفز العسكريون بقيادة الجنرال أيوب خان إلى الحكم فانتهت حقبة الحكم المدني (البيروقراطي العسكري)، وبدأت الحقبة العسكرية واستمرت ثلاثين عاماً باستثناء فترة مدنية وديمقراطية حلت عندما وقعت هزيمة الجيش الباكستاني في عام 1971 على أيدي الجيش الهندي ومتمردي البنغال دعاة الانفصال في دولة مستقلة حملت اسم بنجلاديش بعد ذلك، وغضب الشعب وجاء ذو الفقار علي بوتو إلى الحكم، وكان بوتو ذكياً عندما رفع شعارات “شعبوية” تمالئ الفقراء وتدعو إلى إجراء إصلاحات اجتماعية واسعة. رغم كونه هو نفسه من كبار الإقطاعيين الزراعيين وسليل الأرستقراطية العريقة في مقاطعة السند، كان ذكياً ولكن ليس إلى الدرجة التي تجعله يتوقع رد فعل سريعاً وعنيفاً من جانب الولايات المتحدة التي ردت على هذه الشعارات والسياسات بأن شجعت الجيش على القفز مرة أخرى على الحكم بقيادة الجنرال ضياء الحق وبعد عامين كان بوتو معلقاً على مشنقة لاتهامات لم تتأكد حتى الآن.

أما ضياء الحق فقد وقع في ما وقع فيه حكام آخرون في العالم الإسلامي في الوقت نفسه تقريباً، إذ أراد أن يضع لنفسه ونظام حكمه شرعية جديدة يواجه بها خصومه داخل الجيش والنظام وفي الشارع، فقدم الدعم المادي والسياسي لجماعات دينية عديدة وسمح لقوى دينية بأن تقوم بنشاط سياسي، وتصادف في الوقت نفسه تدشين حرب استعد لشنها جهاز المخابرات الأمريكية مدعوماً بدول عربية ضد قوات الاتحاد السوفييتي التي كانت تحتل أفغانستان.

***
ولعب الجيش الباكستاني والمخابرات الباكستانية أدواراً مهمة في هذه الحرب. واكتسبا خبرات كثيرة ونفوذاً هائلاً في دوائر المجاهدين والقبائل الأفغانية. وفي عام 1988 سقطت طائرة ضياء الحق ومات في الحادث، وترك بنازير بوتو ونواز شريف خصمها اللدود يتنافسان على منصب رئيس الوزراء ويتبادلانه حتى عام 1999 عندما عاد الجيش بقيادة الجنرال مشرف لتولي السلطة، واستمر فيها إلى أن قررت الولايات المتحدة، لأسباب تتعلق بالحرب الأفغانية واستمرار تدهور باكستان نحو العنف المسلح والتشدد الديني إجبار مشرف على ترك منصبه، وطلبت من بنازير بوتو ونواز شريف العودة “لاستئناف اللعبة الديمقراطية”.

وبعد عودة بنازير بوتو بأيام انفجرت بها السيارة، بعد أن تأكد للكافة أنها ستحصل على أغلبية الأصوات في أي انتخابات، ويعرض المقربون من زارداري الرئيس الحالي لباكستان وزوج بنازير على ضيوفه رسالة يقال إنها بخط بنازير توصي فيها أعضاء حزبها بتأييد تقاسم زوجها وابنها الذي لم يكن يتجاوز التاسعة عشرة رئاسة الحزب بعدها. ويسود اعتقاد بأن الرسالة مزيفة. وليس هذا بالأمر الغريب على زارداري إذ يقول زواره إنه يكاد لا ينطق بكلمة واحدة يعنيها حقيقة أو يمكن أن يصدقها الآخرون. كانت بنازير تظن في أواخر أيامها أن زوجها قد تحسنت أخلاقه وسلوكياته بعد قضائه ثماني سنوات في السجن وأنه توقف عن الفساد الذي جلب عليه سمعة “مستر 10%”. أما نواز شريف فقد بقي في موقع المعارضة ونظم بنفسه المسيرة الكبرى التي كانت الكلمة الفيصل في الحكم على باكستان كدولة فاشلة.

تسببت المسيرة في أزمة، أو لعلها كشفت عن تعقد أزمة مستديمة. اتضح هذا الأمر من تحقيق قام به الكاتب الأمريكي جيمس تروب جاء فيه ما يثبت أن جهات عدة، داخلية وخارجية، تشترك هذه الأيام في صنع القرار السياسي في إسلام أباد. ويحدد أسماء تباحثت في القصر مع الرئيس زارداري أو على الهاتف وأجبرته على تقديم تنازلات لقادة المسيرة الجماهيرية بالاستجابة لمطالبها. كان هناك في القصر الجنرال أشفق كاياتي قائد الجيش، وترددت على القصر آن بيترسون السفيرة الأمريكية وريتشارد هولبروك مستشار الرئيس أوباما إلى باكستان وهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية.

***
كان واضحاً، ومنذ فترة، أن خطة “آفباك”، أي خطة أوباما التي وضعها العسكريون الأمريكيون ومستشارو أوباما، ستكون لها الأولوية على أي مصالح لطرف باكستاني آخر. إذ إنه ثبت لهذه المجموعة، كما سبق وثبت لرجال الإمبراطورية البريطانية قبل قرنين، أن النصر العسكري الحاسم ضد الأفغان حلم غير ممكن التحقيق، وأن أقصى ما يمكن أن يحققه الأمريكيون وحلف الأطلسي، هو التفاوض مع قبائل وقطاعات من الطالبان “أقل تشدداً”، والسيطرة على منطقة المقاطعات الشمالية الغربية الحدودية تمهيداً لمنحها استقلالاً ذاتياً، وتأجيل أو تجميد كافة الصراعات الداخلية في باكستان أو تهدئتها وعدم السماح بتوريط الجيش الباكستاني في مشكلات فرعية، هذا بالإضافة إلى جهود دبلوماسية مكثفة بهدف التوصل إلى خلق مصالح لإيران وروسيا والهند والصين في تحقيق تسوية أفغانية تسمح بخروج مبكر للقوات الأمريكية، والوعد بتقديم معونات اقتصادية وعسكرية أكبر لباكستان بشرط توفر إشراف أمريكي مباشر على أوجه إنفاقها.

باكستان دولة تسود فيها أنواع شتى من العصيان والتمرد والثورة المسلحة وعصابة الجريمة وفرق تهريب الأفيون الأفغاني، وتتسلح فيها الطوائف وتتمترس القوى الدينية في مساجد بعضها بالأحرى قلاع مسلحة. وتتحكم في كافة ممرات جبالها الشاهقة قبائل ذات مطالب دائمة لم يفلح الاستعمار البريطاني في تلبيتها ولا قوات الأطلسي ولا حكومات باكستان المتعاقبة عسكرية كانت أم مدنية.

وفي مكان ما في باكستان يوجد سلاح نووي لن يكون عسيراً على من يشاء الوصول إليه وسط هذه الأحوال المضطربة والجيوش والأهواء المتصارعة.
"الخليج"

التعليقات