12/10/2009 - 14:57

مكر التاريخ: فارس والروم والعرب اليوم../ عبد الإله بلقزيز

مكر التاريخ: فارس والروم والعرب اليوم../ عبد الإله بلقزيز
كأن التاريخ العربي يستأنف بدءاً أول، يعود إلى الوراء، يجب ألفاً وخمسمائة عام خلفه صنع بعضها القديم لتاريخ العرب شأناً. كأنه إلى أوله البدوي يحن، ولكن من دون معلقات ومروءة وشجاعة وشدة بأس. نحن الآن في أول القرن الواحد والعشرين، نخرج المكان العربي من زمانه، نعيده إلى زمنه الخاص قبل أن يدخل في الزمان الكوني. نحن، الآن، في الصحراء الفسيحة التي لا تنتهي كتلك التي كان يهيم فيها البدو، يظعنون وينتجعون، ويقيمون مضارب الخيام على شبهة ماء أو كلأ شحيح. لا نختلف إلا في القليل الكثير: تاريخهم أمامهم وسيدخلون فيه ويصنعونه بعد حين، وتاريخنا وراءنا أشحنا عنه بالوجوه والعقول ومسنا الحنين إلى ما قبله.

كأننا اليوم هناك، في أمس يتجدد، في جزيرة العرب، بين سادة العصر: الفرس والروم، نمالئ هذا ونحابي ذاك كي نحفظ البقاء. لا بأس من ممالك صغيرة نقيمها على أطراف الامبراطوريات لنحميها من غارات البدو. من نكون حتى نتطلع إلى دور أكبر؟ ما نحن إلا قبائل وعشائر لا تجمعها رابطة إلا رابطة الدم. والدم عندنا ليس مقدساً: يمكن أن يسفك عند الضرورة. ألا نسفكه في الثأر وعند الاقتصاص؟ لا حرمة لدم أحد منا عند الآخر، إن جعنا أغرنا على القوافل والخيام، وإن خشينا غضب كسرى وقيصر، أنزلنا أسيافنا في بعضنا كي يهدأ روع من يتبرعون علينا بالبقاء على حدود الاشتباك المؤجل بينهم إلى حين.

تلك حالنا اليوم مثلما كانت قبل ألف ونصف الألف من الأعوام في عهد التشرد والتفتت والاقتتال والمصير المبهم بين أشداق فارس وبيزنطة العائدتين اليوم إلى المكان والزمان.

في ذلك الإبان قام فينا نبي عظيم، رتق الفتوق، وشق الأفق، وفجر في الناس الينابيع، ليصنع من البدو والقبائل أمة كسرت شوكة فارس والروم واقتحمت الآفاق وذهبت بدعوة التوحيد إلى الأبعد. ليس في المشهد اليوم أنبياء، لعل الشيطان أكثر حرية في التصرف، في نقض ما قام على عصيان ندائه. ها أمة تعود إلى ما قبلها، تتبدد، تنحل إلى قبائل وعشائر وبطون وأفخاذ وطوائف ومذاهب، ها بيزنطة وفارس تحكمان ثانية هذا المزق البشري.

في لحظة من الألف وخمسمائة عام لحظتئذ خرجنا من البداوة ودخلنا في المدنية انتكست الروم وانكفأت وعادت تتخطف بعض ديارنا حاملة صلبانها قبل أن تجلو، ولم تلبث بعد كبوتها الثانية أن نظمت داخلها أكثر واستعادت مما تركنا على أطراف ديارها في الأندلس وصقلية من بعض كنوز العلم لكي تنهض نهضتها الكبرى منذ خمسائة عام.

وفي لحظة من الألف ونصف الألف من السنين، ركعت فارس للفاتحين، أولئك الذين كانت فرائصهم لذكر اسمها ترتعد، والذين منهم كانت تؤلف جنود مرتزقتها لمواجهة غارات البدو. أخذت منا الحرف وعقيدة التوحيد وأصهرت لأئمتنا وأمرائنا وكادت، في لحظة من وهن بني العباس، تحكم ديارنا جهرة بعد أن حكمتها من وراء حجاب. وهاهي اليوم تعود لتأمر فتطاع بعد أن دخلت جيوش الروم إلى بغداد.

وفي أخلاق عرب الزمان الأول نجدة الملهوف واستجابة نداء النصرة ممن سيم خسفاً أو أصابه قرح، ويرتفع التردد في هذا والإحجام إلى مقام العار الذي لا غسل له إلا بالدم.

أما في أخلاق عرب اليوم، فمتسع لخذلان الأخ وابن العم والكيد له إن دعت إلى ذلك الحاجة كما لا شك يحصل اليوم في مصر من الأمصار يسمى فلسطين. أما العار، في عقيدة هذا الزمان، فهو أن تؤخذ قبيلة عربية بجريرة النجدة والنصرة فتغضب الروم.

وكان عالم الأعرابي الأول صغيراً تحده راحلته، لكنه في قصيدته كان أكبر، يتسع لكمية خرافية من المعاني البعيدة، أما عالم أعرابي اليوم، فأكبر من الكرة الأرضية، لكنه في عقله أصغر: ماذا يستهلك، وكم يستهلك؟

بين اللحظتين فروق وتمايزات يضيق بذكرها المجال، لكن التشابه في المشهد مخيف جداً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
"الخليج"

التعليقات