02/11/2009 - 10:55

المثقف والالتزام السياسي../ عبد الإله بلقزيز

المثقف والالتزام السياسي../ عبد الإله بلقزيز

تركت فكرة الالتزام أثراً بالغاً في وظيفة الثقافة وعمل المثقفين، ووجهت مسارهما لرَدح من الزمن المعاصر. ومع أن الفكرة تضرب بجذورها إلى القرن التاسع، وعززتها الماركسية في مطالع القرن العشرين أكثر بإلحاحها المستمر على جَدَل النظرية والممارسة ووجوب صرف الفكر إلى خدمة قضايا الطبقات الكادحة، إلا أن اندفاعتها الأضخم ستكون في النصف الثاني من القرن العشرين، في عصر الاستقطاب الإيديولوجي الكبير بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي (وداخل الغرب بين اليسار واليمين)، وفي عصر الاندفاع الكبير لحركات الشبيبة والحركات الطلابية وانتفاضاتها المدوّية -على مثال انتفاضة مايو 1968 في فرنسا وبعض أوروبا- وللإيديولوجيات السياسية الراديكالية، من تروتسكية وغيفارية ومَجَالسية وعالمثالثية.. إلخ.

وكما كانت الفكرة وجدت تعبيرها النظري والفكري، في النصف الأول من القرن العشرين، في بعض كتابات لينين حول دور المثقفين الثوريين، وفي نصوص فكرية أكثر رصانة لأنطونيو غرامشي حول “المثقف العضوي” و”المثقف التقليدي”، فإنها ستجد تعبيرها المتجدد، في النصف الثاني من القرن نفسه، في ما كتبه جان بول سارتر في معنى الالتزام في خطاب إلى المثقفين.

والفكرة إنما تقرر وظيفة اجتماعية للمثقف تفترض أنها حيّز من حيّزات الثقافة وشكل من أشكال حراكها المفترض. وبمقتضى ذلك الافتراض، لا تكون وظيفة المثقف فكرية أو معرفية فحسب، وإنما اجتماعية: الانشغال بالقضايا العامة، والمشاركة فيها بالرأي والموقف، والانحياز للطبقات الاجتماعية الكادحة أو المهمَّشة، والنضال ضد الرأسمال والسلطة والمؤسسة واللامساواة والقمع.. إلخ.

لا تكتمل صورة المثقف، بل ولا هو يكون أهلاً لَحمْل الصفة هذه، ما لم يستكمل وظيفته المعرفية بهذه الوظيفة الاجتماعية التي تُخرجه من فرديته إلى كينونة اجتماعية أعلى يُدرك فيها صلات المعرفة بالاجتماع المدني والسياسي. بهذه الوظيفة المضافة يولدُ معنى المثقف ولادة جديدة تخرُج به من لحظة “أنا أفكر” إلى لحظة “أنا أمارس”.

ازدهر، في الأثناء وبالتبعة، خطابُ الالتزام في الأوساط الثقافية والفكرية الأوروبية. بعض المثقفين نجح في التعبير عنه بلغة البحث الرصين فطَفِق يتناول بالنقد المؤسسات القائمة (الرأسمال، السلطة، مؤسسات الضبط الاجتماعي، المعرفة بما هي رهان سلطوي، القمع، التهميش الاجتماعي، الثقافة الجنسية السائدة، نظام القيم البرجوازية، الديمقراطية وآليات العزل التي تضمرها، النظام المدرسي السائد، المؤسسات الدينية، المؤسسات الحزبية والنقابية، المركزية الأوروبية والنظرة الدونية الى الآخر)، ويعتبر ما كتبه كلود ليفي ستروس، وشارل بيتلهايم، ولوي ألتوسير وميشيل فوكو، وبيير بورديو، ويورغن هابرماس، ونيكوس بولانتزاس، وناحوم تشومسكي، وجاك ديريدا مثالاً لهذا النوع من التفكير الأكاديمي الرصين الذي استبطن فكرة الالتزام وعبّر عنها بطريقته، وأحياناً على نحو غير موعى به.

ولقد تكرّس في الوعي الماركسي، في القرن العشرين، هذا المعنى لالتزام المثقفين من خلال ما كتبه في الموضوع كل من لينين وتروتسكي وغرامشي وماوتسي تونغ، ومن خلال تجربة هؤلاء في الحياة والنضال وغيرهم (هوشي منه، إرنستو تشي غيفارا..). فلقد رسم لينين في الوعي الجمعي معنى للمثقف الملتزم: أن يكون وسيطاً بين المعرفة والجماهير فينقل للأخيرة وعياً طبقياً يطابق مصلحتها في الثورة. من يؤدي هذا الدور، ينتسب إلى فئة المثقفين الثوريين الذين هم -في “نظرية” الثورة عند لينين- جزء من قوى التغيير الثوري إلى جانب البروليتاريا والفلاحين الفقراء، ومن يخون هذا الدور، فهو مثقف برجوازي صغير معاد للثورة حتى إن لم يقصد العداء أو يخوض فيه. تهذّب مفهوم المثقف أكثر في الفكر الماركسي مع غرامشي، غير أن الذين استعملوا مفهومه عن المثقف العضوي، كانوا -في الغالب- يفهمونه بالمعنى اللينيني للمثقف الثوري.

خرجنا مع سارتر، وخاصة بعد انتفاضة مايو 1968 في فرنسا -من مفهوم الطبقة والثورة الاشتراكية إلى مفهوم الإنسان والتحرر الاجتماعي. وكل الذين انطلقوا من هذا المفهوم العام الجديد للالتزام، وطوّروه فيما بعد، انصرفوا إلى النضال من أجل دعم حركات التحرر الوطني في وجه الاستعمار الجديد، وضدّ العنصرية والميز العنصري، في جنوب إفريقيا، وضد اللامساواة بين الجنسين، ومن أجل التحرر الجنسي، وضد القمع السياسي للحريات، ومن أجل حقوق الأقليات.. إلخ.

وكانت فظاعات العهد الستاليني في الاتحاد السوفييتي، وردائفها في أوروبا الشرقية، قد أسقطت الطوبى الاشتراكية عند كثير من مثقفي اليسار الأوروبي، ودفعتهم إلى الأخذ بهذا المعنى الأوسع للالتزام، وهو المعنى الذي استوعب فكرة النضال ضد التوتاليتاريا “الاشتراكية” واستدمجها فيه وفي جدول أعماله الحركي.

وحين نشأت الموجة الثالثة من الحركات الاجتماعية القائمة على فكرة الالتزام، بدءاً من سنوات السبعينيات، نشأت معادية لفكرة الحزبية ومركزيتها وجَنَحَت للعمل المدني، وهي موجة بناء ما بات يعرف باسم “مؤسسات المجتمع المدني”.

وسواء تعلّق فيها بالفترة الأولى منها، حيث سيطرت الفكرة اليسارية عليها، أو بالفترة الثانية التي سيطرت الفكرة الليبرالية عليها -وجرى احتواؤها من النخب الحاكمة في الغرب وتوظيفها في السياسات الدولية- فإن هذه الموجة أفقرت كثيراً معنى الالتزام الذي ساد لدى سابقتها وسابقة سابقتها.

هذه، بإيجاز شديد، السياقات السياسية والثقافية، الحديثة والمعاصرة، لميلاد فكرة المثقف الملتزم وتطورها في الوعي الأوروبي. وهي، على اختلاف بين محطاتها التاريخية وطبعاتها الثقافية المتنوعة، يجمع بينها جامع في النظر إلى المثقفين ورسالتهم: إنهم رُسُل اجتماعيون ينتدبهم التاريخ وموقعيّتهم في المجتمع لحمل رسالة التغيير والمشاركة مع الناس في تحقيقه.

إن دورهم ليس تفسير العالم وإنما تغييره. وبمقدار ما كانت فكرة الالتزام عظيمة الفائدة بالنسبة إلى فعاليتها وإلى صورة المثقفين، كانت باهظة الثمن على أدوارهم الفكرية والمعرفية والثقافية، فلقد هَبَطَت بالمثقف من معناه كمالك لرأسمال رمزي -هو المعرفة- إلى مجردِ ناشطٍ حركي.. إلى داعية.
"الخليج"

التعليقات