16/11/2009 - 13:01

تطور تاريخي بطيء في الصراع؟../ إلياس سحاب

تطور تاريخي بطيء في الصراع؟../ إلياس سحاب
مع ان المشهد العام للصراع العربي ـ الإسرائيلي يبدو منذ ثلاثة عقود ونيف، اي منذ توقيع اتفاقيات كامب دافيد، مشهداً ساكناً لا حراك فيه، خاصة في مجال العمل العربي الرسمي للأنظمة، السائر وراء المفاوضات كمن يلهث وراء سراب سياسي، فإن إمعان النظر عميقاً تحت سطح الأحداث، الى مجريات الحياة العربية العامة في المجتمعات العربية، كما داخل المجتمع الإسرائيلي، يجعلنا نحس بحراك تاريخي في الصراع، شديد البطء في حركته، لكنه حراك يسير حتماً، ومهما طال به الزمن، باتجاه تغيير المعطيات الحالية للصراع، التي كانت تبدو لنا في كثير من الاحيان وكأنها جامدة لا تتحرك، ابدية لا تتغير.

وأول ما يمكن اكتشافه عند الغوص بالنظرة التحليلية من سطح الاحداث، الى أعماقها، هو تلك الفجوة التاريخية التي تتسع شيئاً فشيئاً، بين وضع الصراع في مجال السياسة الرسمية لأنظمة الحكم العربية، من اقصى المشرق الى اقصى المغرب، ووضع هذا الصراع نفسه في المدى الواسع للبيئة الشعبية العربية، من المحيط الى الخليج.

لقد ورط النظام العربي الرسمي نفسه، وورط معه المنطقة العربية بأسرها، في حالة إلغاء للإرادة السياسية العربية، ولروح مقاومة المخططات الخارجية الزاحفة الى المنطقة، سواء أكان شكل هذه المقاومة عسكرياً أم سياسياً ام دبلوماسياً ام اعلاميا ام ثقافيا، وقبع هذا النظام العربي العام في موقع سياسي جامد لا يتحرك، ولا يفعل سوى توهم ان يأتي حل الصراع، منحة وتعطفا وتنازلا من الحلف الاستراتيجي الاميركي ـ الصهيوني، اي من الطرف الآخر في الصراع.

صحيح ان العقود الثلاثة التي مرت على هذا المسار لم تشهد تحركات شعبية عربية في اتجاه معاكس ومواز في الحجم والقوة لاتجاه الانظمة الرسمية، لكن الشعوب العربية كانت في اسوأ أحوالها في موقف المتفرج غير المقتنع بما يجري في المسار الرسمي للصراع، محتفظاً للحركة الصهيونية ولكيانها الاسرائيلي، بموقع العدو التاريخي سياسياً وثقافياً وعسكرياً وعاطفياً ووجدانياً، ومنتظراً لمسيرة الانظمة العربية الرسمية ان تصل الى الحائط التاريخي المسدود، الامر الذي يدفعها الى واحد من طريقين: اما السقوط بالاهتراء وانتهاء الصلاحية، او التحرك ولو بأبطأ ما تكون الحركة، بحثا عن اتجاه آخر في مواجهة الصراع المفروض والحتمي، والذي لا فكاك منه ولو في منام هذه الانظمة الرسمية.

لنلق نظرة سريعة على المشهد العام للصراع، في سنواته الثلاث الاخيرة، منذ العام 2006 وحتى يومنا هذا، الذي نقترب فيه من نهاية العام 2009.

يجب ان يكون المرء كامل السذاجة السياسية، حتى يقتنع بأن هدف إسرائيل في إطلاق عدوانها الشامل الكاسح على لبنان في صيف العام 2006، كان استرداد الجنديين اللذين اسرهما حزب الله، وذلك على الأقل بدليلين اثنين:
ان الحرب توقفت، ولم تستعد اسرائيل جثث الجنديين الاسيرين الا بعد ذلك، وبالطريقة التي حددها الامين العام لحزب الله منذ البداية (التفاوض وتبادل الاسرى).

ان وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة السيدة كوندوليسا رايس سارعت منذ الايام الاولى للعدوان الى الكشف العلني عن الهدف الحقيقي والمحرك الرئيسي للعدوان الاسرائيلي: «استيلاد شرق اوسط جديد».

كذلك، يجب ان يكون المرء كامل السذاجة السياسية، حتى يصدق ان سبب العدوان الاسرائيلي الوحشي على غزة (2008ـ2009)، كان مجرد الرد على بضعة صواريخ بدائية اطلقت على بلدات في جنوب اسرائيل.

فبين العدوان على لبنان، والعدوان على غزة، اكتملت صورة الشرق الاوسط الجديد الذي كانت تبشر به السيدة رايس، انه شرق اوسط خال من اي نزعة عربية الى المقاومة، بغض النظر عن مدى اكتمال نضج هذه المقاومة. المهم خنق الرغبة في المقاومة، وعدم اعطاء هذه الرغبة اي فرصة، ولو محدودة، بالقدرة على الصمود، حتى لا يستفحل امر رغبة المقاومة هذه، فتلتحم بالوضع الشعبي العربي العام، الذي اثبت على مدى ثلاثة عقود، حتى في أقصى حالات جموده السياسي، عدم اقتناعه النهائي بمنطق الانظمة العربية الرسمية في مسيرة الصراع المفتوح. انه شرق اوسط جديد تتكامل فيه انهزامية الشعوب مع انهزامية الانظمة الرسمية.

طبعا، في مقابل فشل خطة الشرق الاوسط الجديد الاميركية ـ الاسرائيلية هذه، لم يتحول الامر بالضرورة، فورا وآليا، الى ولادة الشرق الاوسط العربي المرجو والبديل. لكن التاريخ يفضل عادة السير بأبطأ سرعة ممكنة، ولا يغير نهجه هذا الا في المنعطفات الثورية الكبرى.

لنلاحظ ايضاً ان فرص تحول مسيرة الصراع ليست مرهونة فقط بالفشل الواضح في كسر ارادة المقاومة (مهما كان مستوى هذه المقاومة)، بل هي مرهونة ايضاً بذلك الجنون المتصاعد المسيطر على قيادة الحركة الصهيونية في إسرائيل، والذي يصر ّخلافاً لرغبة السيد الاميركي، على استحالة تحول الكيان الصهيوني الى جزء طبيعي من هذه المنطقة من العالم، خاصة على صعيد شعوب المنطقة.

إن تضافر هذين العاملين، قد وصل الى نقطة حساسة، يهيأ لي انها بدأت، تحت سطح السياسة الرسمية العامة، تدفع الصراع، وان ببطء شديد، في اتجاه يخرج به تدرجاً من الجمود المسيطر منذ ثلاثة عقود. وهذه الحركة الجديدة، على بطئها، قادرة في مواقع عربية معينة، على إحداث زلازل سياسية تغير صورة الاوضاع، حتى على سطح الحياة السياسية، وليس فقط في أعماقها.
"السفير"

التعليقات