10/12/2009 - 14:24

الحزام الشمالي اعتدال من نوع آخر../ جميل مطر

الحزام الشمالي اعتدال من نوع آخر../ جميل مطر
ترفع حكومة “حزب العدالة والتنمية” في تركيا شعاراً لسياستها الخارجية في عبارة مكونة من أربع كلمات “صفر مشكلات في الخارج”، بمعنى أن هدف هذه الحكومة سيكون العمل على تسوية جميع مشكلات تركيا الإقليمية والدولية، وحل كل نقاط الخلاف في العلاقات بين تركيا والدول الأخرى، وأظن أن هذا الهدف في حد ذاته، من دون انتظار ثماره، كافٍ لحشد طاقات منظومة السياسة الخارجية التركية للعمل الجاد وصنع مكانة لائقة لتركيا في الإقليم وفي العالم.

لن أذهب إلى ما ذهب إليه أصدقاء مهتمون أصلاً بتركيا وسياساتها وتاريخها في المنطقة، وأصدقاء حديثو العهد بالاهتمام بتركيا ومستقبل علاقاتها بالمنطقة وهم يتكاثرون هذه الأيام، هؤلاء ذهبوا في تصوراتهم المستقبلية إلى أن تركيا لديها من الإمكانات ما يؤهلها لأن تحتل المكانة الأكبر في الشرق الأوسط متجاوزة مكانة دول عربية كانت قائدة أو رائدة، ودول عربية تصبو للصعود إلى مراكز نفوذ إقليمي، بل وربما يؤهلها لتقليص طموحات “إسرائيل” في احتكار شؤون التوجيه، ولا أقول القيادة، في الإقليم.

يستند هؤلاء إلى سلسلة من التطورات تستحق التأمل لترابطها الوثيق والمتسق وإلى سجل إخفاقات وانحسارات في أوضاع عربية بعينها . الواضح، أمام المتابع الخارجي في أوروبا وأمريكا والصين وأمامنا في الداخل، هو أن حزاماً شمالياً للشرق الأوسط أو ما يشبه الحزام قد أقيم فعلاً وعلى الطريق ليصبح علامة مميزة في تطور الإقليم . إذ إنه بعد أن خطت تركيا خطواتها الأولى في مسيرة تحقيق هدف “صفر مشكلات في الخارج” بتوقيع اتفاقات تعاون وثيق، وفي حالات بعينها تعاون استراتيجي، مع كل من إيران والعراق وسوريا، بدأت تعد العدة لشحن هذا الحزام بطاقة إيجابية تجعله قابلاً للتصديق كقوة جديدة فاعلة.

نعرف الآن أن مفاوضات مد خط أنابيب “نابوكو” للغاز من إيران عبر العراق وسوريا وتركيا نحو أوروبا الشرقية، قد حققت تقدماً كبيراً، وأن أوساطاً كثيرة في الغرب تعيد النظر في حساباتها بالنسبة لاحتياجات الغرب من الطاقة.

يقول اليستير كوكر المحلل الأمريكي في صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور”، إن إقامة هذا الحزام يعني اقتصادياً واستراتيجياً تحولاً له قيمة ومعنى بالنسبة لتوازن القوى الاقتصادي التقليدي في الشرق الأوسط، إذ إنه ينقل بعض الثقل من موقعه الراهن في الحزام النفطي بمنطقة الخليج، أي في مناطق تقع جنوب الشرق الأوسط إلى موقع الحزام الجديد شمال الشرق الأوسط، وهو الثقل الذي لا بد أن يجر في ركابه تغيرات في موازين قوى أخرى في المنطقة بأسرها.

يقترب من هذا التطور تطورات أخرى لعلها وقعت أو تقع مصادفة أو بفعل فاعل أو فاعلين آخرين، ولكنها تسهم في جذب مزيد من الاهتمام الدولي بالشرق الأوسط واحتمالات التغيير فيه.

يحدث مثلاً، أو حدث بالفعل، في لبنان أن اقتربت صفوف سياسية عربية عديدة من بعضها بعضاً، الأمر الذي مهد لتوافق طال انتظاره لتشكيل الحكومة الجديدة. هناك وقعت لا شك تنازلات في مواقف تقليدية شملت تيار النائب وليد جنبلاط والرئيس السابق ميشيل عون والقطاع الغالب التابع للرئيس سعد الحريري وأخيراً حزب الله، الذي تعهد أن يوثق للتغيير الذي حدث في توجهاته بإصداره ما يشبه الإعلان السياسي تولى رئيس الحزب بنفسه تقديمه للرأي العام اللبناني والإقليمي، وعن طريقه يؤكد الحزب استعداده للاندماج في الحياة السياسية اللبنانية والالتزام بحدود العمل السياسي وقيوده، مقابل تأكيدات أطراف أخرى أنها تعتمد علناً أمام الغرب و”إسرائيل” والقوى العربية المناوئة له احتفاظه بحقه في حمل السلاح وتعترف ضمناً بموافقتها على أن يتمتع بالحق نفسه كل اللبنانيين الراغبين في مشاركة الدولة في ممارسة حق حماية الأمة والوطن من اعتداءات “إسرائيل”.

في الوقت نفسه، كانت سوريا تقترب من أطراف لبنانية بعد انعزال، وكانت أطراف لبنانية تقترب من سوريا بعد افتراق، وكانت تركيا، أحياناً من بعيد، وفي أحيان أخرى من قريب، تشجع على الاقترابات المتبادلة وتؤيدها عندما تحدث، بينما كانت يدها الأخرى ممتدة إلى إيران تدعوها للانضمام ببطء إن شاءت، وبتدرج إن ارادت لعب دور في إقامة الحزام الشمالي “المعتدل نسبياً” وتحصين خطوط دفاعه الشرقية.

وأعتقد أن تركيا اعتمدت في اقترابها من إيران، كما اعتمدت عندما اقتربت من سوريا، على واقع اليأس المتراكم لدى شعبي هاتين الدولتين من السياسة الخارجية الأمريكية ومن احتمالات تحسن الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، وهو الموضوع الذي يشكل صلب ما يتحدث عنه فؤاد عجمي المغترب العربي الغاضب دائماً على أبناء جلدته من العرب في مقال نشرته له صحيفة “وول ستريت جورنال” تحت عنوان “توقف العرب عن التصفيق لأوباما”.

يفسر هذا اليأس غير المعلن الذي تقوم عليه السياسة التركية الجديدة في الشرق الأوسط الحذر الزائد من جانب دول عربية حليفة لأمريكا ومعتمدة عليها إقليمياً وداخلياً وشكوكها في نوايا حزب العدالة والتنمية وسياسته الإقليمية الجديدة. هذا الحذر وتلك الشكوك تبدو جلية في تردد السياسة الخارجية المصرية وسياسات دول خليجية في الاستجابة بدفء لمبادرات تركيا في الآونة الأخيرة وانفتاحها على العالم العربي.

* * *

ما كان لتركيا أن تفلح في خطواتها الأولى في المنطقة العربية، لولا أن دولاً عربية انسحبت أو رفضت أداء دور استحق عليها أن تمارسه بالرغم من مشكلاتها الداخلية وقيود معاهداتها الخارجية، بل إن بعضها استمر يحتكر بالمواجهة الكلامية أو بالتستر والانكماش وظيفة تعطيل مسيرة النظام العربي خلال العقدين الأخيرين، وربما أطول.

أعتقد أن الوقت حان ليعلن الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية شهادته عن المرحلة التي نعيش نهاياتها وكذلك المرحلة التي نعيش، ومعنا تركيا وإيران، بداياتها. وفي رأيي، أنه وقد كادت ولايته الثانية تقترب من شهورها الأخيرة، يستطيع بجرأته المعهودة أن يوجه أصابع الاتهام للمسؤولين عن تدهور أحوالنا العربية وانكشافنا أمام جيراننا الأتراك والإيرانيين و”الإسرائيليين”، ويستطيع بشجاعة، وهي أيضا معهودة، أن يصدر أحكاماً وسوف يجد آذاناً صاغية ونوايا صادقة.

نعرف أن بعض العرب جرب خلال السنوات الماضية أفكاراً سربت له، كفكرة الهلال الشيعي، وجرب أو لعله بدأ يجرب الحروب بالوكالة وحروباً بالطوائف في العراق وإشعال التوترات في لبنان وفي مصر وبين مصر والجزائر، وبين العراق وسوريا، ولا شك في أن كل الدلائل تؤكد أن العرب فشلوا في تحقيق إنجاز واحد يحسب للاستقرار الإقليمي، سوى أنهم أثاروا خوف تركيا وإيران من عواقب هذه الحرائق العربية على مصالحهما وعلى أمن الإقليم واستقراره، فما كان أمامهما إلا التعجيل بإقامة الحزام الشمالي كخطوة أولى نحو دور أكثر اتساعاً وتأثيراً .
"الخليج"

التعليقات