16/12/2009 - 09:59

خُرّافية إبريق الزيت../ رشاد أبو شاور

خُرّافية إبريق الزيت../ رشاد أبو شاور
الخُرّافية باللهجة الفلسطينيّة هي الحكاية الشعبيّة، وهي مأخوذة من الخُرافة، والخرافة لا يصدقها العقل، ولكنها حين تُسرد في الليالي للأطفال تكون ممتعة، مشوقة، مثيرة، ففي الخُرّافيات وحوش، وأناس يصارعونها، وتباغتهم حيث لا يتوقعون.

الخُرّافيّات فيها مغامرات مثل ( الشاطر حسن)، وفيها أُخوّة ووفاء ( جبينة)، وفيها الغول والعروس التي اختطفها ليلة عُرسها، وفيها المسافر الذي يقف في مفرق طرق ويقع في الحيرة فلا يدري أيها يختار، لأن واحدتها تأخذ ولا تجيب، وواحدتها لا نهاية لها، و...

في المخيمات لم تكن تلفزيونات، ولا راديوات، ليس غير السامر في الأعراس، وفي الليالي التي بلا أعراس ليس غير الجدّات والأمهات يسردن الحكايات بينما نحن نلتصق ببعضنا من شدّة الخوف، وبمتعة ما بعدها متعة، مستزيدين الأمهات والجدات أن لا يتوقفن عن سرد حكاياتهن المشوّقة.

وهنّ من قبل تعرفن إلى فنّ السيناريو، والمسلسلات، كُنّ يلجأن للإثارة، فيؤجلن الحكايات إلى ليلة قادمة، وهكذا حتى يمسكن بنا، فننشدّ إلى الليلة القادمة، والليلة القادمة ليست ليلة الغد، فهي ليلة لا ينتهي وعدها على طريقة: تعال غدا، فإن جئت غدا يقال لك : الم أقل لك تعال غدا؟ وهكذا...

الحكايا كثيرة، والليالي طويلة، وليالي المخيم شديدة الطول، كثيفة العتمة، اللهم إلاّ في الليالي المقمرة التي يطيب فيها السهر والسمر على عتبات البيوت_ هذا بعد ان تمّ بناء غرف من الطين بأحواش من الطين، لتحمل حياة الطين!

كنت مولعا بسماع الخراريف، وفي ذاكرتي اختزنت حكايا كثيرة، ولكنني بدأت أنسى مع تبدّل الأحوال، وأفول زمن الخراريف والجدّات والأمهات البارعات في الحكي وجذب الانتباه.

كثير من الخراريف فيها حكمة وعبرة تنطبق على أحوالنا الفلسطينيّة والعربيّة الراهنة، وما علينا سوى العودة لقراءتها، لنكتشف بلاغتها، وصلاحيتها لأزمنة كثيرة رغم تبدّل الظروف، وتعقّد الأحوال، وتطورها في زمن التكنولوجيا، وما بعد الحداثة.

قبل أيّام اتصل بي الصديق الدكتور هاني خصاونة، واستفسر منّي عن ( حكاية إبريق الزيت) التي لا أشك أنه سمعها في طفولته، وهذا ما دفعني لحك الذاكرة التي بدت لي منطفئة في بعض مناطقها، فعدت إلى كتب الحكايات الفلسطينيّة: الحكاية الشعبيّة في المجتمع الفلسطيني، وهو كتاب رائد للدكتور عمر عبد الرحمن الساريسي، وكتاب: (احك يا طير) للدكتورين إبراهيم مهوّي و شريف كناعنه، ومن بعد قلت لا بدّ من البحث عن حكاية إبريق الزيت في كتاب الخراريف ( القصص الشعبيّة) للحاجة تودد عبد الهادي والذي حملته معي من بلد إلى بلد، وقد صدر في بيروت عن دار ابن رشد عام 1980 التي أسسها صديقنا سليمان صبح يرحمه الله.

ولأن نصّ الخرّافيّة قصير ـ وهو قابل للامتداد في حركة دائريّة لا تنتهي- وحتى يتذكره من نسيه، أو يقرأه من لم يسمع به من قبل من أبناء أجيال التلفزيون، والكمبويتر، والعاب الفيديو، والانهيار العربي، والانقسام الفلسطيني، فها أنا ذا أنقله للجميع من كتاب الحاجة تودد:

رقم الحكاية 7 في الكتاب، تبدأ هكذا: إبريق الزيت، روتها سيّدة في الخمسين من عمرها. يتحلّق الأطفال حول أمهم ويقولون: خرفينا خرّافية. تسألهم الأم : أخرفكم إبريق الزيت؟
خرفي.
وحدوا الله . لا إله إلاّ الله .
تسألهم : أخرّف والا ما أخرّف؟
الأطفال : احكي.
الأم : أحكي والا ما أحكي؟ أحكي لكم إبريق الزيت؟
الأطفال : يا الله
الأم : يا الله ولا ما يا الله أخرفكم إبريق الزيت؟
الأطفال بضجر: قولي
الأم : أقول ولا ما أقول؟ أخرفكم إبريق الزيت؟
الأطفال : بدناش ( لا نُريد)
الأم: بدناش والا ما بدناش؟ أخرفكم إبريق الزيت؟
الأطفال: أف عاد
الأم : أف عاد والا ما أف عاد؟ أخرفكم إبريق الزيت؟
الأطفال : بدنا ننام
الأم : بدنا ننام ولا ما بدنا ننام؟ أخرفكم إبريق الزيت؟

وهكذا حتى ييأس الأطفال ويغفون باسمين، والأم تلفّ بهم وتدور في هذا الحوار الذي لا ينتهي، في حكاية لها أوّل وليس لها آخر، والتي يعرفونها ويحبون أن يلعبوها مع أمهم، خاصةً وهي تروى في ختام كثير من الحكايات.

الأم تتسلّى معهم، تهدهدهم بهذه الحكاية الدائريّة، التي يشاركون في تأليفها، واستمراريتها إلى ما لا نهاية، والتي تشبه مسرح اللامعقول والعبث!

ما الذي خطر ببال الصديق الدكتور هاني خصاونة حتى يبحث عن تلك الحكاية التي سمعناها مرارا وتكرارا في طفولتنا؟!

في كل حال، لقد أسدى لي خدمة كبيرة، فأنا ككثيرين غيري، مللت من حكاية إبريق الزيت الفلسطينيّة غير البريئة، والتي لا تحكيها الأمهات لأطفالهن، ولكنها فضيحة حوار الطرشان، ووثائق المصالحة، وملتقيات مكّة، وصنعاء، والقاهرة، و...

حكاية غير مسلّية، ولا ممتعة، لا تهدهد نومنا، ولا تبهجنا، ولكنها تنفرنا من كل الذين يدوخوننا بها، متهربين من تقديم الجواب لفكّ لُغز الحكاية الحقيقيّة التي يكتبها الغول الذي يختطف العروس الفلسطينيّة، ويترك دون عقاب، فلا الشاطر حسن يحمل سيفه ويهبّ كما في الحكاية، مناديا على العروس تلك: دلّي لي شعرك لاطول .. فيتسلّق صاعدا إليها بضفيرة شعرها التي تدليها له من نافذة الغرفة التي يحتجزها الغول فيها، حيث يكمن بانتظار الغول، و..يصرعه، ويحرر العروس.

الشاطر حسن حمل سيفا جزّ به عنق الغول، وجماعة إبريق الزيت إمّا مع المفاوضات أو مع الغول، والمزيد من المفاوضات، أو يتوعدون بمقاومة باتت في علم الغيب في حين يواصل الغول التهام كل شيء، لأن هاجس جماعتي إبريق الزيت هي الانتخابات، والإزاحة، فكل طرف من الطرفين يعمل على إزاحة الطرف الآخر ليتاح له أن يفاوض الغول وحده!

الخراريف فيها متعة، وحكمة، وعبرة لمن يعتبر، وحكاية إبريق الزيت كأنما تحكي حالنا الراهن...
الحكاية ليس فيها إبريق ولا فيها زيت...
الزيت الفلسطيني ينزف من أشجار الزيتون التي يقطعها الغول، يسيل دموعا من عيون أشجارنا القتيلة...
فمن يتصدّى للغول! .. من يُنهي هذه الحكاية السمجة عن الحوار، والانتخابات، يحمل السيف كما فعل الشاطر حسن الذي لم ينتظر، لأنه عرف أن الفائز بمحبة واحترام الناس هو من يدلّهم على طريق مواجهة الغول، و..قتله، وإنقاذ العروس .. العروس السجينة التي تصرخ ولا من يُلبي استغاثتها ويصيح حاملاً سلاحه: العينين عينيكي..

التعليقات