07/12/2009 - 08:22

جدل عقيم حول المضمون الاجتماعي للوحدة../ عبد الإله بلقزيز

جدل عقيم حول المضمون الاجتماعي للوحدة../ عبد الإله بلقزيز
أياً يكن شكل الوحدة العربية المأمولة والأرجح أنه لن يكون اندماجياً: على الأقل في طورها التكويني فإن مما ينبغي إعادة النظر فيه من يقينيات قومية سابقة في المسألة (هو) افتراض مضمون اجتماعي اقتصادي قبلي للوحدة وتوجيه التفكير في شأنها على مقتضاه، فإلا أن هذا النمط من تصورها على مثال بعينه يوقع الآخذ به في ينبغيات مثالية (افتراضية) ويحرف نظره عن الواقعي والممكن، (فهو) يخرج بمسألة الوحدة من فكرة سياسية على نحو ما هو عليه أمرها فعلاً إلى إيديولوجيا وعقيدة.

لا تعود الوحدة العربية، بهذا الحسبان مطلباً حيوياً وقضية مصيرية غير مشروطة، وإنما تنتهي إلى حيث تغدو مشروطة بالقيام على مثال بعينه: منظوراً إليه بما هو المثال النموذجي للوحدة.

وقع الوعي القومي العربي طويلاً في هذا المطب المعياري حين أقام التلازم الماهوي بين الوحدة والاشتراكية، وطفق يرسم هندسة سياسية لها على هذا المقتضى، وخاصة في حقبتي الخمسينيات السبعينيات، ومع أن أنبه المفكرين القوميين (ساطع الحصري، قسطنطين زريق، نديم البيطار).. لم يسقطوا في شراك تلك المماهاة النظرية في ما كتبوه في الموضوع، فإن مناخات تجربة السلطة القومية في مصر عبدالناصر وعراق وسوريا “حزب البعث” وانغماس التجارب الثلاث في تطبيق السياسات “الاشتراكية” في الحقلين التنموي والاجتماعي، أوحى بذلك الاقتران في الوعي بين الوحدة والاشتراكية. ثم لم يلبث دخول الأفكار الماركسية إلى ساحة الفكر القومي أن عزز من فرص رسوخ ذلك الاقتران. وهي حقيقة من اليسر تبينها في كتابات مثقفين عرب مثل ياسين الحافظ، وإلياس مرقص وإلى حد ما عصمت سيف الدولة.

“الصدفة” التاريخية وحدها جعلت من القوميين العرب خاصة في السلطة اشتراكيّي الهوى ومعادين لليبرالية (معاداة الاستعمار والامبريالية منظوراً إليهما بوصفهما ثمرة سياسية لليبرالية، معاداة حقبة الحكم “الليبرالي” في البلاد العربية في حقبة ما بين الحربين، صعود حركات التحرر الوطني والتحالف مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر “الاشتراكي”، تخلف البرجوازيات العربية وضعفها).

وقد كان يُمكن القوميين العرب أن يكونوا ليبراليين كما كان نظراؤهم الألمان والطليان والترك والهنود.. إلخ قبلهم لو كانت ظروف نشأتهم وحيازتهم السلطة مختلفة، كما كان يمكن الفكرة الوحدوية العربية أن تفترض مضموناً اجتماعياً اقتصادياً ليبرالياً أو رأسمالياً للوحدة لو قادت البرجوازيات العربية المشروع القومي كما قادته نظيراتها في أوروبا، أو لو وعت النخب القومية المنتمية إلى الطبقة الوسطى حقيقة التأخر التاريخي العربي التي شدد عبدالله العرودي وياسين الحافظ على وجوب وعيها واستحالة حرق المرحلة الليبرالية باسم الاشتراكية.

كما كان يُمكِنُ الليبراليين العرب، في حقبة ما بين الحربين، أن يكونوا قوميين أو وحدويين عرباً شأن سائر الليبراليين في الدنيا قبلهم. غير أن ضيق أفقهم السياسي وإصرارهم على تقديس الكيانات الوطنية الصغرى وحسبانهم إياها كيانات نهائية، حال بينهم والفكرة الوحدوية العربية.

لا نبغي بهذا أن نذهب إلى القول إن مضمون الوحدة العربية لا يمكن أن يكون اشتراكياً بالضرورة، فقد يتحقق على هذا النحو إن توفرت له الشروط المناسبة، كما قد يأتي عكس ذلك تماماً إن جرت عملية التوحيد في ظروف مختلفة. ومع أن الاحتمال الأكثر رجحاناً، من حيث اعتبار ممكنات الواقع الموضوعي ومستوى التطور التاريخي، ألا تقوم وحدة عربية على قاعدة اشتراكية في الزمن المنظور أو متوسط المدى على الأقل وخاصة إذا كان عليها أن تأتي في سياق اتحادي تشاركي بين مكونات عربية عدة، معظمها رأسمالي البنى والتوجهات.

ليست المشكلة نظرية تتعلق بالحاجة إلى تحصيل إدراك أمثل لعملية التوحيد وللنظام الاجتماعي الذي ستقوم عليه ولو أن هذه الحاجة تقع في باب ما هو مطلوب تحصيله وإنما هي سياسية وواقعية في المقام الأول. ذلك بأن أموراً كثيرة ونتائج متباينة تترتب على نوع نظرتنا إلى هذه المسألة.

فحين يصرّ من يصرّ على أن المضمون الاجتماعي الاقتصادي للوحدة العربية اشتراكي بالضرورة، يرسم للعمل الوحدوي خريطة قوى اجتماعية يضع في نطاقها من يفترض أن مصلحته تقتضي الوحدة، ويخرج من دائرتها من يفترض أن مصالحهم الطبقية تتعارض مع الوحدة.

والشيء نفسه يصدق في الحالة النقيض: أي في حالة التسليم المسبق بأن مضمونها ليبرالي. وفي الحالين، نسيء إلى قضية الوحدة أشد الإساءة، ونتحول بها من قضية أمة إلى قضية طبقات اجتماعية دون أخرى، من مطلب ينبغي أن ينعقد عليه إجماع إلى موضوع منازعة داخلية، من مصلحة عامة جامعة إلى ميدان فسيح لصراع المصالح الخاصة والفئوية.
"الخليج"

التعليقات